بروحٍ مفعمة بالحماسة، ابتعدت إستيل عن سيدريك وإيدغار، لكنها وجدت نفسها بعد عشرين دقيقة فقط وسط حشد كبير يحيط بها من كل جانب.
نظرت حولها بدهشة إلى القرويين الذين كانوا يتبادلون الأحاديث والضحكات بمرح.
'ألم يقولوا إنهم منغلقون...؟'
كان تحليل سيدريك صائبًا.
فطبيعة إستيل الاجتماعية لم تكن شيئًا يمكن أن تعوقه مجرد عادات منطقة أو طبع أهلها.
بل كان الأمر بديهيًّا؛ إذ إنها نشأت طوال حياتها في أزقة المدن الخلفية، معتادة على التسلل إلى الاماكن التي يتجمع بها الناس بوجه جريء وكلام لبق، ولديها غريزة لاصطياد أي ثغرة تكسب بها قلوب الآخرين.
'أمر غريب؟ لا، لا يوجد شيء من هذا القبيل. آه، صحيح... كلبنا في الأيام الأخيرة لا يأكل شيئًا! سأجن من القلق!'
'أووه، كلبكم... لا بد أنكم قلقون عليه، فالطعام مهم لينمو بصحة!'
ابتسمت إستيل ابتسامة باهتة وهي تحك خدها.
صحيح أن نجاحها في الاندماج أمر جيد، لكن... لم تأتِ إلى هنا لسماع مشاكل طعام الكلاب.
ومع ذلك، كان الإصغاء إلى الناس ممتعًا على نحوٍ غير متوقع.
فتركت نفسها تضحك معهم حتى التقطت أذنها جملة أثارت اهتمامها:
"الآن وأنا أتذكر... أليس صيد السمك ضعيفًا هذه الأيام؟"
"أجل، ولهذا كان هانز حزينًا."
'صيد السمك قال؟'
أخفت إستيل اهتمامها وهي تحتسي كوب الكاكاو الذي قُدّم لها، بينما ارتفعت همسات الحاضرين.
"نعم، نعم، سمعت أن الشباك التي ألقاها المرة الماضية تمزقت تمامًا."
"والحفيد حزين، لكن الجدّ العجوز يبدو وكأنه غير مبالٍ!"
"ماذا؟ الشباك تمزقت؟ هذا غريب... هل تعيش أسماك قرش في تلك المياه؟"
اتسعت عينا إستيل وكأنها فتاة بريئة لا تعرف شيئًا، فضحك القرويون.
واقترب منها فتى كان جالسًا بجوارها، وأجاب بابتسامة مازحة:
"لا يا أختي. في هذا البحر لا يوجد أسماك قرش. لا جدي ولا جد جدي رآها قط."
"لكن الشباك تمزقت، أليس كذلك؟"
"ربما كانت قديمة وعلقت بالصخور. ليس أمرًا نادرًا."
كان القرويون يعدّون الأمر عابرًا، لكن إحساس إستيل كان يصرخ أن قصة السمك هي الخيط الذي يجب تتبعه.
'منذ متى بدأ الصيد يقل؟'
وقطع الفتى حبل أفكارها بسؤاله:
"صحيح، سمعتِ عن الساحرة العظيمة لأنكِ طالبة تدرسين تاريخها، أليس كذلك؟"
"آه، نعم! هي شخص أكنّ لها الاحترام، لذا كنت أريد زيارة هذا المكان!"
كانت تبتسم ببراءة، لكن ما إن انصرف نظر القرويين حتى تحولت ابتسامتها إلى عبوس داخلي.
'احترام؟ هراء! لو طُلب مني تسمية أكثر شخص لا أحترمه في العالم لكانت هي بالتأكيد... أي احترام أكنّه لأمٍ تخلّت عن ابنتها لتلهو في كل مكان بأعمالها؟'
استفاقت من أفكارها عندما شعرت بيد الفتى تمسك يدها بخفة، وصوته الخجول يهمس:
"أنا أيضًا... أحبها."
"تحب الساحرة العظيمة؟"
سألته مبتسمة.
"أ..."
لكنه لم يكمل، فقد نهضت إستيل فجأة من على الكرسي ولوّحت للحاضرين.
"آه! يجب أن أذهب الآن! كان وقتًا ممتعًا، سأزوركم غدًا!"
"وماذا عن العشاء يا آنسة؟"
"في الواقع، معي رفاق آخرون، وإن واصلتم إغرائي بالبقاء قد أطرق بابكم جائعة! احذروا!"
"هاهاهاها، إذًا على الرحب والسعة!"
بعد وداعهم بأجواء ودودة، رفعت بصرها إلى السماء حيث كان الغروب قد بدأ يلوّن البحر الأسود بدرجات بنفسجية.
'أظن أنني حصلت على بعض الفائدة، حان وقت العودة.'
لكن قبل أن تخطو، وقف الفتى الذي كان بجوارها قبل قليل في طريقها.
رفعت حاجبها باستغراب.
"ما الأمر؟"
"سأوصلك!"
"رائع!"
احمرّ وجهه من فرط السعادة، وسارا معًا باتجاه الزقاق الذي افترقت فيه عن سيدريك قبل قليل.
وخدش بخفة على خده بخجل وهو يسأل:
"ما اسمكِ يا أختي؟"
"إستيل."
"واسم العائلة؟"
لم تجب، واكتفت بضحكة صغيرة وهي تفكر:
'أتريد أن تعرف اسم قاتل المئات قبل عشر سنوات؟ ذاك الرجل أبي... إن نطقت به سأتلقى نظرات باردة فورًا.'
ولتجنب الموقف المحرج، ابتسمت وغيرت الموضوع:
'وأنت؟ ما اسمك؟'
'إيرون.'
"فهمت!"
سارا في صمت حتى قطع الفتى الصمت من جديد:
"أختي."
"نعم؟"
"أنتِ... أجمل من رأيت في حياتي."
أدركت إستيل عندها أن الموقف بدأ يأخذ منحًى غريبًا، لكن ذلك لم يربكها طويلًا.
هاه، مواقف كهذه لست غريبة عنها.
كانت تعرف كيف تغيّر مسار الحديث حتى لا يصبح الجو حرجًا.
ابتسمت بخفة وقالت:
"وتعرف ماذا؟ أنا أيضًا أعلم ذلك!"
"ألا تنوين البقاء هنا وقتًا أطول؟"
سألها بتردد.
"للأسف، أنا مشغولة."
كانت كلماتها كلها رفضًا واضحًا، رغم ابتسامتها الدائمة.
ومع ذلك، تمسّك الأمل في عينيه وسأل بخفوت:
"حتى ولو قليلاً...؟"
"لا."
حينها جاء صوت رجل أجش من الظلام.
التفت إيرون، ورأى عينين زرقاوين تشعان في العتمة، فتجمد في مكانه.
وقف هناك رجل بملامح متجهمة، كأنه قادر على تمزيق خصمه إربًا في أي لحظة.
أما إستيل، فعلى عكس الفتى المذعور ابتسمت بخفة وهي تلتفت نحوه بوجه مازح:
"أتيت لتستقبلني؟ يا للروعة... أوه، ما هذه النظرة القاتلة؟"
تحولت ابتسامتها إلى ارتباك.
'ما به هذا الرجل حتى يفيض وجهه بكل هذه النية في القتل؟'
شعر إيرون بقطرات العرق البارد تسيل على ظهره، لم يسبق أن شعر بهذا القدر من الرهبة.
'هل عليّ أن آخذها وأهرب؟'
لكن قبل أن يتحرك، تقدمت إستيل بخطى هادئة نحو القادم.
اقترب سيدريك منها دون أن يزيح نظره عن الفتى، وسأل بصوت بارد:
"من هذا؟"
"آه، هذا إيرون... هممم..."
وبينما كانت إستيل تفكر قليلًا وهي تميل رأسها جانبًا، تمتمت:
"حسنًا، على أية حال، لا أنوي قبول ذلك... صديق؟"
'صديق؟! هاه، هذا كلام مضحك، لو كنتِ تعلمين من هو أصلًا...!'
ارتسمت على وجه الرجل ابتسامة باردة، وألقى نظرة نحو ايرون. ورغم أن ملامحه لم تتغير، فإن الغضب المتسرب من عينيه كان واضحًا.
أما ايرون الذي تلقّى رفض إستيل السريع، فلم يكن لديه حتى الوقت لاستيعاب ما جرى؛ إذ كان الجوّ القاتل المنبعث من الرجل أمامه كفيلًا بأن يبعثر تركيزه.
مدّت إستيل يدها تربّت على كتف ايرون المرتبك وقالت:
"لا تقلق، إنه ليس شخصًا غريبًا... إنه صديقي."
"هـ- هذا الشخص... صديقكِ؟"
سأل ايرون بحذر وهو يحرّك عينيه هنا وهناك.
"أختي، هل هو... قاتل مأجور؟"
"ماذا؟ ما هذا الهراء... هاهاها!"
انفجرت إستيل ضاحكة وهي تلوّح بيدها نافية، وكأن الفكرة لا أساس لها.
بل ليتها كانت صحيحة! لو امتلك مثل هذه المهارة لكان لديها ما تعتمد عليه قليلًا.
وفيما هي شاردة في أفكارها، مدّ سيدريك يده نحوها، بصوت هادئ لكن فيه نبرة غضب خفيّة، وقال:
"فلنذهب."
"حاضر، حاضر... هيا بنا."
أسرعت تخطو نحوه، ثم التفتت تلوّح مبتسمة لإيرون، لكن في تلك اللحظة أمسك سيدريك بيدها وأنزلها، وكأنه لم يعجبه ذلك، وبدأ يتقدّم صامتًا.
وجدت إستيل نفسها فجأة تمشي ويدها في قبضته، فأمالت رأسها متسائلة:
'ما الأمر؟ هل اعتاد الآن على إمساك يدي؟'
فهي تعرف أن سيدريك إيرنيست ليس من الرجال الذين يمسكون أيدي النساء بسهولة، ولهذا فكّرت ببساطة:
'ربما كان الأمر عن طريق الخطأ!'
'يا له من شخص مضحك! ظلّ يصرخ بأنه لا يحب ذلك، ثم يبدو أنه اعتاد عليه حتى صار يمسكها بلا وعي؟ عندما ينتبه سأحرص على أن أُغيظه جيدًا...'
وهكذا، انتظرت اللحظة التي سيدرك فيها ما يفعل ويترك يدها، لتقول له في سخرية"أوه، ألم تقل إنك لا تمسك أيدي النساء؟"
لكن الغريب أنه لم يتركها.
"أممم... سيدريك؟"
لكنه لم يبدُ وكأنه سمعها، وواصل السير للأمام.
شعرت إستيل باضطراب شديد يملأ رأسها.
هي لا تمانع أن تكون هي من يطلب منه إمساك يدها، لكن أن يكون هو من يفعلها من تلقاء نفسه؟ هذا غير طبيعي.
صحيح أنها بطبعها جريئة، لكن سيدريك...؟ مستحيل.
لماذا يفعل شيئًا لم يفعله من قبل؟
وفجأة خطر لها احتمال متطرف:
'هل هذا ليس سيدريك أصلًا؟'
توقفت فجأة، مغروسة قدميها في الأرض، وأرجعت جسدها إلى الخلف محاولة منع نفسها من المضي معه.
قد يبدو الموقف سخيفًا، لكنها ستفعل أي شيء لتنجو.
عندما توقفت هكذا، توقّف هو أيضًا والتفت نحوها بعبوس خفيف.
"إستيل؟ لماذا لا...."
لكن في منتصف جملته، توقّف فجأة وكأن آلةً تعطلت، ثم أدار رأسه ببطء ليتفقد اليد التي يمسكها.
وحين أدرك الأمر، أفلتها بسرعة وكأنه لُدِغ، وقال بحدة:
"ما هذا؟ أطلقي يدي."
"آه... إذن أنت فعلًا سيدريك."
"ومن تظنين أنني أكون غير ذلك؟"
'ذلك الأسلوب المحافظ الممل الذي يكاد يبعث الجنون... نعم، إنه هو فعلًا.'
لم يدم شعور الاطمئنان طويلًا، إذ عاجلها بنبرة وكأنه يراها مثيرة للشفقة:
"هل أنتِ خائفة مجددًا؟"
"ها؟ ماذا؟ ما الذي تعنيه؟"
"متى أمسكتِ بيدي؟ ما أبرعكِ في الانتهاز."
أصبحت إستيل عاجزة عن الرد أمام نظرة الرجل التي كانت وكأنها تحدق في جبان.
فتحت فمها وأغلقته مرارًا بلا كلمات.
'لا، هذه المرة أنت من أمسكت بيدي...!'
حدق فيها سيدريك بصمت كما لو كان يطلب تفسيرًا، فتمتمت إستيل بذهول:
"ما هذا... هل تمزح؟"
"أمزح؟"
"سيدريك، أنت من أمسك بيدي."
——
ترجمة : سنو
الحسابات صارت تنحذف من الواتباد ، وإذا مالقيتو حسابي لا تلوموني فهذول الكوريين يحذفونها ، فمنشان هيك تعو تيليجرام عامله جروب انشر فيه الروايات ملفات وإذا انحذف حسابي مراح ارجع له.
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
واتباد : punnychanehe
واتباد احتياطي : punnychanehep