"الشيء الوحيد الذي كان مسموحًا به، ضمنيًا، هو استخدام الحبوب أثناء المعركة. أما إن ضُبط أحدهم يستخدمها خارج ميدان القتال، فقد كان العقاب فوريًّا لا رجعة فيه. وفوق كل شيء...
"إن لجأتم للحبوب في غير ساحة الحرب، فإنكم ستهلكون في لمح البصر. علينا أن نفكر أيضًا فيما يلي الحرب. أيمكنكم أن تحيوا أيامكم وأنتم أسيرو الإدمان؟"
ارتسمت على شفتيّ ابتسامة خافتة.
"هو قد قال أنه يريد أن يعيش. لديكم وطن للعودة إليه. أما أنا، فعليّ أن أعود وأستعيد حياتي اليومية." {م.م: وفي ترجمة أخرى، "أما أنا، فعلي أن أعود وأعيش حياتي اليومية." وأيضاً، غالباً يقصد بـ"هو" "كرويل"، الترجمة ممكن تكون أيضاً، "قال أنه يريد مني العيش." في السياق الطبيعي، الجملة الأصلية بتكون صحيحة نحوياً وكل حاجة، ولكن "كرويل" بحد ذاته ضحى بنفسه عشان يعيش ديون.}
"..."
"لذا، لا تفعلوها. وإن رأيتم أحدهم يهمّ بتناول الحبوب خارج المعركة، فاردعوه... حتى وإن اضطررتم لضرب رأسه."
"لكن الضربة في الرقبة قاتلة..."
"إذاً فلتصفعوه على مؤخرة رأسه."
"آه."
لم يعد هناك ما يستحق النقاش. فكلما أطلتُ الحديث مع هؤلاء، ازداد ضغطي وارتفع مزاجي سوءًا.
فتحت فمي قاصدًا إنهاء الحديث الذي بدأ يأخذ منحًى لا يُعجبني.
"الأجدر بكم أن تبعدوا الحبوب وتعطوني بعض الحلوى بدلًا عنها."
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
راودني حلم كريه.
والأحلام التي نعبث فيها كلاب مسعورة لا تجلب طالعًا حسنًا.
هزّ "ديون" رأسه لينفض عنه شوائب التفكير، ووضع لفافة تبغ صغيرة بين شفتيه.
"ديون، إن الدواء...!"
أشار بيده للطبيب كي يتوقف عن الحركة، وقد كان يهمّ بنزع السيجارة من فمه، ثم أشعل شمعة على الطاولة ورفع عينيه. فظهرت أمامه لعبة لوحية بجوار الشمعدان.
"أعتقد أنني أنهيتها تقريبًا."
خلال الأيام الماضية، لم أكن أرتاح في مكاني، ولا أنعم بنوم هادئ. لذا، صنعتُ هذه اللعبة لأُسكت الأصوات في رأسي، وكانت النتيجة أفضل مما توقعت.
رفعت إحدى قطع اللعبة بين أصابعي وأنا أتأملها بعينين راضيتين، بينما كان "دان" الذي يُنظّف بقايا التصنيع برفقة "إد"، يلقي نظرات خاطفة على الرقعة، حتى غلبه الفضول وقال:
"ما هذه يا سيدي؟ لم يسبق لي أن رأيت لعبة كهذه."
"شطرنج."
"...شطرنج؟ تبدو كذلك بالطبع، لكن ثمة شيء مختلف..."
"ليست شطرنجًا، بل شطرنج-س-س. إنها لعبة استراتيجيات مُستوحاة من الشطرنج. بدلًا من قطعها التقليدية {م.م: كالملك والملكة والقلعة... إلخ.} ، لدينا رماة، ورجال رماح، ومحاربون بالسيوف، وحَمَلة دروع. وهناك خيول ومواد. حين يُدمج الحصان مع الرامي، نحصل على فارس رامٍ، وإن اجتمع مع صاحب الرمح، يصبح فارِسًا رمّاحًا..."
{م.م: ما في شطرنج في الواقع اسمه س-س.}
راح "دان" يُصغي للشرح بتعجب صامت.
'ألم تقل إنك بحاجة لشيء تصبّ عليه تركيزك؟ أحقًا هذه لعبة صنعتها بدافع لحظة؟'
أي عقل يُصدّق أن هذه اللعبة وُلدت على حين غفلة؟ إنها من الدقة بمكان يجعلها صالحة للتصنيع والتوزيع على الفور.
ما الذي حدث لرأسي؟
لطالما شعرت أن دماغي خارج عن المعتاد قليلاً... لكن لم أتوقع أن يُظهر تميّزه هكذا...
'أما كان الأجدر أن يبرع في المعارك فحسب؟ لكن مهلاً، لقد أبدى بالفعل كفاءة في إدارة جنوده.'
كان "دان" يهز رأسه وهو يتأمل داخليًا، حتى انتبه فجأة أن "ديون" ما زال يشرح:
"...وإن لم تُجدد الإمدادات خلال ثلاث أدوار، فستنقص وحداتك بمقدار الثلث. فإذا كنت تملك تسعين جنديًا، فستُجبر على العمل بستين، وإن مضت ثلاث دورات أخرى دون تموين، فسينخفض العدد إلى أربعين. يجب أن تتفق أنت وخصمك، قبل بدء اللعب، على ما إذا كنتم ستُقربون الأعداد أو تُبسطونها..."
"مهلًا! انتظر قليلاً يا سيدي! هل أنت بخير؟! أشعر أنني أفقد صوابي الآن!"
"آه."
لسببٍ ما، بدت الأجواء هذا الصباح غريبة. حسبتُه غارقًا في تفكير عميق فإذا به شارِد ليس إلا.
"يا ديون العزيز، ما هذا الأسلوب في الحديث؟ إنك لفاقد صوابك."
{م.م: ممكن ديون قاعد يخاطب نفسه، عشان ما أعتقد لا "إد" ولا "بن" حيخاطبه كذا، من المرجح أكثر أن "دان" بيتكلم معاه كذا، بس مش مقتنعة.}
"وهل يبدو لك السيّد عاقلًا الآن؟"
"...البشر يسمّون أشياءَ كهذه جمالاً إنسانياً..."
تلك الإنسانية الحقيرة، هي كل ما يدور عليه الأمر عنده.
كتمتُ ضحكة وهمية وأدرتُ وجهي. حتى "إد" بدا وكأنه أدرك أن ما يُقال فارغ لا معنى له، فصرف بصره خفية. وهناك، حيث التقت النظرات، جلس "ديون"، ينفث زفرة ثقيلة من الدخان الأبيض، بالطبع.
"...ليغادر الجميع، وليبقَ دان فقط."
"سيدي ديون."
"بسرعة."
تردّد "بن" للحظة، في عينيه بريق قلق، ثم سحبه "إد" وأخرجه من الغرفة.
حين أُغلِق الباب، وبقي الاثنان، أسند "ديون" ظهره المرتخي إلى الكرسي، وأشار لـ"دان" أن يجلس قبالته على الطاولة. ثم تكلّم بنبرة وادعة:
"بما أننا انتهينا، فلتخض جولة ضدي. لقد شرحت القواعد، فلا بد أنك فهمتها، أليس كذلك؟"
"...همم..."
"وحتى إن لم تفهم، فالتجربة خير دليل. أنا آخذ الأسود، وأنت الأبيض... ما عدد الجنود الذين نبدأ بهم؟"
زمجر قليلًا، وراح يُمرر إصبعه على الجزء الرقمي من جسد قطعة الفرس.
أخذ "دان" يحدق بهدوء في الحصان. لا يختلف كثيرًا عن قطع الشطرنج، سوى أن على جسده أرقامًا تبدأ بـ0000. حركها بإصبعه برفق، فصارت 0001.
آه... إذن يمكن ضبط عدد الجنود هكذا.
"بما أنها الجولة الأولى، لنضبط الجميع على 0100."
"...نعم."
وضُعت القطع المضبوطة على 0100 فوق الرقعة.
ومنذ تلك اللحظة، ساد صمت عميق، لا يُقطعه سوى سؤال عابر، أو شرح خافت.
"...لماذا تحركت خطوتين؟"
"الفرسان يمكنهم التقدم بمقدار خانتين في الوقت الراهن."
"آها."
قال "دان" باختصار. أما "ديون"، فتابع بنظره رقعة المعركة، ثم قسّم قواته قسمين وقال بهدوء:
"ماذا جرى لقطعتك العليا؟"
"العقوبات شديدة نظرًا للسجل المرتبط بالحصول على إذنٍ لتوزيع مواد الحرب باسم السيّد. وهناك مراقبة أيضًا."
"لكن يبدو أنه لا يزال حيًّا."
"أولًا، يبدو أنهم يُبقونه على قيد الحياة لأنه من القادة البارزين. لا أعلم إن كان بالإمكان شغل المنصب الشاغر، لكن الوقت لم يحن بعد."
"نعم، لا سيما وأنه ذو شأن في أوقات الحرب."
بينما كانت المجموعة تراقب انقسام القوات، انسحبت فرقة الفرسان السوداء إلى الخلف.
"اجعل قطعتك العليا يعلو."
"...عفوا؟"
"من الأفضل أن نبتلع الأرض تمامًا. اجعلوا عالم البشر مُجبرًا على الاتكال على من هم فوقه."
كان فصيل المعاطف البيضاء مختل التوازن، يركّز على فئات بعينها.
تقدّم جندي يحمل درعًا أسود. انطلقت فرقة من القوات المنقسمة لقطع خطوط الإمداد، فيما شنّت البقية هجومًا على معسكر البيض.
قرر "دان" أن الأولوية لصدّ القوات المتقدمة لا خطوط الإمداد. حرّك يده فتقدمت الوحدة الرئيسية لحماية المعسكر.
"يبتلع القاع، ويقمع صعود القمم الأخرى، ثم ينسحب من عالم البشر في اللحظة الحاسمة."
"...ستكون ضربة قاسية."
اندفعت الوحدة الأساسية للبيض، ودحرت القوات السوداء المنقسمة. وقبل أن تشتبك مع الجندي الدرعي، تحرّكت فرقة الفرسان السوداء التي كانت تترقّب خلفه بصمت.
طوّقت قوات السود الجنود البيض الذين اندفعوا نحو الدروع. وحين أدرك "دان" الأمر، كان الأوان قد فات، فسحب جنوده على عجل قبل أن يُحاصروا بالكامل، لكن بعضهم كان قد ابتُلع داخل شباك الحصار.
قال "ديون" بهدوء، وهو يضع الحصان المسروق جانبًا:
"حسنًا. تواصل مع صانعي التعاويذ الورقية اللازمة للسحر، وحاول أن تهيمن على توزيعها. ستكون من أهم منتجاتك."
"...تعويذة؟"
نتيجة لذلك، قُطعت طرق الإمداد، وتقلّص عدد القوات الرئيسة. باتت الهزيمة على الأبواب.
"دان"، الذي كان يعبث بكلمات الجنود المتبقّين على الرقعة، رفع بصره وكأنه يتحسر.
"كان الهدف من السحر الأسود منذ البدء مجابهة السحر نفسه. وسيُستعمل كثيرًا مستقبلًا، بل لعلّه لا يزال يُستخدم الآن. ولا ترفع العدد خفيةً. الرقم المدون هو '0032'، فهل تظنني أحمقًا؟"
"...لهذا لا يُحتمل من يمتلكون سرعة بديهة..."
"توقعت أن يحاول البعض التلاعب، لذا جعلت خانة الأرقام جامدة. أسمع صوت دورانها... وقبل ذلك، كانت البداية من 0100، والآن مكتوب '0132'، فهل تظن الأمر سيمرّ عليّ؟"
"تبًا... فهمت. احتكار الأوراق غير المُدرجة؟ هذا كل شيء؟"
مرّت ثلاث جولات منذ انقطاع الإمدادات. وتقلص عدد الجنود في معسكر المعاطف البيضاء إلى الثلث.
كانت تلك اللحظة إيذانًا بانتصارٍ محتمل للأسود.
واصل "ديون" حديثه على مهل، وهو يثير التوتر في معسكر الأبيض:
"إن بات بالإمكان توزيع بعض الأحجار السحرية، فسيُمسك تجّارك بقاع السوق حرفيًّا... عليّ التحدث إلى الشيطان بشأن هذا، وأعشاب الجنيات... الاحتمال ضئيل، لذا سأؤجل ذلك... آه صحيح. لا بد من وجود تعويذة تُقيد قوى الشياطين."
"..."
"حاول أن تحصل عليها. كمية كبيرة إن استطعت."
انتهت اللعبة. كانت الغلبة للأسود.
(صوت الحجر وهو يُوضع بقوة) ضحك "ديون" وهو يضع القائد الأسير خارج الرقعة.
"وبالمناسبة، نفد دوائي. سأذهب لجلب بعضٍ منه أيضًا."
"..."
كان "دان" على وشك الموافقة دون تفكير، لكنه تراجع، وأغلق فمه، وحدّق فيه.
عينان حمراوان تطلّان إليه بهدوء، وكأن شيئًا ليس على ما يُرام. وبعد برهة صمت، نطق "دان":
"سيّـ..."
"اعذرني، ديون. أظن أنّ عليك الخروج للحظة."
(صوت تقاطر)
نهض "ديون" على إثر صوت مألوف. وقبل أن يخطو، رمق "دان" الذي أغلق فمه على مضض، ثم قال بابتسامة جانبية:
"أهذا لأنك تحسبنني مجنوناً؟"
"..."
"ليس من العدل أن ننظر إلى من فقد صوابه لوهلةٍ وكأنه فقد عقله تمامًا. أنا بخير، فلا تقلق."
ثم خطا نحو الباب دون أن يلتفت إلى ملامح "دان"، وفتحه. هناك، التقت عيناه بعينَي "إد"، الذي بدا شاحب الوجه.
"إد؟ ما الذي يحدث؟ لماذا يبدو وجهك هكذا؟"
"عذرًا، سيدي ديون. أمام بوابة قلعة ملك الشياطين... بعض الأشخاص يحتجزون رهائن، وينفذون اعتصامًا."
"ماذا؟ ما هذا الهراء؟..."
إنه صوت الكلب حين يأكل العشب.
كتمت الكلمات التي كادت تخرج من فمي، وحدّقت في "إد". هذا الشاب شيطان أيضًا. لا مجال للاسترخاء أمام الشياطين.
أبقيت صوتي ثابتًا، وقلت:
"تجاهلهم. واقتلهم."
"الرهائن..."
"إن كانوا قد وقعوا في يد البشر فليسوا إلا شياطين لا قيمة لهم."
"الرهينة هي قائدة الفيلق السابع."
"..."
...ما الذي يجعلها رهينةً هناك بحق الله؟
شعر "ديون" بالذهول أمام هذا العبث، ثم استعاد تماسكه بصعوبة بعد أن مرّر يده على فمه.
"ولمَ جئت إليّ؟ قدّم تقريرك لملك الشياطين، لا لي أنا..."
"شرطهم أن تلتقي أنت بالقائد... لا، بل بقائد الفيلق الصفري."
{م.م: الترجمة الإنجليزية حرفياً هكذا، مع أنها المفروض تكون كذا:"شرطهم أن يلتقوا بك... لا، بل بقائد الفيلق الصفري.}
"...هاه."
لسببٍ ما، بدا الأمر كحلمٍ سريالي.
لم يحتج "ديون" سوى إلى سماع كلمة "القائد" ليعرف من هم أصحاب الجرأة الفائقة هؤلاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"دعونا نلتقي بالقائد!"
"رجاءً! افعلوا ذلك!"
"رجاءً، بحق الله!!"
"وإلا فلن نضمن سلامة الرهينة!"
"لا وجود له!"
"لا!!"
كان هناك ضجيج غير مألوف أمام قلعة ملك الشياطين، والتي كانت دومًا هادئةً كسكون الموت.
كيف لبشرٍ أن يفعلوا ذلك؟ حتى لو تجرأ الشياطين على تنفيذ اعتصام كهذا، لأثاروا الرعب. وحده هذا الأمر غير مسبوق... فكيف وقد احتجزوا رهينة أيضًا؟
لو كانت الرهائن من الشياطين العاديين، لتمّت إبادتهم، لكن الأمر يختلف إن كانت القائدة السابعة نفسها هي الأسيرة.
راح الشياطين يحدّقون من خلف البوابة، يتهامسون عن هؤلاء المتجرّئين الذين أدهشوا حتى عالم الشياطين بمشهدهم النادر.
وأما "سيلوا"، قائدة الفيلق السابع، فقد وقعت رهينة...
"إذًا، حقًا تقولون أن ديمون... لا، بل ديون، هو قائدكم؟ أصدّق هذا لأن أساليبكم القتالية تُشبه خاصته، لكن لا زلتُ مذهولةً لسماع ذلك مرة أخرى."
"ما زلنا غير مصدّقين أن قائدنا هو نفسه قائد الفيلق الصفري هنا؟"
كان يتحدث مع آخذي الرهينة بهدوء.
{م.م: هوية هذا الي يتحدث مع "الفرسان الأشراف" مش معلومة.}