تساقط الثلج دون توقف، كما لو أنه لا يعرف التعب.
وصل ديون هارت إلى بوابة قصره، يسرع في مشيته تحت العاصفة الثلجية، دون أن يُكلف نفسه عناء إعادة غطاء رأسه الذي سقط إلى الخلف تحت وطأة الثلج الكثيف. ومن بعيد، لمحني واقفًا عند البوابة، فتوقف فجأة.
"المركيز قد عاد؟!"
لم يتمكّن الحارس من إتمام عبارته.
ركبة ديونهارت خارت فجأة، وخرّ على ركبتيه كما لو أنه تهدّم من الداخل. لم يكن الأمر موجهًا لأحد، بل جسده لم يعد يقوى على الاحتمال.
رغم معرفتي بالأمر، شعرت بالحرج. تقدم أحد الحراس بخطوات مترددة ليسنده، لكن "ريممبر" – الذي لم يُعرف متى خرج – تجاوزه واقترب بهدوء.
"مولاي المركيز."
قالها الخادم العجوز بصوته المعتاد، جاثيًا بدوره على ركبتيه، إذ لم يجرؤ على أن ينظر إلى سيّده من الأعلى.
صوته كان هادئًا، لا يحمل شيئًا مميزًا، لكنه على الرغم من ذلك، بثّ في القلب قلقًا غريبًا.
"هل تسمعني؟ استفق، الطقس بارد."
"...ريممبر."
"سآخذك إلى القصر، فاعذر وقاحتي."
مدّ يده ليسنده، لكنه توقف لوهلة، حين شعر بحرارة غير متوقعة تفوح من جسد المركيز. تجاهل الأمر وتظاهر بعدم الانتباه، لكن محاولته أُحبِطت حين أمسَك ديون هارت بكتفيه، وتشبّث به كالغريق.
كانت يداه البيضاء المرتجفتان تقبضان على كتفيه بشدة مؤلمة. الارتجاف الذي بدأ من اليدين، سرى إلى سائر الجسد، حتى صار يهتزّ بالكامل.
تكررت النداءات المذعورة، كنحيب طفل يتشبث بآخر بالغ حوله:
"ريممبر... ريممبر...."
"نعم، مولاي."
"أنا...!"
خرج صوته مخنوقًا، لا يُدرى أهو بكاء أم صراخ.
ظننت أن روحي قد تحطّمت كفاية في قصر ملك الشياطين، لكن يبدو أنني كنت مخطئًا.
المفارقة المضحكة أنني بدأت الآن فقط أفهم.
"لقد قتلت عائلتي."
قتلتُهم، أولئك الأبرياء، وتركتهم يموتون.
ربما كانت حرارة الجسد، أو تراكم المشاعر التي لم يعد في القلب متّسع لها، لكن بصري بدأ يتشتت، وأفكاري تقفز من موضع إلى آخر.
الآن، فهمتُ لما سألت الإمبراطور "لماذا؟" في ذلك الحين. كنت أبحث عن مبرّر.
لم يكن شعور خيانة تافه، فأيّ أحمق يعوّل على ملك يفترض أن يكون للجميع؟ لم يكن "ديون" ليفعل.
فقط...
"لو قال إن أحدًا دفعه منذ البداية."
اعتراف الإمبراطور يعني الموافقة على أفعال الدوق، الذي أُوحي إليه من قبل ملك الشياطين.
بعبارة أخرى، كان الأمر كله مخططًا بدقّة منذ البداية لاستغلالي.
"ما أتعسني!"
ثمة فرق بين أن تستغل موقفًا تصادف وجوده، وبين أن تصنع الموقف عمدًا من البداية كي تستغل شخصًا.
مشاركتي في "حرب الثماني سنوات"، وكل ما عُدّ من بطولات... كنت أظنها مصادفة، فاخترت إفناء عائلتي ومضيت في طريقي.
"أيّ حياة هذه التي عشتها؟"
لعلها لم تكن قراراتي أصلًا... بل رغبة أحدهم.
بردت أطراف أصابعي.
وحين بدت حالته على وشك الانهيار، توقّف "ريممبر" عن المراقبة، وربّت على ظهره بيد، في حين وجه الأخرى نحو مؤخرة عنقه، ثم...
بَك
"...!"
وسط ذهول الحراس، أُغلقت عينا ديون هارت ببطء.
وفي لحظة، أسند "ريممبر" جسده المترنح، ثم التفت إلى "دان" الذي كان يراقب من بعيد:
"خذه إلى غرفته."
"...حاضر."
رغم الارتباك البادي في عينيه، اقترب بخطى سريعة، وحمل ديون هارت بين ذراعيه.
تابعه "ريممبر" بنظره حتى دخل القصر، ثم التفت إلى الحراس الذين بدوا مذهولين مما رأوا.
...لا يزال هناك عمل ينبغي إنجازه. كيف يتجرأ أن يبكي في العراء هكذا؟
"أنتم... لم تروا شيئًا اليوم. أتفهمون؟"
"ن-نعم، بالطبع!"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حبس ديون هارت نفسه في غرفته. لم يذق الطعام.
الطعام الذي تركه "ريممبر" عند الباب بعناية، ظل كما هو حتى جفّ، ولم يُمس، واضطر إلى جمعه لاحقًا. وفي الأوقات التي سُمع فيها صوت تحطم شيء داخل الغرفة، كانت أجواء القصر تتجمد، وكأن الجميع يسير على كفّ عفريت.
لقد بلغ به الأمر حدًّا جعله يخنق نفسه، أو يوجّه شيئًا حادًا نحو جسده، وكان على "ريمنبر" أن يقتحم الغرفة مرارًا لينقذه من نفسه.
وهكذا كان الحال اليوم أيضًا.
"مولاي المركيز، أليس هذا كافيًا؟ كفّ عن إيذاء هذا الشيخ العجوز، وتوقف عن هذا العبث."
"هاه هاه-"
ما إن وصله نداء من أحد الخدم المرافقين لديون هارت، حتى أسرع "ريممبر" واقتحم الغرفة، ليمنع سيّده من غرس قطعة زجاج في ساعده.
جسد ديون الواهن، المنهك من الجوع والعطش، لم يقدر على المقاومة، فسقط عاجزًا بين يدي خادمه.
"مولاي..."
يعرف "ريمنبر" أنه لا يقصد قتل نفسه، وأنه يحرص على ألا يمسّ موضعًا حيويًا، لكنه كخادم مخلص، لا يستطيع أن يبقى ساكنًا وهو يرى سيّده يجرح نفسه أمام عينيه.
انتزع قطعة الزجاج الحادة من يده، وزفر تنهيدة مسموعة.
"هذا العجوز لا يعلم ما الذي رآه مركيزه، ولا ما الذي خَبِره أو تعلّمه..."
"لكن لا يمكننا الاستمرار بهذا الشكل. هو لا يريد أن يموت أصلًا."
لا يعلم "ريمنبر" ما الذي أبقاه متعلقًا بالحياة.
ربما الحقيقة التي كشف عنها، أو مشهد ما رآه، جعله يتمنى الموت، لكنه لم يستطع أن يقبل به.
"فلتصحو إذًا... عليك أن تعيش."
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان "دان" واقفًا في الردهة، يشهد هذا كله بصمت من خلف الباب المفتوح.
الهيئة التي بدا عليها ديون هارت، المُنهار والمفتّت من الداخل، كانت صادمة بحق.
"لقد جئتُ لألاحق كارثة."
أيّ وجه من وجوه هذا الرجل هو الكارثة؟
كنت أظن أن صدمة نفسية ستكشف عن مظهرها الحقيقي، لكن ديون هارت الآن ليس سوى إنسان ضعيف، تنهشه العواطف من كل جانب، ولا أثر لما يسمّى بـ"الكارثة".
"هل أخطأتُ في حكمي؟"
رأسي امتلأ بالشكوك.
في هذه الأثناء، كان "ريممبر" قد ألقى بجسد ديون المتعب على السرير، ثم أغلق الباب بهدوء وخرج.
لكن "دان" ظل واقفًا، متيبسًا في مكانه، حتى اضطر "ريممبر" أن يدفعه جانبًا لينبهه للمغادرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لكن الحيرة لم تدم طويلًا.
فقد أثمرت كلمات الخادم، وبعد أيام قلائل، خرج ديون هارت من غرفته.
"خرجتَ أخيرًا؟ أما زلت ترفض أن تستريح؟"
"..."
مرّ ديون من أمام "ريممبر" الذي أبدى قلقه على صحته، وتوقف أمام "دان".
وجهٌ شاحب، وهالات سوداء عميقة، وجسد يبدو كمن فقد جزءًا من وزنه مع روحه. الجو المحيط به كان مختلفًا تمامًا، وكان وجهه خاليًا من التعابير، حتى أن "دان" تراجع خطوة دون وعي.
ثم مال برأسه قليلًا، وكأنه يريد قول شيء:
"مولاي المركيز...؟"
"..."
لاحظ "ريممبر" التوتر بين الاثنين، فأسرع إلى غرفة قريبة تصلح لمحادثة خاصة، وقادهما إليها.
حين انفردا، ظل "دان" يتلفّت بتوتر قبل أن يكسر الصمت أخيرًا:
"أنا... أشعر أنني بحال جيّدة..."
"ما أنا بالنسبة لك؟"
"..."
قالها ديون هارت، وهو يحدّق في "دان" بصمت.
"لِم تتبعني؟"
هو يعلم أن "دان" يتبعه لسببٍ ما. بل سمعه ذات مرة يقول إنّ الشخص الذي يسعى لأن يصبحه، ليس شخصًا لطيفًا، بل عنيفًا وخشنًا.
لكنه لم يعرف قط الدافع الحقيقي. لذا قرر أن ينتظر الإجابة، علّه يجد فيها القرار الذي يبحث عنه.
سكت "دان" قليلًا، وهو ينظر إلى عينيه الغائرتين.
لقد تعلّم الكثير بعد أن تبعه... بل واكتشف أن لديه موهبة في الحديث.
كان بإمكانه أن يصوغ جوابًا مقنعًا مغطّىً بالبلاغة، لكن...
... لم أشأ أن أفعل.
"الشخص الذي دمّر حياتي."
قالها بصراحة مجرّدة.
ثم ابتسم ابتسامة هادئة، حين رأى ديون هارت يصمت بدهشة، وقد أربكه الجواب غير المتوقع.
"وأيضًا... الشخص الذي سيحقق هدفي، بل هو الهدف بحد ذاته."
أنا أكرهك، لكنني في الوقت نفسه معجب بك.
أنا أعرف أنك لست مذنبًا. أعرف تمامًا أن الخطأ كان من تلك الجدة العرّافة، ومن أولئك القرويين الذين انقادوا وراء كلماتها، ومن بعض الكبار الأشرار الذين أرادوا موتي في النهاية.
لكن بدونك... لكانت حياتي أسهل بكثير.
فأنت لم تكن لتظهر في المستقبل الذي تنبأت به تلك العرّافة.
ولهذا شعرت بالغيظ. ومع ذلك، كنت سعيدًا بأنك كنت أنت من وجه الضربة القاضية لأولئك الكبار الأنذال.
بل لم يكن ليكون أفضل من ذلك، خاصة وقد اضطررت لمواجهة كل أنواع القذارة في هذا العالم الموبوء خلال فترة قصيرة من مرافقتك.
كارثة؟... حسنًا. كارثة ممتازة.
فليُدمّر هذا العالم القذر كله.
"...تعال معي."
قالها ديون بعد صمت طويل، وهو يمدّ يده.
دان لم يكن تابعًا للإمبراطور، ولا للملك الشيطان، بل كان الوحيد الذي تبِع ديون هارت بإرادته، وظل وفيًّا له وحده.
ولم يكن سيئًا أبدًا أن يكون لديك شخص واحد هكذا.
حين لمح دان تلك العينين الحمراوين المتقدتين، ابتسم ابتسامة خافتة.
كان حدسه يخبره: هذه هي الكارثة التي كنت تبحث عنها.
آه، يا إلهي.
في النهاية، مهما اختلقت من أعذار؛ يبدو أن قدري كان أن أكون تحت إمرتك، كما توقعت العرّافة.
نعم، في الحقيقة، كل الأسباب التي أقنعت بها نفسي لم تكن يومًا قوية بما يكفي لتبرّر تتبعي للكارثة.
فها أنا ذا، أنظر إليك الآن، وأشعر أن القدر موجود فعلًا.
لولا ذلك، ما كنت لأشعر بهذا الانبهار لمجرد رؤيتك.
رفع ديون زاوية فمه بابتسامة يابسة خالية من الحياة.
لقد كنت أجنّ وحدي في غرفتي. وبعد أن صعقني "ريممبر" بكلماته، ظللت أفكر:
ماذا أفعل؟
ما الذي يمكنني فعله حتى أكفّر عن ذنبي في حقك، ولو بالقليل؟ ما الذي قد يهدّئ هذا الندم، ويخمد الرغبة في الموت؟
فكرت طويلًا... لكن الإجابة جاءت واضحة:
الانتقام.
"يجب أن تعيش."
"...نعم، يجب أن أعيش."
سوف أقتصّ.
ولأقتلهنّ أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شرح النص -مع أنه ما يحتاج أصلا-:
المشهد الأول:
يبدأ النص بوصف تساقط الثلوج دون توقف، في جو من البرودة والظلام الذي يعكس حالة ديون النفسية. يظهر "ديون هاردت" وهو يركض متجهاً إلى بيته، وهو غير مبالي بارتداء غطاء رأسه الذي وقع بسبب الثلج. عندما يصل إلى البوابة، يلاحظه الحارس، الذي يبدو أنه في حالة من الدهشة والقلق.
يُظهر النص حالة ديون الجسدية والنفسية المدمرة، حيث ينحني فجأة ويقع على ركبتيه، غير قادر على تحمل الضغط الجسدي أو العاطفي.
المشهد الثاني: الحوار مع الخادم "ريميبر"
الخادم "ريميبر" هو شخصية ذات خبرة وتفهم عميق لدیون. يُظهر النص محاولته لدعم ديون الجريح نفسيًا وجسديًا. يُظهر "ريميبر" التزامه الكبير تجاه سيده، حيث يحاول مساعدته في التغلب على انهياره العاطفي.
ديون في حالة من الارتباك والضعف، يعبر عن مشاعر يأس شديدة، حيث يصرخ ويكرر اسم "ريميبر" في محاولة للبحث عن دعم عاطفي.
المشهد الثالث: إدراك ديون لأخطائه
في هذه اللحظات من الضعف، يبدأ ديون في التفكير في ماضيه وما فعله. يعترف أنه قتل عائلته، وهو يعبر عن شعور بالذنب العميق. يعبر عن هذا الاعتراف بكلمات غير مكتملة، كما يظهر أنه يواجه معركة نفسية بين الرغبة في الموت والتمسك بالحياة.
الفكرة الرئيسية هنا هي الصراع الداخلي لديون، حيث يشعر بالضياع بعد اكتشاف أنه كان أداة في لعبة أكبر، تم التلاعب به لتحقيق مصالح معينة.
المشهد الرابع: استمرار العذاب والصراع الداخلي
يصف النص أيضًا محاولات ديون المؤلمة لإيذاء نفسه، مثل محاولة ضرب جسده بزجاجة مكسورة. هذه المشاهد تمثل معركة نفسية شديدة بين رغبة ديون في الانتحار والشعور بالذنب.
"ريميبر" يحاول بكل قوته منع ديون من إيذاء نفسه، ويشعر بحزن عميق من مشهد سيده الذي لا يمكنه مقاومة دمار نفسه. لكنه في الوقت نفسه يحاول أن يكون الصوت العقلاني الذي ينقذه، مؤكدًا له أنه يجب عليه العيش، ويحثه على المضي قدمًا.
المشهد الخامس: اللقاء مع دان
في هذا الجزء من النص، يظهر شخصية جديدة تُدعى "دان" الذي كان يتابع ديون في الماضي. يظهر دان هنا كشخص يملك مشاعر مختلطة تجاه ديون: من جهة، هو يكره ديون بسبب الضرر الذي لحق به، ومن جهة أخرى، يعترف أن ديون هو الشخص الذي سيساعده على تحقيق هدفه، رغم أنه لا يستطيع إنكار أن ديون كان سببًا في تدمير حياته.
يظهر دان كما لو كان يحاول التوفيق بين مشاعره المتناقضة، ويعترف في النهاية أنه كان يتبع ديون لأسباب غير واضحة تمامًا، ولكنه الآن يرى في ديون شخصًا قادرًا على تقديم له الإنتقام أو "الدمار" الذي كان يراه هدفًا في حياته.
المشهد السادس: الاعتراف بالفشل والعودة إلى الماضي
في النهاية، ينفتح ديون ويدرك تمامًا أنه لا يمكنه الهروب من الماضي أو التخلص من أفعاله. في مشهد مؤثر، يقرر أنه يجب أن يعيش من أجل الانتقام، وهو قرار يشير إلى استعادة قوته الداخلية، رغم ما يعانيه من صراع داخلي.
في الحوار مع دان، يتم التأكيد على الفكرة الأساسية التي كانت قد بدأت بالظهور: ديون ليس فقط ضحية، بل هو أيضًا من يملك القدرة على إحداث "الدمار" الذي كان يسعى إليه في الماضي.