"رغم أنك على يقينٍ من أنهم يخططون لهجومٍ مباغت، يصيبك على حين غفلة، فلن يكون أمامك من خيار سوى التغاضي عنه. هذه العبارة مغرية أيضًا، إذ تفتح بابًا لثغرة يمكن استغلالها."

كما هو متوقّع.

– "كيف لك أن تصدّق ما تقوله الشياطين…!"

– "بصفتي بشريًّا، أُقْسِم باسمي، ممثّلًا لعالم الشياطين."

رفع "ديون" حاجبيه حين رأى خصمه يُقيّد بهذه السهولة.

صوتٌ واحد شقّ صمت العالم الذي خيّمه ثِقَل البيان:

– "من الأساس، لم يكن الادعاء بأن الشياطين قومٌ لا يُوثق بهم إلا شائعة جوفاء. أليست تلك الشائعة ذاتها سببَ رفضكم مجرّد التفكير بالتفاوض؟ من المؤسف أن يتحكم بكم كلام العوامّ."

-….

– "لقد قبِل بي ملك الشياطين إنسانًا، ومنحني معاملة كريمة لا غدر فيها ولا رجوع."

وبعد انتشار خبر خيانة "ديون هارت"، بدأت الألسنة تنسج حوله الأقاويل.

أغلبها كان يدور حول وضعه في عالم الشياطين؛ فقد شاع أنه انضم إلى صفهم، لكن الغريب أن اسم الرجل الذي كان يومًا بطلًا للإمبراطورية، لم يعد يُذكر على الإطلاق.

وكان أكثر ما يُردّد، أنه تلقّى طعنة غادرة من أحد الشياطين، واحتُجز في أعماق الأرض أو قُتل. غير أن كل هذا سينهار بدءًا من اليوم.

"ستيغما بريميرو" كان جالسًا منتصبًا، سيفه يستند إلى الأرض كعكاز، ويداه متشابكتان على مقبضه. ابتسم ابتسامة خافتة وهو يتأمل الشاشة. وجهه يبتسم، لكن رأسه يهتز نفيًا.

"أنت مخطئ، يا فتى. الوعد الذي يُقطع باسم فتى صغير، لا يصلح أن يُبنى عليه ثقة."

وكما هو متوقع، بدأ صوتٌ راسخ يدحض كلامه نقطةً تلو الأخرى:

– "أولًا…"

-….

– "قيمة الاسم لا تُستمدّ من حروفه، بل من نظرة المجتمع إلى صاحبه، ومن مكانة من يقطع الوعد."

تغيرت ملامح "ديون هارت" للحظة على الشاشة، كأنما فَهِم مرمى الكلام. سرعان ما استعاد وجهه هدوءه، لكن "ستيغما" لم يَفُتْه ذلك، إذ كان يراقبه كمن يترصّد خفقة قلب.

لعلّك رأيت المعترض يظهر على تلك الشاشة أيضًا.

– "لقد خنتَ البشريّة. وصِيتُك في الحضيض. أما عنك…"

"بول"، الرجل الذي توقّف عن الحديث، حدّق مليًا في الشاشة، كأنه يغوص في قسمات "ديون هارت".

– "ألا ترى أنك لا تقدّر نفسك كما ينبغي؟"

-….

– "فكيف نثق بوعدٍ يقطعه رجلٌ لا يؤمن حتى بقيمته؟"

لقد أُصِبت.

صمت "ديون هارت"، فاستغل "بول" تلك اللحظة ودفع حديثه إلى الأمام.

– "قلتَ إن ملك الشياطين قبلك إنسانًا؟ وإنك تحظى بمعاملة كريمة؟ هذا معقول. لأنك أقرب إلى الشياطين منك إلى البشر."

افتراء.

– "عينان حمراوان، وشَعرٌ أبيض، وبشرةٌ شاحبة... لا تشبه البشر في شيء، بل ويدان ملطّختان بالقسوة! حتى الشياطين لربما أبدت اعتراضًا أقل!"

لا بد من الرد.

فتح "ديون" فمه، لكن "بول" كان أسبق.

– "وفوق ذلك، ألستَ من خان السماء، وقتل أهل بيته، بل قتل شقيقه الأخير أيضًا؟ من سيرى فيك إنسانًا؟"

"...ماذا؟"

توقّف الفكر.

"مَن…؟"

من الذي قتلتُه؟

هجومٌ لم يكن في الحسبان. حبس "ديون" أنفاسه.

…إذًا، في أعين البشر، أنا قاتل شقيقي.

نعم، إنهم محقّون. فحين أكون عدوي الأول، ستتوحد صفوفهم ضدّي. حتى أولئك الذين يعرفون الحقيقة، أغلقوا أعينهم وأفواههم، وألقوا عليّ باللائمة.

"عليك أن تُحسن إدارة ملامحك…"

رغم أن عقلي بات صفحةً بيضاء، أدركت بفطرتي أن هذه الشاشة تُبث على العلن.

لا يمكنني حتى رفع يدي لأخفي وجهي. عليّ أن أتماسك، وأقلب هذه الكذبة بالحُجّة. لكن…

"لا أستطيع الكلام."

تحت الطاولة، كانت يداه ترتجفان. كان عليه أن يُثبّتهما بقوة كي لا ترتعش كتفاه، لكنه فوجئ بجسده يخونه بهذا الشكل…

لم يجد "ديون" بُدًّا من التحديق للأمام، بوجه خالٍ من التعبير، خشية أن تهتز نبرته حين يتكلم.

وحين همّ "بول" بأن يتحدث مجددًا، وفي اللحظة الفاصلة بين أن يُعدّ صمته استجابةً لا سكوتًا، تكلّم "ديون" أخيرًا.

انساب صوته هادئًا، يليق بجمود ملامحه.

– "ما قيل يفيض بالافتراءات، حتى لا أعرف من أين أبدأ. عليك أن تعي جيدًا أين أنت، وما الذي تقوله. أن تنطق بالكذب أمام البشرية جمعاء، لهو أمر في غاية القسوة. كان الأحرى بك أن تقول الحقيقة، لا أن تفبركها."

– "ذلك…."

لكن "ديون" قاطعه، كمن يريد أن يختم الحديث قبل أن يُعاد تكراره.

– "أقولها مرة أخرى، بصفتي البطل الثالث للإمبراطورية السابقة، والقائد الحالي للفيلق الصفري في جيش ملك الشياطين: الإمبراطور ليس رجلًا يُوثق به، ولم يعد أمامنا إلا أن نُزيح العقبات التي تعترض طريقنا نحو السيطرة على الإمبراطورية."

-…!

– "واعلموا أنّ عالم الشياطين لا يحمل من التحيّز ما يمنعه من منح إنسانٍ منصب قائد الفيلق الصفري. إنّ أبواب عالم الشياطين مفتوحة دومًا للبشر الراغبين في الوُدّ، بل أكثر."

ثم اختفت الشاشة، مبتسمةً بوجهٍ شاحب.

وانفجر الضجيج في القارة، متعدّيًا حدود البشر إلى عالم الشياطين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"…يبدو أنك كنت أعظم مما ظننت."

قائد الفيلق صفر، "ستيغما"، ضحك ضحكة باهتة.

كان يظن أنّ صاحب الكبد الكبير هو ذاك الرجل على الشاشة، لكن الحقيقة أن صاحب القلب الجسور هو جونيوره. لقد عُرف اسم قائد الفيلق الصفري بعد نهاية حرب السنوات الثمان، فهل هذا يعني أن تلميذه خدم كـ"البطل الثالث للإمبراطورية" و"قائد الفيلق الصفري" في آنٍ واحد، ولوقت قصير فقط؟

وربما، حين كان يُستدعى مرارًا بأمرٍ من الإمبراطور، كان في الحقيقة يعبر بين العالمين.

"القول إن الإمبراطور ليس جديرًا بالثقة، يعني ضمناً أنه كان على علم بهوية ديون هارت."

ظننتُ أنني قد فقدتُ عقلي في النهاية، واستبدّ بي العجز.

"أنت تترك وراءك قنبلة هائلة. لكن، في النهاية... أنت تظل جونيوري."

روح قاتلة... حين ترك "ستيغما" الرسالة على مكتبه، والتي حملت نبأ فرار "الفرسان النبلاء" أثناء توجههم إلى أراضي "أميابل"، تذكّر ملامح "ديون هارت" كما رآها على الشاشة.

{م.م: الفرسان النبلاء= فصيل ديون.}

نعم، حتى لو وضعنا كل ما سبق جانبًا...

"كنت قلقًا من أن يكون قد أصيب بأذى في مكانٍ ما، لكنني سعيد لأنه يبدو بخير."

لا يمكنني الجزم، لأني لم أرَ وجهه مباشرة، لكن حتى لو كان هناك خلل... فالأمور الآن ستسير كما ينبغي.

أولئك الأوغاد لن يسمحوا لسيدهم بالموت عبثًا.

{م.م: يقصد فصيل ديون.}

لم تخطر لي ولو لحظة فكرة أنهم قد يعجزون عن بلوغ ديون هارت. حتى في الجحيم، سيقنع أولئك الشياطين إبليس ذاته بأنهم مضطرون للذهاب إلى القائد... وسيجعلونه يذعن.

هؤلاء الأوغاد، القادرون على ليّ عنق الشيطان ذاته، كانوا يتسلقون الجبل. لأكون دقيقا، توقفتُ عن غير قصد، وارتكنتُ إلى السكون، إثر الخبر الصاعق الذي سمعته قبل قليل على الشاشة الطافية في الهواء.

انطفأت الشاشة، وفي سكونٍ لا يوصف استمر حتى تلك اللحظة، نطق أحدهم بصوتٍ بالكاد يُسمَع:

"...واو، قائدنا... هل كان هو نفسه قائد الفيلق الصفري؟"

"ألم يكن وجود القائد الصفري معروفًا قبل حتى أن يذهب إلى عالم الشياطين؟ هذا يعني..."

"يعني أنه كان، في الوقت ذاته، بطل الإمبراطورية وقائد الفيلق الصفري. هل كان ذلك سببًا لاختفائه الطويل بحجة المهمة؟ إذًا كانت المهمة ذريعة، والإمبراطور كان يعلم وحماه."

"ماذا؟"

اتسعت عينا "ميلان" من الذهول، غير قادر على إخفاء صدمته من تحليل "كليتر" البارد. وتوقّف باقي الفرسان عن الإعجاب ببعضهم، ووجّهوا أنظارهم نحو كليتر.

"هذا يعني أنك خدعت الجميع... هذا حقًا..."

"..."

"رائع إلى حدٍ لا يُصدّق!"

"كما توقّعنا من قائدنا!"

"هذا بعيدٌ جدًا عن الحياة العادية... لدرجةٍ تبعث على الرثاء!"

"...أنتم مَن أنتم."

تنهد "كليتر" بعمق، ووضع يده على جبينه بهدوء.

"ليس وقت الإعجاب يا حفنة الأغبياء. إن لم تلتقوا بالقائد الآن، فلن تفعلوا أبدًا. إن أُمسك بكم هنا، فكل شيء قد انتهى!"

"أوه، صحيح... هل سنُخضَع للمراقبة؟"

"ألن يُعذَّب أحدنا؟"

"ألا تعتقد أن القائد سيقتلنا قبل ذلك؟ لم نترك وراءنا سوى ورقة!"

لم أره كثيرًا لأنه كان يُستدعى للتحقيق دومًا، لكنه... كان القائد على أي حال. وبدافع المحبة والندم، ترك أعضاء فرقة "القتلة" ورقةً قصيرة قبل فرارهم، كتبوا فيها:

«آسفون يا قائدنا»

"أنتم... أيها الأوغاد اللعناء!"

ورغم أنهم لم يعلموا كيف تم تمزيق تلك الورقة بشكلٍ مهين، فقد شعروا، غريزيًّا، برهبةٍ تسلّلت إلى ظهورهم وجمّدت حركاتهم.

"...لست متأكداً، لكن إن أمسكوني... أعتقد أنني سأموت."

"أشعر أن شيئًا رهيبًا ينتظرني إن تم القبض عليّ. لديّ إحساس سيئ."

"لذا، إن لم تردوا أن تلقوا حتفكم... كفّوا عن الكلام وتحركوا، يا أبناء الكلاب!"

كان علينا أن نكون قد قطعنا عدة أمتار أثناء هذا الثرثرة!

ضرب "كليتر" صدره بغيظ، ثم حوّل قبضته وصفع بها مؤخرة رؤوس رفاقه ليحثّهم على الحركة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ديون هارت، بطل الإمبراطورية الثالث، و"أروت"، قائد الفيلق الصفري في جيش ملك الشياطين... هما الشخص ذاته!

كشف ملك الشياطين عن هذه الحقيقة في اللحظة التي وقف فيها "ديون هاردت" أمام العلن. ولأن الخبر كان صاعقًا، انصبَّت أنظار الشياطين عليه، لكن الغريب أن الفوضى لم تكن كبيرة كما يُتوقَّع.

[ديون هارت هو ديمون؟]

[حقًا؟ ...وما شأن ذلك؟ في النهاية، هو معنا.]

[أجل، لقد كان عميلًا مزدوجًا.]

مهما كانت هويته الماضية، ومهما كان أصله... في نهاية الأمر، هو من رجال جيش ملك الشياطين.

ورغم المفاجأة، لم يُنظر إلى ذلك كنبأٍ سلبي، لذلك لم يكن هناك رد فعل إضافي.

[كنت أعلم أنه استثنائي، لكن لم أتخيل أبدًا أنه بطل الإمبراطورية. يبدو أنك لست إنسانًا عاديًا فعلًا.]

[لقد أصبح قائد الفيلق الصفري بين البشر. لا مجال أن يكون شخصًا عاديًا.]

هل ينبغي أن نُسميه الآن "ديون"؟ وماذا عن "الديمونية"؟

ورغم الاضطراب، انشغل الشياطين سريعًا في نقاشات أخرى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قيل إنهم استخدموا السحر للتدخل في الشاشة، لكنّ المفتاح الحقيقي هو حجر السحر على هذا المكتب. كان يجب أن أطفئه فور أن رأيت دلائل سيطرتهم على البث.

لم يخطر لي أن أول ما سيفعلونه عند الاستحواذ هو دقّ مسمار يحول دون انطفائه من تلقاء نفسه.

[ومع ذلك، تبقى كلمات خائنٍ باع نفسه للشيطان.]

بهذا التصريح، لم يعد بمقدور "ديون هارت" إغلاق شاشة الطرف الآخر بنفسه.

كان تصريحًا قويًا، بحضورٍ مهيب. ولو أنه أغلق الشاشة في تلك اللحظة، لبقيت آخر كلماته منقوشة في أذهان المشاهدين، لا تُمحى. ليس هذا فحسب، بل إغلاق الشاشة يعني الإقرار بالعجز... والإذعان لما قيل.

ولذا، لم يكن أمام "ديون" سوى المواجهة، رغم كراهيته لذلك.

فمدّ يده بهدوء، وأطفأ كلا الشاشتين في آنٍ واحد، ثم أخرج من جيبه منديلاً أسود، وضعه على فمه.

إن كنتَ قد تذكّرت هدفك من البداية، فأنت لست مهزومًا. لقد منعتَ إثارة مضادة، بل وألقيت قنبلة أعمت الداخل الإمبراطوري ومزّقت خيط التحالف بين الإمبراطور والدولة... لذا، لا بدّ أن الطرف الآخر يتخبط الآن في فوضى.

لكن...

"ديفيلانيا..."

هُزمتُ نفسيًّا.

خرج اسم أحدهم، همسًا، من تحت المنديل الأسود. ومع أنه كان يعلم أن عليه إزالة المنديل لينطق الاسم بوضوح، إلا أن "ديون" اختار رفع صوته... لا إزالة القماش.

صوتٌ مشقوقٌ بالأسى، جَرَح الأحبال الصوتية، وانطلق كنعيقٍ شيطاني:

"ديڤيلانياااا!!!!!"

أووبس... وها قد تبلل المنديل الأسود.

...

2025/05/29 · 41 مشاهدة · 1599 كلمة
نادي الروايات - 2025