قبل نحو ساعة، راح "كرويل" يتفحّص سيفه.

كان يحمل عدة خناجر، ليس على حزامه فحسب، بل حتى على فخذيه، وكأنه يستعد لمعركة لا تهاون فيها. أخرجها وأعادها أكثر من مرة، بعزمٍ ظاهرٍ في يديه. من زاوية الغرفة، كان "سينزر"، تابعه، يراقب بصمت، حتى قال بصوت خافت:

— "هل ستغادر؟"

— "نعم."

— "سألحق بك."

— "لا."

ثم دوى صوت سقوط شيء. وبعد أن أتمّ استعداده، التفت كرويل بوجه خالٍ من التعابير. ذلك التابع الذي رافقه بصمت طويل، كأن وجوده لا يُلاحظ، كان يقف ناظرًا إليه.

كم مضى منذ أن التقيا؟ منذ أن عملا معًا قبل خضوعهما لأوامر الدوق؟ لا شك أن المدة لم تكن قصيرة.

ورغم قلة الكلام، كان كرويل يثق به، ويأتمنه.

ومن هذا، تعلّم شيئًا واحدًا:

— "سينزر."

— "نعم."

— "متى توقّفتَ عن مناداتي بـ(سيدي)؟"

لقد أدرك أن الخيانة لا تقيسها السنين، ولا تبرّرها العشرة الطويلة.

راح يتساءل: كيف وصلت الرسالة إلى الدوق؟ وما إن وسّع تفكيره قليلًا، حتى وجد الجواب.

أغمض كرويل عينيه. جفناه كانا يرتجفان كأنهما ضائعان.

— "منذ متى؟"

أمام الحقيقة، بدا الجواب تافهًا للغاية.

— "آصبحتَ جاسوساً؟"

ابتلع مرارة الخيبة، دون أن ينبس.

لا أحد غير "سينزر" كان يعلم بوجود الرسالة ومسارها. فقد اعتاد مراقبة كرويل من الخلف، في كل حركة.

حتى في تلك المهمة التي شارك فيها كرويل بمسابقة صيد لينقذ ديون هارت، لم يرافقه سينزر، لكنه علم بالتفاصيل، وأبلغ بها الدوق.

ويبدو أنه فعلها مرة أخرى.

— "...هل يهم؟"

رفع سينزر عينيه، والتقت نظراته بنظرة كرويل. كانت نظراته ثابتة، واثقة، بل مقلقة في هدوئها.

— "...لا."

لم يكن الوقت مناسبًا للانشغال بما لا يمكن تغييره. أدار كرويل وجهه وقال:

— "لن أسمح لك بمرافقتي."

— "لكنني..."

صحيح، أنتَ مأمور من الدوق بمراقبتي.

لكن، هل عليّ أن أضع خائنًا إلى جانبي في وقتٍ كهذا؟

— "لن أريدَ أن يكون خائن بجانبي في أمرٍ بالغ الأهمية."

— "..."

— "ولماذا أسمح لك بمراقبة ما يمكنني قتله إن أخفق؟ لا شك أن غيرك يراقبني أيضًا."

— "...حسنًا."

الحرس سيتحرّكون إن حدث شيء مريب.

أومأ سينزر، وتراجع دون اعتراض.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

طَقّ

...

سقط شيء بارد على أنفي.

— "آه... الثلج..."

كان من الصعب تصديق أنه بدأ للتو، فالسماء كانت تمتلئ به، ينهال بغزارة. وعلى عكس نقائه، كنت أشعر أن صدري يحترق سوادًا.

سحقاً... الحرب لن تكون سهلة. هذا الثلج سيُثقل الأرض...

"إلى متى سيجرّني هذا الأحمق؟"

نظرتُ إلى يده التي تمسك بمعصمي. كانت نظرة ضيق، وهو يعلم جيدًا أنني متضايق، لكنه لم يُفلتني، حتى بعدما كنت أصرخ وأقاوم منذ قليل.

لكنني تعبت. ضاع صوتي، وخارت قواي. فاستسلمت، وتبعته... أتذكر ما حدث.

هربنا بالكاد من كمينٍ نصبه الشياطين. تهنا، وواجهنا زمرة أخرى منهم، ورجعنا أحياء بصعوبة.

لا أتذكّر تفاصيل العودة. أطرافي كانت تؤلمني بشدة، وجسدي بالكاد يتحرّك.

أذكر فقط أنهم سحبوني كمن يسحب جثة...

ومع ذلك، عدت.

وصِرتُ بطلًا! كان بطلًا من قبل، لكن...

"تبا... لم أتخيل أن ذلك الطريق كان طريق إمداد."

الشياطين الذين التقيناهم كانوا ينقلون المؤن.

"وعدد الخونة في الداخل يزداد..."

كما هو الحال دومًا، كلما اقترب أحدهم من السلطة، تكاثرت العيون الراصدة والأيدي الخائنة.

الرقابة ستشتد. محاولات الاغتيال ستتكرر.

بل وصل الأمر إلى قطع طريقٍ كان يُفترض أن يكون محطة آمنة... وبلا إذن.

بالطبع يبدو وكأن لا أحد يُصغي... لأنه محض هراء، ومع ذلك، فما زال الأمر ظالمًا. لم أقصد هذا.

وماذا كنت ستفعل بي حين جنّت الكلاب الهوجاء (فصيل ديون) وتسببت في انهيار أرضي؟

أتذكّر تلك اللحظة جيدًا، لأني كنت على حافة الموت. حينها ظننت أن ذلك الوادي سيكون قبورنا.

راودني شيء من التأثر حيال أولئك الفتيان الذين لم يتركوني، أنا الحمل الثقيل المُنهك، بل رافقوني برغم فوضاي وهروبي، يعتنون بي كمن يحرس طيفًا. غير أنّهم كانوا، في الوقت ذاته، على وشك أن يُزهقوا روحي... لذا، لم يكن في جعبتي لهم كلام لين أو شكرٌ عطوف.

لكنه، في النهاية، هو السبب فيما أظنُ أنّه تعافيه السريع، وقدرته على السير هكذا.

ما إن دلفت الكلاب الهوجاء حتى ضجّ المكان بصراخهم وهم يركضون بلا عقل، ممّا يؤكد أن جسده بخير. قيل لي إنّ جسدي لم يصب بأذى جسيم، غير أنّ عضلاتي تمزقت بفعل الحركة المجنونة. سمعت أيضاً أن عظام ساقي قد انحرفت قليلاً عن مواضعها، فكان لزامًا تقويمها من جديد.

وقيل إنّ لِين، الموهوبة فينا، قد وجدت الطريق.

أن تجدي الطريق وتُخضعي الكلاب الهوجاء... لابدّ أنّك تكبّدت عناءً يا سير لِين.

على أي حال.

رفعت بصري، فإذا بي أرى ظلًّا أسود يتقدمنا بخطى ثابتة.

كنت قد انتهيت بالكاد من علاجي، ألتقط أنفاسي في الثكنة المخصصة لي، حين باغتني فجأة، سحبني من مخدعي وجرّني كالتائه في أرضٍ بلا وجهة.

"أي هراء هذا الذي تهذي به؟ قلت إنني لا أريد الإصغاء."

"...."

"...سحقاً لك أيها الوغد."

سحقاً لكرويل هارت.

تفجّرت مشاعري، فشتَمته بكل ما أملك من غضبٍ مكتوم. وإذا بخطاه التي لم تتوقف قط، تتجمّد في مكانها.

"...ديون."

ـ تشانغ! ـ

سرّني أنه أفلت معصمي، لكنه استلّ سيفه.

...قلتُ إنني شتمته قليلًا، فهل يستدعي ذلك كلّ هذا الجنون؟

مشهدُه وهو يقترب، وسيفه في يمناه، وخلفه مدخل السلسلة الجبلية المألوفة، كان مشهدًا لا يُطمئن. تراجعت قليلاً، لكنه اقترب أكثر، حتى بلغني، ورفع يده المضمدة وأمسك بكتفي.

همس بصوت خافت:

"...هناك من يبتغي قتلك."

"هذا كل ما في الأمر...؟"

"إنهم عازمون هذه المرّة. أرسلوهم بقوة تكفي لقتل بطل."

"...."

يسهل قول هذا، كأنها عادة.

ليس فقط أنهم أرسلوا قوة لقتل بطل، بل أرسلوا

كرويل

نفسه؟ لقتلي؟

...جنون.

أعرف براعة كرويل القتالية جيدًا.

أهو يجرّني عمدًا إلى موضعٍ مهجور ليجهز عليّ؟ لقد قطعتُ مسافات طويلة كي أصل، فهل كان كل ذلك عبثًا...؟

أتراه فقد حسّه، أم تراها مسرحية لا أفهم مغزاها؟ كنتُ أنوي أن أنزع يده وأبتعد، لكن، رغم قربي منه، لم أشعر بذرةٍ من نية القتل.

ترددتُ لحظة، فاستدار، ودفع كتفي نحو الجبل.

"اتجه إلى 'ذاك الجانب'."

"...!"

عند عتبة الجبال التي أعرفها، كان كرويل قد عبر مسافة طويلة ليبلغ هذا المكان، ثم دفعني ببطء نحو الطريق.

استيعاب الأمر لم يحتج وقتًا.

"اذهب... ولا تعد."

كان يعلم أنني أتنقّل بين العالم البشري وعالم الشياطين.

لابدّ أنّه فكّر طويلًا. بدا صوته غارقًا في غيمةٍ من شعورٍ غريب، فأدركت أن ترددي السابق ما كان إلا سرابًا.

"أنتَ..."

لكن، وقبل أن أُكمل كلمتي، انطلقت خنجر من مكانٍ ما.

كْرُوِيل، الذي كان سيفه يلمع كوميض البرق وهو يشق الهواء ليصد الخنجر عن إصابة عيني اليسرى بدقة، التفت إليّ بنظرة توحي وكأنه يحثّني على الحركة. حين التقت عيناي بعينيه، وهما نادرتا التعبير، تملكني تردد وخوف مبهم، كما لو أنني أقف أمام شيء لا أعرف كنهه.

لكن... لا يمكنني عبور حدود هذه السلسلة الجبلية هكذا...

فالحدود هنا، يتعمّد كل من الإمبراطور وملك الشياطين إخفاءها. وإن أخطأت، فقد أقود الأعداء إليهم دون أن أدري.

وإن حدث هذا... ألن يقتلني ملك الشياطين؟

تحرّكت بدافع النجاة... لكن قد ينتهي بي الأمر إلى الموت!

ويبدو أن كرويل، الذي كان يحميني، قد عُدّ هو الآخر عدوًا، فالخناجر تتساقط بين رقائق الثلج كالمطر، وإن استهدفتنا معًا، فسنُغرز بها كما يُغرز القنفذ بالأشواك.

حتى موقع السكاكين لم أعد أستطيع تمييزه وسط العاصفة البيضاء.

ضحكت في داخلي.

على أية حال... يبدو أن اليوم هو يوم موتي.

ومع ذلك، فلن أموت عبثًا أثناء محاولة عبور جبل. إذًا، فليكن موتًا ذا مغزى.

رغم أني استطعت الحراك بعد العلاج، فإن جسدي لم يكن مهيأً لخوض معركة. وقفت مكاني، حتى جذبني كرويل فجأة وضرب بسيفه.

كاجا! زفير! صدمة!

...هاه؟

"أنت...!"

لم أشعر بأي ألم. هذا يعني أنني لم أُصب. حركت نظري قليلاً، فرأيت خنجرًا مغروسًا في ذراع كرويل اليمنى، لم أره من قبل.

يده اليسرى ملفوفة بالضمادات، والآن حتى اليمنى...! بدا مختلفًا تمامًا.

ربما فعلها لأجلي، لكن لساني عجز عن النطق بسخرية أو تعجب.

"لماذا...؟"

بدت قطرات الدم المتسللة إلى ثوبه وكأنها حلمٌ بطيء، لونت ردائه بالأحمر وتسللت عبر كمّه. لم أفهم.

كان يمكنه أن يمنع ذلك الهجوم لو كان وحيدًا، بل ربما تصدّى لها جميعًا. إذًا لماذا؟

لماذا أصيب كرويل بدلاً عني؟

ألم يتخلَّ كْرُوِيل عنِّي؟ متى بدأتَ تتصرف بهذا الشكل؟ مُحال...

"لا تفكّر بشأن كذا."

أظلمت رؤيتي.

صوت منخفض شق أفكاري.

"كما اعتدت... برّر الأمور لنفسك، وتغاضَ عنها."

تشااااانغ! آه! فجأة!

صوت المعدن والتقطيع بلغ مسامعي بوضوح، فقد أصبح سمعي أكثر حدة بعد أن حُجبت عيناي. يداه الكبيرتان، المغلّفتان بالضمادات، كانت باردة كجسدٍ لا حياة فيه.

"لكن..."

تحوّل اتجاه جسدي، وبدأ بصري يعود تدريجيًا. كرويل والمهاجمون كانوا الآن على الجانب الآخر من مجال رؤيتي، وكان مدخل الجبل أقرب من ذي قبل.

كرويل، الذي أبقى يده على كتفي من الخلف، قال بنبرة هادئة:

"إن كنتَ ترغب حقًا في أن تفتح عينيك..."

لا تزال أصوات المعركة تدوي في الخلف. صوت طعنة حادة سُمع خلفي مباشرة.

حاولت الالتفات بسرعة، لكن يده شدّتني بقوة. بدلًا من ذلك، جاءني صوته هذه المرة، أكثر هدوءًا، كأنّه يخبرني أنني في أمان.

"لكن قبل ذلك... لتواجه كل ما اِقترفته يداك حتى الآن."

"..."

"والآن اذهب."

أسرع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في اليوم الذي تلطّخ فيه قصر الكونت بالدماء، وكان الجاني ليس إلا أخاه الوحيد... وُضِع كرويل أمام مفترقٍ لا يُرحم.

آثأر بقتل ديون، أم أحميه وقد غدا آخر ما تبقى لي من سُلالتي؟

فاختار كرويل الخيار الأخير.

كان يعلم في قرارة نفسه أن شقيقه الصغير لم يفعل ما فعل إلا تحت وَهْمٍ ما، وأنّ للأمر صلة وثيقة بحرب السنوات الثمان.

في موقفٍ كهذا، إن أنتَ انتقمت بقتل ذلك الطفل، فلن تجني سوى فراغٍ هائلٍ يقضم الروح.

وكرويل، ما كان يملك من الثبات ما يكفي ليمنع سيفه من أن يرتدّ على صدره وسط هذا الخراب.

لهذا، آثر أن يسكب ما تبقى من عمره في حماية أخيه، بدلًا من أن يُزهق روحه حتى ولو حصل على انتقامه.

{في خضم ما كان يجري،}

لقد أدرك لاحقًا أن لِديون سببًا خفيًا في مشاركته في حرب السنوات الثمان.

لكن الأسرة... كانت قد قُضِيت على يديه بالفعل، إذ كان قد أساء الفهم. فكان القرار أن يُخفى هذا السر، لأنّ الصبي إن عرف الحقيقة، فسيُجنّ بالندم، وسيوجّه سيفه يمنة ويسرة، حتى يغرسه في صدره.

{بل أكثر من ذلك،}

علم كرويل أنّ دوق ستايف إلّوستر قد جعل من

ديون

هدفًا.

فتطوع بنفسه ليكون بجانبه، ليشوّه أوامر الدوق ويُفرغها من دمها.

{فما عساي أفعل؟}

صار كرويل هارت الطُعم.

بتوجيه غضب ديون نحوه، صرفه عن أن يتساءل عن دوره في الحرب، وكان كرويل بمثابة المصفاة التي تُنقّي نوايا الدوق، وتحمي ديون من أن يُستهدف مباشرة. وفي الوقت ذاته، كان يُمحى كلّ أثر قد يوقظ الشكوك من حوله.

ربما لهذا السبب، قالت العرّافة ذات مرّة:

[إن شعرت بأنك على شفا الموت، فاقتله، ثم متّ.]

تقبل الأمر.

حين أفارق الحياة، سيعرف الطفل الحقيقة، عاجلاً أو آجلاً.

وكلّنا نعلم ما الذي سيحدث آنذاك... سيثقله الندم، ويشحذ نصل الانتقام، وقد يتحوّل هذا النصل إلى وبال، يبحث لها عن أي رقبةٍ تُذبح، فقط ليُشبع عطش الألم.

لكن...

2025/05/02 · 44 مشاهدة · 1668 كلمة
نادي الروايات - 2025