تجمد سيدريك في مكانه حتى بدا وكأن عقله أصبح صفحة بيضاء، فأمالت إستيل رأسها قليلًا وسألته بنبرة تبدو وكأنها تمنّ عليه:
“حسنًا، سأمنحك خيارات. امرأة بريئة، امرأة مثيرة، امرأة لطيفة.”
“أظن… أن اللطيفة تعجبني أكثر.”
كان جوابه قد خرج من فمه أسرع مما توقع، فعبس سيدريك. هل كان هذا فعلاً ذوقي؟ وبينما هو في حيرة من أمره، التفتت إستيل وهيتبتسم برضا.
“همم، جيد. اللطيفة إذن؟ ذوقك أغرب مما توقعت…”
“هل سألتِ فقط لتسخري مني؟”
“أوه، بالطبع لا. سأدعها تمر هذه المرة. لكن فكر جيدًا وأحضر إجابة مفصلة في المرة القادمة، فهمت؟”
لكن لماذا عليها أن تهتم بهذا أصلاً…؟ فتح فمه كأنه سينطق بشيء ثم تراجع وبدّل الموضوع.
“على أي حال، لا يبدو أن هناك شيئًا مميزًا هنا.”
كما قال سيدريك، الغابة الجافة بفعل الشتاء لم تكن تحوي سوى أغصان عارية، ولم يكن هناك ما يلفت الانتباه.
حكّت إستيل مؤخرة رأسها وهي تعبس.
“همم، يبدو أنني كنت مخطئة…”
“كما توقعت، لنعد أدراجنا.”
اقترح سيدريك مرة أخرى العودة، لكن إستيل بقيت تنظر أمامها بعينين شاردتين. غريب… أشعر أن هناك شيئًا هناك.
لم تكن إستيل عنيدة بطبعها، لكنها لم تستطع الاستجابة بسهولة لكلام سيدريك، إذ كان شعور داخلي قوي يشدّها نحو الداخل.
هذا الإحساس…
“هل تعرف كيف كنت أعيش براحة في غلاسسيوم؟”
“بخداع السياح ونهبهم؟”
يا له من كلام مباشر! كما هو متوقع من المسؤول عني… يعرفني جيدًا. رفعت إستيل نظرها إليه وهي تومئ بفخر.
“هاها، صحيح. أو، لنسميه بطريقة راقية: السرقة النبيلة.”
“هي نفسها بالنهاية…”
“نعم، نعم. المهم السياح الأغنياء دائمًا يحملون معهم أدوات سحرية، تساعدهم في التدفئة أو تحديد الاتجاهات…”
حتى الأشخاص العاديين إذا امتلكوا أداة سحرية صنعها ساحر يستطيعون التمتع بمزايا السحر. لكن هذه الأدوات باهظة الثمن مما يجعلسرقتها مغرية. أومأت إستيل وتابعت:
“سرقة أداة واحدة فقط كانت تكفيني لأعيش أسبوعًا كاملًا براحة. ومنذ صغري كان لديّ نوع من الإحساس… لا أعلم كيف أفسّره لكنهمتطور جدًا.”
“إحساس؟”
“حتى لو كان الشخص يخفي الأداة عميقًا داخل ملابسه أستطيع أن أشعر بمكانها. وهذه الموهبة هي التي جعلتني… ألتقي بك! في هذاالموقف المثير للشفقة! هاهاها…”
“فات الأوان على التملق. أكملِ حديثك.”
توقفت إستيل قليلًا وهي تنظر إلى عمق الغابة، ثم أشارت نحو الداخل وتابعت:
“أنا أشعر بشيء هناك. والإحساس قوي جدًا. يكاد يكون عشرة أضعاف ما أشعر به عندما أقترب من أداة سحرية ثمينة. لذا إن كانإحساسي صحيحًا فهناك بالتأكيد شيء داخل تلك الجهة.”
ألقى سيدريك نظرة نحو الاتجاه الذي أشارت إليه. كلما توغل الطريق أكثر إن زادت الأغصان المتشابكة وفي البعيد بدا كل شيء مظلمًاوساكنًا.
وبما أن أحد والديه ساحر فقد كان يملك القدرة على الشعور بالطاقة السحرية إلى حدّ ما. أغمض عينيه محاولًا التقاط ما وصفته إستلبـ”الإحساس”. لكنه ما لبث أن فتح عينيه بوجه مرتبك.
لا أشعر بأي شيء.
حدّق في وجهها المليء بالثقة. إن كانت بهذا الإصرار، فلا بد أن لديها سببًا ما. أومأ برأسه وقال:
“حسنًا، فلنذهب. لكن…”
“نعم؟”
“أعتقد أنكِ من يجب أن تقود الطريق. أنا لا أعرف الاتجاه.”
“أووه…”
أنا؟ في المقدمة؟ رغم أنها كانت تتظاهر بالثقة، كانت إستيل تشعر بانقباض من الأجواء الغريبة في الغابة. سيدريك لم يشعر بشيء، لكنإستيل أحست بقشعريرة منذ اللحظة الأولى. لهذا بدأت بالتذمّر له…
نظرت إليه نظرة حزينة، فشعر هو بضغط غريب وسأل:
“لماذا تنظرين إلي هكذا؟”
“رجاءً، لا تسيء الفهم.”
“تفضلي، قولي ما لديك.”
اعترفت بصوت مرتجف:
“أنا… خائفة جدًا الآن.”
'حتى لو لم تقوليها، فهذا واضح.'
أومأ برأسه وأجاب:
“أفهم.”
“أشعر أنني لن أستطيع التقدم ما لم أُدرك أن هناك شخصًا حقيقيًا بجانبي.”
'آه، وماذا تريدين مني تحديدًا؟ '
عبس سيدريك في حيرة.
'لا تقل أنها…'
“هل تحاولين إجباري على الإمساك بيدك؟”
“لا، قررت سابقًا أنه من الأفضل ألا نسرّع الأمور بيننا، لذا ذلك مرفوض.”
كانت ترتجف بشكل يدعو للشفقة. لم تكن تهرع إليه كعادتها، بل تحاول ضبط نفسها… أمر نادر ومثير للإعجاب. رقّ قلب سيدريك قليلًا،وبلطف قال:
“هل تريدين مني أن أتركك تمسكين بطرف ردائي؟”
“أوه، لا، ذلك أسوأ! ماذا لو التفتُّ فوجدت هيكلًا عظميًا يمسك بطرفه؟!”
لم يستطع كتم ضحكته، فابتسم ساخرًا.
' يا له من خيال واسع. '
لكن، إن كانت لا تريد أن تمسك يده ولا طرف ردائه، فماذا إذن؟
وأمام حيرته اقتربت منه خصلة بيضاء طويلة من شعرها تتمايل برقة. ما إن رآها حتى تجهم وجهه وقال:
“ما هذا؟ أبعديه.”
“هل يمكنك أن تمسك بهذا على الأقل…؟”
في البداية، ألقت مزحة خفيفة رغم أنها كانت ترتجف من الخوف. كان على وشك تجاوزها بالضحك، لكنه تجمّد حين رأى وجه إستيل الجاد.
'لا يمكن… أهي جادة فعلاً؟'
“هل جننتِ؟ أمسكي بثوبي أفضل من هذا…”
“ذيل الثوب يُفلت بسهولة. لكن إن حاول أحدهم سحبي وكان شعري ممسوكًا بيدك، ألن يكون من الأصعب انتزاعي حينها؟”
مرّت عينا سيدريك بسرعة على وجه إستيل الشاحب. تم تقييم الوضع بسرعة: في هذا الغابة، صحيح أنه لا يشعر بشيء، لكن يبدو أن هناكبالفعل شيئًا حساسًا للغاية تتفاعل معه هذه المرأة، وقد سلبها عقلها بالكامل، وهو بالأساس غير مستقر أصلاً.
'كانت تتحدث بكل جرأة أمام الإمبراطور، والآن ماذا؟ كم هي جبانة فجأة؟'
دفع خصلة شعرها التي كانت تتمايل أمام عينيه كما لو كانت ذيلًا، ثم تردد لوهلة.
لم يكن لا يزال مرتاحًا لفكرة لمس النساء. لم يكن مصابًا برُهاب اللمس لكنه على مدار سنوات طويلة درّب نفسه على أن “الاتصال الجسدييكون فقط مع زوجتي”، لذا كان يشعر بشيء من الغرابة. لقد ظل يصدّ كل اقتراب وكان غريبًا عليه أن يخفف معاييره أمام هذه المرأةبالذات.
لكن إن كانت نهاية الإمبراطورية على المحك فلابد أن يتعاون.
'حسنًا، لا بأس…'
أغمض عينيه بإحكام وأمسك يد إستيل بقوة.
“تم الأمر. لا داعي لأن نعود من الطريق السهل.”
“هـاه… أ-أمسكت… بيدي…”
نظرت إستيل إلى يدها الممسوكة وهي شاحبة كليًا، تحركت شفتاها كسمكة مذهولة.
شعر بشيء من الضيق.
ألم تكن هي من طلب منه أن يمسك يدها؟ ما الذي فكرت فيه خلال تلك اللحظات القصيرة حتى أصبحت تتصرف هكذا وكأن غريبًا أمسكبها في الشارع؟
لقد اتخذ قرارًا صعبًا ولبّى طلبها فلماذا تتصرف كأنها ضحية تحرش؟ كي لا يُظهر اضطرابه ردّ سيدريك بجفاف:
“أنتِ تحتضنين أي شخص على أي حال، أليس كذلك؟”
“هذا لأنني أنا! أما أنتَ… لا يجب أن تفعلها!”
كان على وشك الرد بانزعاج وهو يعقد حاجبيه لكنه تجمّد فجأة. والسبب كانت الحرارة التي شعر بها في كفها. كم هي صغيرة ورفيعة… بلوناعمة أيضًا؟ أخفى وجهه الذي كاد ينهار بدهشة.
كانت هذه المرة الأولى التي يمسك فيها يد امرأة بهذا الشكل غير رسمي، لكنه تذكّر أن كل ما فعله كان من باب المواساة لا أكثر. ليريحهارفع يديهما المتشابكتين أمامها وقال وكأنه يطمئنها:
“ه-ها نحن قد أمسكنا الأيدي. أنا بجانبك. اتجهي إلى حيث تشعرين.”
“و…واو، أنت تمسك يدي هكذا، بكل بساطة…”
“أعيد وأكرر في هذا النوع من الأمور أنتِ دائمًا تتجاوزينني بكثير. نحن في مهمة لإنقاذ الإمبراطورية لذا لن أسمح لعواطفي أن تُعرقلناولهذا أمسكت بها.”
نظرت إستيل إلى يدها الصغيرة الغارقة في راحة يده الكبيرة وأطلقت تنهيدة خافتة:
'أنا لا أبالي بتفانيك هذا! لكن…! كما لو أني أرقص خطوات حب وفقًا لنبوءة الساحرة العظيمة! هذا مزعج…'
لكنها لم تستطع قول ذلك بصوت عالٍ. بينما كانت متجمدة في مكانها سحبها سيدريك بهدوء ثم تردد قليلاً وقال:
“…لكن بدلًا من ذلك.”
“بدلًا من ذلك؟”
“بيننا… ما حصل الآن… لو التقيتُ لاحقًا بـ‘تلك المرأة’… أتمنى ألا تذكري ذلك.”
تفاجأت إستيل من نبرة صوته الخافتة ورفعت رأسها لتنظر إليه. كان يحدق إلى الأمام دون أن يلتفت إليها، وأذناه قد احمرّتا. فتورطت هيالأخرى في الحرج.
'إنه مجرد إمساك يد! لماذا تأخذ الأمر بهذه الجدية يا رجل؟'
وسط الجو الذي أصبح غريبًا فجأة كادت أن تعض لسانها من الحرج وأومأت بتردد.
“ن-نعم، لن أذكر ذلك…”
'حسنًا، لن أقول شيئًا… لكن إن واجهتها بنفسها، فلا شأن لي.'
وبينما كانت يداهما متشابكتين خطا الاثنان إلى أعماق الغابة التي ازدادت ظلمة.
وبعد حوالي عشرين دقيقة من السير تجمدت إستيل فجأة وهي تشعر كما لو أن دمها يغلي. كان هناك شيء قريب يبث طاقة سحرية هائلة. همست بصوت منخفض لا إراديًا:
“ه-هنا…”
“هنا؟”
“نعم. أعتقد أنه هنا.”
عقد سيدريك حاجبيه بدهشة. ولم لا، فهذا المكان كان أكثر خلوًا من مدخل الغابة نفسه.
ترجمة : سنو
انستا: soulyinl
واتباد : punnychanehe