لماذا يتحدث طفل بهذه القسوة؟ هل هذا هو الأثر الخبيث للحرب؟ أعتقد أن الشتائم التي سمعتها هنا أقسى من أي شيء سمعته منذ ولادتي...
تراجع دان بخفة، وجهه شاحب ومرهق.
"...هل ستكون بخير وحدك؟ من مظهرك يبدو أنك تُركت خلفهم، وأنت تتقيأ دمًا..."
"هل عليّ أن أكرر نفسي مرتين؟ حقًا سأجعلك عصيدة..."
"حسنًا حسنًا، أنا راحل فعلًا."
لكن قدماه لم تطاوعاه على الابتعاد بسهولة.
كم من الوقت سيصمد طفل مثله في خضم هذه الحرب؟ جسد صغير هش، وروح حادة كأنها مرت بالكثير من المشقة. كل هذا أقلق دان لدرجة أنه لم يبتعد سوى خطوات قليلة، ثم عاد واستدار نحو الفتى الذي ما زال يرمقه بحذر.
"أمم... هل ما يجعلك تتقيأ دماً هو جرح أم مرض مزمن؟"
"أنتَ... أيها الحقير...!"
"إن كنت مصابًا بمرض مزمن، أنصحك بإخفائه."
"..."
"أنت جندي عادي، أليس كذلك؟ في معارك الجنود العاديين، يستهدفون الأقوى أولًا."
حين كنا نتحرك ذات مرة، شاهدت معركة في وادٍ من أعلى الجبل.
"سواء أكان عليك ابتلاع الدم أو سد فمك بقطعة قماش، من الأفضل أن تُخفي ذلك بأي وسيلة."
"..."
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أصوات أقدام تنزل من السلالم في قصر العائلة.
ريممبر، الذي كان واقفًا في البهو، رفع رأسه فرأى ديون ودان يسيران معًا. في هذا الجو الذي بدا وكأنه استقر أخيرًا، انساب صوت الرجل العجوز المألوف بنبرته المرحة المعتادة.
"أتستعدون للرحيل؟"
"نعم."
"كنت على وشك أن أُدرّبك على إدارة شؤون القصر من الداخل، لكنك ترحل وتخطف المواهب هكذا. أنا شيخ عجوز، ولا أعلم من أين أجد بديلاً."
ضحك ديون ساخرًا من تذمره المازح، ضحكة جافة.
"الآن قررت أن تعلّمني؟ ماذا كنت تدرّسني طوال هذا الوقت؟"
"كُلّفت فقط بمعالجة وثائق سطحية وثانوية، أما المعلومات الجوهرية فكنت أستبعدها. في البداية كنت أراقبه عبر وثائق مزيفة لأتأكد إن كان جاسوسًا."
"...إذًا، لماذا غيّر دان نظام الأرشفة؟"
"أليس من الممكن فهم نظام الوثائق حتى عبر المستندات المزيفة؟ من هذه الزاوية، كان دان مرشحًا ممتازًا ليصبح معاونًا."
"...أسأل مجددًا، ما هي الهوية الحقيقية لريممبر؟"
"أنا خادم مركيز هارت."
"..."
بدا ديون وقد فقد القدرة على الرد، فتوقف برهة، ثم واصل السير.
ريممبر مر بجانبه وهمس إليه وهو يتجه نحو الباب:
"ألن تأخذ معك فرقة الفرسان القتلة؟"
"التحركات الجماعية يسهل رصدها. ثم إنهم أول من يُحدث ضجة حتى لو كانوا على شفير الموت..."
"كلام سليم."
"سأرحل وحدي إذًا..."
"وماذا عن سير لين؟"
"ألن تأخذها معك؟" توقف ديون واستدار لينظر إليه.
"هي نقية وصالحة. لن تناسب الطريق الذي سأسلكه. وأنت تعلم هذا."
لا تسأل ما تعرفه مسبقًا.
ورغم نبرة صوته المنزعجة، ابتسم ريممبر بلطف وقال له وهو يراه يخطو خارجًا:
"أنا سعيد لأنك تعافيت."
"..."
بعد لحظة من التردد، خرج ديون دون أن يلتفت.
دان الذي توقف قليلًا يتأمل خطواته، أومأ لريمنبر بإيماءة وداع، ولحق به.
...
"هناك مكان أودّ التوقف فيه قبل أن نرحل."
"...ألست تسألني إلى أين نحن ذاهبون؟"
ديون الذي كان يشد اللجام في الإسطبل اكتفى بتحريك عينيه نحو دان، ونظراته الحمراء المخيفة تفحصت ملامحه.
ابتسم دان بهدوء وقال:
"أعتقد أنني أعرف."
"...فأين هذا المكان الذي تود التوقف عنده؟"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان سكان قرية صغيرة في وادٍ جبلي يستعدّون للرحيل، وقد بدأوا بتجميع أغراضهم حين جمدتهم زيارة غير متوقعة.
"هل هذه هي؟"
"نعم. عادة ما تكون هادئة، لكنها اليوم تبدو في حالة من الفوضى. كأنهم على وشك المغادرة."
الرجل الذي أطلقَت عليه العرافة اسم "الكارثة"، ودان الذي وعد أن يكون "بيد الكارثة"...
وضع دان يده على سيفه، وأخذ يتفحص الوجوه دون أدنى انفعال. لمح الرجل الذي جاء من أجله، فارتسمت ابتسامة باهتة على شفتيه. واصل تقدمه حتى اقترب من العجوز التي كانت ترتجف غضبًا وخوفًا في آنٍ معًا.
"مر وقت طويل، أليس كذلك؟"
"أنت... أنت...!"
"تذكرت فجأة. جئت فقط لألقي نظرة على وجه جدتي قبل أن أحقق نبوءتها."
ضحك دان عاليًا بعد أن أنهى كلماته.
"لكن، لماذا ترتجفين الآن؟"
بكل وقاحة.
اقترب خطوة، وملامحه تفيض بغرابة باردة لا تحمل أدنى شعور، ثم انحنى قليلًا وهمس في أذن العجوز:
"أنتِ من جعلني هكذا."
ما كان ينبغي لي أن أتفوه بكلمات كهذه بتلك السهولة. لقد انحرفت عن الطريق، وصرت كما ترين.
ليست من عبثٍ تلك القاعدة التي تجعل العرّافين يتحاشون الحديث عن المستقبل. ابتسم دان بهدوء، وكأنه يُرِيها بعناية العاقبة الوخيمة لكسر القواعد الصامتة لتلك النبوءات.
"لن أقتلك. عليك أن تحيي... لتشاهدي نبوءتك تتحقق أمام عينيك."
"..."
"عيشي حياتك بأكملها مثقلة بالذنب."
أتمنى أن تمضي عمرك كله كما لو أنك تختنقين، ثم في النهاية، تموتين ميتة أشد عذابًا من أي أحد سواك.
الكلمات كالسكاكين، حتى وإن لم تكن موجهة نحوه مباشرة، شعر ديون بوخزٍ في قلبه، فأغمض عينيه قليلًا، متألمًا في صمت.
فتح عينيه فجأة عندما اقترب منه أحدهم.
"...!"
"...ما بك؟"
فتح ديون عينيه بسرعة، وأمسك باليد التي حاولت لمس كتفه، يحدّق في صاحبتها بنظرة مشحونة بالضيق.
لم يكن ينوي القتل، وقد تلقّى معروفًا من هذه المرأة من قبل، وإلا لكان قد غرس السكين في رأسها منذ زمن.
ورغم أنه لم يحاول حتى سحب يده، ظلت ران يحدق في ديون بصمت. وعندما بدا على ديون أنه شارف على الانفجار من التوتر، همست ران بصوت خافت لا يكاد يسمعه أحد:
"احذر من عينيك."
"...عيني؟"
ماذا تعني بكلمة "عيني" الآن...؟
ثم، هل تقصد "العين" التي في الجسد، أم الثلج الذي يهطل من السماء؟
ورغم أن ملامح ديون بدت متسائلة، إلا أن ران تصرّفت كأنها لم تلاحظ شيئًا، وربّت بخفة على يده التي تمسك بمعصمه كإشارة ليفلتها، ثم اندسّت سريعًا وسط الحشود واختفت عن الأنظار.
"...حتى لو سألتني، فلن أقول أكثر."
تلك كانت كلمات العرافة الماهرة. تذكر ديون تلك الجملة في عقله وهو يلتفت نحو دان.
كان يقف على بُعد ثلاث خطوات من الجدة المرتجفة، ينظر نحو ديون بصمت.
"...آنهيت الأمر؟"
"نعم."
"إذًا، فلنرحل."
غادرا كما لو لم يكونا سوى طيفين مرّا فجأة، واختفيا دون أثر.
ران، وهي تسير بين الناس الذين كانوا يهمّون بمغادرة القرية، أسرعت في خطواتها، وهمست لنفسها وهي تراقب ظهر من ابتعدا على ظهر خيلهما:
«رجاءً... لا ترتكب الكثير من الخطايا.»
وربما... حتى هذا رجاء عبثي لا طائل منه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"قائد الفيلق الصفري جلب بشريًا!"
في مدينة ملك الشياطين، حيث كانت الألسنة لا تهدأ عن القيل والقال بسبب أهوال الحرب، انتشرت إشاعة طغت على كل ما سواها.
لو أن البشر الذين جلبهم معه كانوا أسرى أو رهائن، لما حدث هذا الصخب، لكن بما أن ذلك البشري بدا وكأنه مساعد لقائد الفيلق صفر، لم يكن أمام الشياطين سوى أن يضجّوا بالغضب والاستياء:
[لم أجد من يغسل قدميّ، وهو جلب بشريًا ليساعده؟!]
[أتعهد بأنني لن أغفر له.]
[خائن.]
وكان هناك من يغلي في داخله من الحسد:
[إلى أي حد بلغت كفاءته حتى جلبه ديمون بنفسه؟]
[يقولون إنه بشري... وأنا، بعد دييمون، أول من وطأ هذه الأرض من غير المتسللين.]
[أتمنى لو تسنح لي الفرصة للحديث معه ولو لمرة.]
وظهر أيضًا من عبّر عن فضولٍ بريء:
[البشر داخل قصر ملك الشياطين؟]
[ديمون حالة استثنائية... أما سواه من البشر...]
[بما أن الملك جلبه، فربما طرده أهون من قتله؟]
وكان هناك المحافظون، من عبّروا عن تحفظهم وترددهم.
أما ديون هارت، الرجل الذي أصبح "اللغم الساخن" في عرين ملك الشياطين، فكان حديث الجميع.
قال ملك الشياطين، وقد جلس قبالة ديون في غرفة منفصلة:
"سمعت أن الحمى زالت عنك، هل تشعر بتحسُّن فعلي؟"
اكتفى ديون بإيماءة مقتضبة، ثم خفض رأسه، وأخذ يشدّ قبضته ويفكّها مرارًا، قبل أن ينظر مجددًا إلى ملك الشياطين.
لأول مرة منذ زمن، التقت عيناه الشاحبتان التائمتان بعيني الشيطان المتقدتين.
خرج صوته ببطء، منخفضًا:
"في الماضي... توقعت عرّافة مستقبلي."
"همم... وكأنك تقول إن إخباري بذلك سيجعله يتحقّق؟"
"...نعم."
لو أردت الصدق... أجل.
ابتسم ملك الشياطين، واتكأ إلى الخلف براحة، وقد بدت عليه علائم الاهتمام.
"نبوءة، إذًا."
"..."
"إن كنت مرتبكًا، دعني أوضح: النبوءة شيء مختلف عن النظر في المستقبل."
النبوءة أمر مُطلق، لا يتغير مهما حاولت.
أما استشراف المستقبل، فهو أمر سيّال، قابل للتغيير بحسب ما نبذله من جهد.
"النبوءة هي المستقبل كما يراه وينطق به من يستطيع كسر قواعد العالم. ولهذا، فهي لا تتزحزح."
"إذًا... تلك العرّافة كانت..."
"بمقدورها –لو شاءت– أن تكسِر قوانين العالم. بالنسبة لبشر... هذا إنجاز عظيم."
كان الحديث بينهما يدور بلا هدف ظاهر، ولو كان مع أي أحد آخر، لكان ملك الشياطين قطع هذا الكلام وأطالبه بالدخول في صلب الموضوع.
لكن مع ديون؟ كان يتقبّل حديثه بكل رحابة صدر.
وسأل ديون أخيرًا:
"هل هذا يعني أنك... يمكنك أن تتنبأ أيضًا؟"
رفع ملك الشياطين حاجبيه ساخرًا، ثم ضحك:
"بالطبع. بل، ليس أنا وحدي. جميع الشياطين يمكنهم التنبؤ بطبيعتهم."
فالسلالة الشيطانية وُلدت من أخطاء العالم، متجاهلين إرادته.
وقدرتهم على خرق قوانين هذا العالم دليلٌ على ذلك.
لكن ديون عقد حاجبيه، وكأنه لم يفهم:
"لكنني... لم أرَ شياطين يتنبؤون من قبل."
"نحن فقط لا نفعل ذلك. النظر في مستقبلٍ لا يمكن تغييره أمرٌ لا طائل منه... كما أنه غير ممتع."
فالنبوءة –في أغلب الأحيان– لا تمنحنا حرية التصرف، بل تكبّلنا بها.
كان ملك الشياطين يبتسم، يرقب ديون وقد بدت عليه ملامح التردد. ثم نطق ديون ببطء، وقد عاد إلى أصل ما جاء من أجله:
"أتذكر حين أمسكنا بأحد مرشحي البطولة الذي تسلل إلى القصر... ورفضتُ المكافأة حينها لأنني لم أرغب بشيء في ذلك الوقت؟"
"بالطبع أذكر."
"أود استخدام تلك المكافأة الآن."
"اطلب ما تشاء."
هكذا أجابه ملك الشياطين فورًا، وبنظرة حماس صادقة.
قال ديون دون تردد:
"أرجوك... دَمِّر الإمبراطورية بالكامل."
"...ماذا؟"
اتسعت عينا ملك الشياطين بدهشة.
لكن ديون تابع حديثه كما لو كان سيلًا جارفًا لا يتوقف:
"فكرت في الأمر. كيف يمكنني الانتقام من الدوق والإمبراطور؟"
ما هو أغلى ما لدى الدوق؟ وما الذي يراه الإمبراطور أعظم من أي شيء؟
"الإمبراطورية. الإمبراطور دائمًا ما قال إن الإمبراطورية عبء على كتفيه. إسقاطها يعني إسقاطه هو. وبالنسبة للدوق، فمع بعض التحري، أظن أنه أيضًا يعوّل عليها كثيرًا."
فالدوق على الأرجح كان يسعى لاعتلاء العرش.
إن دمرتَ الإمبراطورية بالكامل، فقد اقتصصت من الاثنين معًا.
إن حققت هدفي في تدميرها، فستكون حياتهما في يدي، ويمكنني إنهاؤهما متى شئت. سيكون انتقامًا متكاملًا.
"لذا... أتوسل إليك. اجعل الإمبراطورية أثرًا بعد عين. امحقها."
"...هاها!"
"..."
"آهاهاها! هاهاهاهاها!! لم أظن أن المكافأة ستُستخدم بهذا الشكل! رائع! أعجبني!"
انفجر ملك الشياطين ضاحكًا بصوت عالٍ.
"هذا أفضل طلب سمعته في حياتي! كنتُ محقًا باختيارك!"
"قلت إنك تحتاج إلى تحرٍ عن جانب الدوق؟ إن كان ذلك غايتك، فابحث كما تشاء! وسأمد لك يد العون!"
"...ذلك الهدف؟"
لقد بالغ من فرط حماسه، وخرجت منه كلمة لم يكن عليه أن يقولها.
لكنه تدارك الأمر بسرعة، وواصل مبتسمًا وكأن شيئًا لم يحدث:
"كما تعلم، طلبك هذا أعظم من حجم إنجازك الحقيقي، أليس كذلك؟"
"...أجل."
هذا الطلب يتجاوز كثيرًا قيمة القبض على مرشح بائس للبطولة.
"إذًا، سأغزو العالم البشري."
سقطت كلمات ملك الشياطين على ديون كالصاعقة.
وسرعان ما جثا على ركبتيه، وطأطأ رأسه احترامًا:
"...سأتبعك بكل إخلاص."
"جيد."
أيها الإنسان الأحمق...
إن كان الإمبراطور منافقًا، فالشيطان أدهى نفاقًا.
الإمبراطور ظاهره كباطنه، أما ملك الشياطين فباطنه خادع مغاير تمامًا لما يبدو عليه.
ذنوب الإمبراطور لا تقارن بخطايا الشيطان، فهي كيراعات في حضرة قمرٍ مكتمل.
أغمض ملك الشياطين عينيه وابتسم... يخفي وراء ضحكته كل مكر الدنيا.
وأخيرًا... بعد صبرٍ طويل... الدمية قد أصبحت بين يدي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النص ما يحتاج شرح فاا 👀👍