ـ «إنّ الكونفوشيوس الثاني... شديد الوهن. وهو أيضًا واهن أمام نَزْغَاتِ التوتّر. أرى أن تهيئة بيئةٍ وادعةٍ خالية من القلق أمرٌ لا بدّ منه.» ـ

ـ «الفتى استنجد بي... كان يتقيّأ دمًا. أتعني أنه يفعل هذا لمجرد أن يتعرّض لضغطٍ نفسي؟» ـ

ـ «أجل... هذا صحيح.» ـ

ـ «يا للمصيبة...» ـ

ـ «هل سمعت يا كرويل؟ صغيرنا هذا، يوم وُلد، كسر قلوبًا كثيرة... ويبدو أنه سيُعيد الكرّة كثيرًا في قادم الأيام. ورغم أن ملامحه فريدة، لا يُمكن لأحدٍ أن ينكر أنّه من صُلبنا، وأنه أخوك الأصغر. ونحن، وقد غزانا الشيب، لن نعيش طويلًا. فاحمله على كتفيك، وكن له أخًا وسندًا.» ـ

ـ «نعم، يا أبي.» ـ

ـ «حسنًا... يُقال إنّ الصغار حسّاسون، ولكن إن زدتَ في تدليلهم، غرسوا في أنفسهم أنّهم بلا فائدة، وسقطوا في هوّة العار. لا تُبالغ. اقترب منه، ثم ابتعد، ثم اقترب... دون أن يشعر.» ـ

ـ «أخي... أودّ الخروج من القصر.» ـ

ـ «هذا...» ـ

ـ «أمازحك. لا وقت لديّ لأخرج، فالكتب تملأ وقتي. ما هذا الذي بيدك؟ مكتوب عليه "شطرنج"... أهو الشطرنج الذي ورد ذكره في

دليل قوانين الشطرنج الأساسي

الذي قرأته قبل أيام؟» ـ

ـ «أجل، ظننت أنه قد يكون نافعًا لك.» ـ

ـ «بالطبع، رائع... لقد سئمت القراءة فقط... أوه!» ـ

ـ «......» ـ

ـ «أيّها الأخ... كيف حالك مع السيف هذه الأيام؟ كيف تمضي تدريباتك؟ آخر مرة رأيتك من النافذة، بدا المشهد وكأنه من ملحمة... أرني مرة أخرى، لكن هذه المرة عن قرب.» ـ

ــ لكن... ــ

كيف لي أن أقتل هذا الطفل؟

لا يلزم أكثر من جمع خيوطٍ قليلة، لنُدرك أنه قائد الفيلق الصفري في عالم الشياطين. وقد أُعطي رتبة لا وجود لها أصلاً،

قائد الفيلق الصفري

... فلابد أن حياته هناك لم تكن بالهوان.

ولهذا، قطعت هذا الطريق وجئت.

في عالمٍ تعصف به الفتن والتهديدات، قد يكون العيش وسط الشياطين أكثر أمنًا وطمأنينة من العيش بين البشر.

ذراعي اليمنى، وفيها الخنجر، تتقد حرارة.

كان جليًّا أنّ ما أفعل، إنما أفعل من أجل الصبي... حتى ديون نفسه بدا عليه الارتباك هذه المرّة. فبعينيه الذكيتين، بدا وكأنه أدرك ما يدور، فمددت يدي، وحجبت عنه الرؤية.

ـ «لا تُفكّر...» ـ

ـ «......» ـ

ـ «كما اعتدت... برّر الأمور لنفسك، وتغاضَ عنها.» ـ

ولعلّ ما يُقال، يُشعرني بمرارة في الفم.

لم يطل الوقت حتى كشفت أمرًا آخر. ربّما هو أثرٌ جانبي من الحرب، لكن الطفل لا يذكر إلا ما يُحبّ أن يذكره.

بلغت الحُزن مداه حين علمت أنها خلقت في ذاته شخصيتين، وأن الأخرى، التي تذكر كلّ شيء، لا تظهر إلا عند الحاجة.

كنت آسفًا... نادمًا بحق. كم قاسية كانت الخطوة التي اضطر لاتخاذها؟

لا بدّ أن جسده، المتهالك تحت وطأة الضغط، هو ما دفعه لهذا القرار المتطرّف.

لذا...

لُمْنِي أنا.

لا تثر الشكوك. اعتبر الأمر راحة مؤقتة... لا أكثر.

كان لا يزال يردّي خصومه الذين خرجوا عليه بالسيف، يقطع من يقترب بلا رحمة، بينما عينا الطفل لا تزالان محجوبتين، فبعض الجراح كانت أمرًا محتومًا.

ـ «لكن...» ـ

منذ ذلك اليوم، وأنت لا تُصغي لي. لهذا، أعلم أنك ستكون عنيدًا هذه المرة أيضًا.

ولذا...

ـ «إن كنت مصمّمًا على فتح عينيك...» ـ

فلست أملك القوة لأمنعك.

ـ «"لكن قبل ذلك... لتواجه كل ما اِقترفته يداك حتى الآن.» ـ

هذه... وصيّتي الأخيرة.

لأُعدّ أخي الصغير، الهشّ كغصنٍ غضّ، حتى لا يتهاوى من صدمةٍ لم تُحتسب.

حتى هذه... ربّما كانت أكبر مما يحتمل.

فلعلي كنت أُفضّل له أن يحيا... ويموت، دون أن يدري شيئًا.

فالموت الهادئ... نِعمة، أدركت متأخّرًا كم هي عظيمة.

الخيار بيد ديون.

بصفتي الأخ الأكبر، الذي لا يملك في هذا العالم أخًا سواك... سأكون إلى جانبك في كل ما تختاره من دروب، من الآن فصاعدًا.

حتى وإن كان ثمن ذلك... خراب هذا العالم.

ديون، يا صغيري...

سأحميك، ولو كان في ذلك موتي.

ـ «اذهب الآن.» ـ

عجّل.

مهما بلغت من البطولة، فإن كثرة الأعداء كفيلة بإسقاطك.

كرويل ضحك، وهو يتلقى على ظهره عددًا لا يُحصى من الأسلحة.

...

اضطررتُ أن أشهد موت والديّ... على يد أخي الأصغر.

ولأجل حمايته، أرهنت نفسي لدوقٍ جشع، وسرتُ تحت رايته كالكلب.

تدحرجتُ بين الوحل والدم كي أُصبح "بطلًا" بعد أن وضعت الحرب أوزارها.

خضتُ حربًا من نوعٍ آخر... مع الدوق الذي أراد قتل أخي.

قد يبدو الأمر حياةً مُذلّة، يراها البعض تعيسة، باهتة، لا تستحق الذكر.

لكن كرويل؟ كان راضيًا تمام الرضا.

أليس هو موتٌ نقي... لأجل من يحب؟

نهاية مثالية...

أرجو فقط أن يجد الطفل من يحبّه في عالم الشياطين. وإن لم يجد، فليلقَ الحبّ يومًا، في أي مكانٍ من هذا الوجود.

لا أخشى الموت، لكنّ قلبي يرتجف من فكرة أن تُترك وحدك... في عالمٍ لا مكان فيه لمن يُحبّك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أحمقٌ أنتَ يا كرويل هارت.

حتى لو أغمضت عينيك، وأدرت ظهرك، لن تنجح في الهروب إلى النهاية. ألم يكن قبل لحظة يُدير ظهره كأنه يهرب... ثم يلتفت؟

ديون هارت كان يحدّق في كرويل، ذلك الذي يخوض المعركة وحده، بأسهم وخناجر مغروسة في ظهره، دون أن يظهر عليه أي انفعال. كان أمام جَحْفَلٍ كفيل بإسقاط بطل، لكنه قاومهم جميعًا.

السهام تنهمر، والخناجر تُرمى، والهجومات تتوالى. لكن ما يُثير السخرية... أنّ كرويل، حتى في هذا المشهد الدموي، كان يصدّ الهجمات الموجّهة نحو ديون هارت، لا التي تستهدفه هو.

بيده اليسرى المضمّدة، مدّ كفّه ليحجب أحدها. اخترقت راحته، لكنه انتزع السهم دون أن يهتزّ، وأسقط خنجرًا آخر كان يتّجه نحو ديون. أولئك الذين اندفعوا مباشرة نحو ديون هارت رموا بأسلحتهم الصغيرة من أفخاذهم أثناء مروري، فأصابوا مواضع قاتلة... لذا بدا أن قتل كرويل بات أولويتهم القصوى.

ديون، الذي كان يتحرّك دون ترددٍ مراعاةً لمشاعر خصمه، بدأ يُبطئ، ثم توقف دون أن يشعر، وأمال رأسه في حيرة.

هل لي حقًّا سبب لأفعل شيئًا كهذا؟

أليست هذه الفوضى من صنيعي؟ أليس هو في هذا الموقف... بسببي؟

أُعِيدُ التفكير في الأمر... أليس هو من تخلّى عني في النهاية؟

كنت أظنه يكرهني... يخفي مشاعره تلك تحت وجهٍ لا ينطق بشيء.

استأنف كرويل أفكاره التي انقطعت، ثم توقّف برهة.

«لا تفكّر في الأمر.»

لكن...

«إن كنتَ تصرّ على فتح عينيك، فافعل...

لكن قبل ذلك... لتواجه كل ما اِقترفته يداك حتى الآن.»

ومنذ متى كنت أُصغي إليه أصلًا؟

كنت على وشك تجاهل حديثه والعودة إلى دوامة أفكاري... إلى أن سمعت صوتًا لم أستطع تجاهله:

"والآن هو ميت."

ماذا...؟

استدار رأسي لا إراديًا. ورأيتهم ــأولئك الذين ارتدوا السوادــ يطعنون جسد كرويل الملقى أرضًا، كأنهم يؤكدون قتله.

«هذا الوغد... لم يُصدر أنّة واحدة حتى لفظ أنفاسه. كم قتل هذا الأحمق من الناس؟»

«طالما كان بطلًا، فلنعطِ لموته معنى. رغم أنه... كلفنا كثيرًا.»

هاه...؟

«على أي حال، لا يزال علينا إتمام ما تبقّى من المهمّة.»

وأشار أحدهم نحوي، حيث كنت واقفًا على مبعدة.

ورغم أنني تحركت بشكل انعكاسي، لم أستطع استيعاب ما حدث للتوّ، وكل ما فعلته أنني رمشت بعينين غائمتين لا تستوعبان شيئًا.

هل مات فعلًا؟

لطالما ظننت أنني لن أتأثر لو مات كرويل، بل ربما كنت سأفرح سرًّا...

هاه...؟

هل السبب هو الشك في ما فعله؟

كانت المشاعر تتيه بلا وجهة، عاجزة عن اتخاذ شكلٍ تعبيري واضح. حتى رأسي، ذاك الذي يفترض به أن يصدر قرارات عقلانية، عجز عن التفكير كأن ستارًا أبيض حجبه عن الوعي.

وفيما كنت أحدق بجسد كرويل الممزق، رأيت الباقين من القتلة يتقدمون نحوي، فاستدرت هاربًا.

رغم أن كرويل أباد عددًا كبيرًا منهم، إلا أن من تبقّى لا يزال يشكّل خطرًا. هم صيادو بشرٍ محنّكون، يعملون بانسجامٍ تام، وثقتهم بأنفسهم ارتفعت بعد إسقاطهم لبطل. وحتى أنا... حالتي الآن لا تسمح بقتال، بل تُنذر بالخسارة.

أولًا... أولًا إلى عالم الشياطين...

نعم. لأذهب إلى هناك. لا يهم ما يقوله الآخرون، الأهم الآن هو النجاة.

أجبرت قدمي على الركض. وحين سمعت وقع المطاردة خلفي، أسرعت أكثر، أركض بكل ما أملك من قوة.

بدت لي أصوات الأسلحة تُرمى من خلفي، لكن بسبب المسافة والثلج الذي يهطل من الأمام، لم تصبني إلا قلةٌ منها.

لكن... لم يكن الأمر خاليًا تمامًا.

طَق!

انكسر العقد السحري الذي منحته لي "ليرينيل". وهذا وحده دليل على أن من بين الهجمات ما كان قادرًا على قتلي.

تجاهلت الأمر، ومضيت أركض.

كان من حسن الحظ أن الثلج تساقط. فقد ساعدني برده القارس على استعادة جزء من وعيي.

──لا، لم يكن "حظًا"...

بمجرّد أن بدأ رأسي يستوعب ما جرى، اجتاحتني المشاعر كمدٍّ عارم.

ولم أدرِ أنني أبكي... إلا حين أخذت الرياح الباردة تجرح وجهي، وتسلب الدموع التي سالت على وجنتيّ.

ما هذا... بحقّ الله...!

لقد فقد مطارديَّ أثري منذ مدّة، والثلوج طمست الآثار... لكنني لم أكن أعلم، وظللت أركض. حتى أن الثلج ابتلع قدميّ حتى الكاحل، ومع كل خطوة كنت أستنزف طاقتي، لكنني لم أشعر بشيء، فقط أردت الهروب.

«كح!»

تقطّـق.

انبثق الدم من فمي. وتلوّن الثلج الأبيض بأحمر داكن، كأن أزهارًا نَمَت فيه من الموت.

كان ذلك متوقعًا. فمع الصدمة الجسدية، والاهتزاز النفسي، والبرد القاسي، من الطبيعي أن ينهار الجسد.

وفقط آنذاك... توقّف ديون، أدرك أن المطاردة انتهت.

لماذا؟ لِماذا؟

أيها الوغد كرويل. أيها الأبله كرويل.

إن كنت لا تريدني أن أفكّر، فلمَ تركت خلفك ما يُثير الشكّ أصلًا؟

لا تفكّر؟ تغاضَ عن الأمور كما تفعل دائمًا؟!

«هاها... لم أتخيل أبدًا أن ترتدّ عليّ كلماتي التي ألقيتها ذات يوم في وجه أولئك المجانين! آه! تبًا!»

الدم يتقطر من ذقني، والعينان تغمرهما الدموع حتى صار بياضهما مخضّبًا بالدم. لم أرمش، لكن خدّيّ امتلأتا بآثار دموعٍ لا أعلم متى سالت.

لقد متّ لأجلي، أمامي، بأمّ عينيّ... والتناقض الذي لطالما ظننت أنه "الحقيقة" تمزّق كوشاحٍ مهترئ أمامي. أتظنّ أنني سأضحك بسذاجة، وأمضي متجاهلًا كلّ شيء؟!

تجاهل؟ لا مبالاة؟ حتى لذلك حدود!

أنا من أولئك الذين يعلمون... ويدفنون. سواء بالتجاهل... أو التبرير.

ارتسمت على شفتيّ ابتسامة مرتجفة.

لكن... نعم، بما أنّك بذلت حياتك لأجلي، فلا بأس أن أستمع لوصيّتك الأخيرة.

قلتَ إنه إن أردتُ الحفر في الحقيقة، فعليّ أن أواجه ما فعلته حتى اليوم. وهذا ليس صعبًا.

أنا أعلم كل شيء... منذ البداية.

لكن، مؤخرًا... وصلت إلى الحدّ.

بعد أن حطمت الحرب ما تبقّى من نفسي، لم أعد قادرًا على دفن الذكريات التي تنهض من قبورها، ولم أعد أستطيع التظاهر بالجهل.

لذا... تركت السدّ يتشقق وينهار، متذرعًا بوصيّتك.

وبمجرّد أن توقّفت عن المقاومة، مرّت الأيام...

وانهار السدّ الذي بنيته طيلة عشر سنوات.

الذكريات التي تجاهلتها تدفّقت، والمشاعر القديمة استعادت هيمنتها.

وأدركت أنه، رغم أن هذا القرار جاء بعفوية، إلا أنه وُلد من وعيٍ مختلف. لقد كبرت... لم أعد الطفل الذي كنته آنذاك.

«هُووك... هِيك... كَاك...»

لا أستطيع... التنفس.

رأسي يكاد ينفجر، وجسدي لا يطاوعني. تعثرت وسقطت على الثلج.

البرودة أيقظتني، لكن للأسف... أيقظتني أكثر مما ينبغي.

«آخ آخ آه... آه... آه... آه...»

الوعي، وقد عاد، صار آلة تعذيب. يعيد عرض المشهد كأنّه كابوس لا ينتهي. وأشعر كما لو أنّ مئات الخناجر تغرز نفسها في دماغي.

رأيت المشهد يمرّ أمام عينيّ، واضحًا، صارخًا، حيًّا... حتى تمنّيت أن أفقأ عينيّ.

«آآآآآآآآآآآآآآآآآه!!!»

اختنقت، كأن المشاعر تريد خنقي، فقبضت على يديّ المتجمّدتين، وجعلت أضرب الأرض، مرارًا، حتى سمعت العظام تنكسر.

«ديمون!!!»

وحين تردّد صوتٌ شبابيّ أخير... فقد ديون هارت وعيه.

2025/05/03 · 51 مشاهدة · 1700 كلمة
نادي الروايات - 2025