"ألن تضع تميمة كبح السحر؟"
"لا شك أنك تدرك مَن هم أسرع شياطين عالم الشياطين استخدامًا للسحر."
"...آه."
ديون هو أكثر من واجه ملك الشياطين من بين البشر والشياطين على حد سواء.
فلو حملت تميمة تمنع استخدام السحر، لن يمر وقت طويل حتى يُكتشف أمرك.
"ذلك لأن ملك الشياطين لم يخرج قط إلى عالم البشر «عبر الحدود»... بل هو لا يستطيع الخروج أصلًا... لذا، حتى لو كانت بحوزته، فلن يُقبض عليه..."
"... يبدو أنك لا تؤمن بالشيطان."
"بالطبع... بالطبع..."
"... سيدي؟"
"..."
"هل غلبك النعاس؟"
ورغم كل شيء، فقد كان يومًا مرهقًا بسبب الكلاب الهوجاء تلك. ولو أنني استطعت النجاة بالحبوب، لسُلبت مني حتى تلك...
استسلم ديون بكل طواعية لوعيه المتلاشي.
'... لقد غلبكَ النعاس حقاً.'
أيعقل أن ينام المرء قرير العين، بينما يوكل غيره بالكدّ والعناء؟
تمتم دان في داخله ساخطًا، وهو يتأمل ديون وقد انساب نَفَسه بنعومة في نوم هانئ.
ومع ذلك، وقد علم أن نوم ديون هارت ازداد اضطرابًا منذ وطأ أرض الشياطين، لم يسعه إلا أن يتمتم في استياء، ثم اقترب بهدوء ووضع فوقه الغطاء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أعلنت "رويتشه" نهاية التحالف.
وقد بدا ذلك متوقعًا منذ أن بلغنا أن الإمدادات القادمة من الإمبراطورية رديئة الجودة.
لست ألوم موقف الإمبراطورية، ولا "رويتشه"، لكنني تنهدت حين سمعت الخبر.
عالم الشياطين قوي، ولسبب ما لا يستخدم كل ما يملك من قوة، ولكن إن كان هذا ما يفعله بنصف جهده، فكيف سيكون الحال إن أفرغ كل ما في جعبته؟ لربما يدفعنا بسهولة نحو الهاوية، خاصة والاتحاد البشري بدأ يتداعى.
'التحالف انكسر، ولا حيلة لنا فيه...'
كان "بول"، الذي غدا فجأة قائدًا للثوار، غارقًا في التفكير.
'لا رغبة لي، ولكن لا مناص من مساندة الإمبراطورية.'
فقط بصمود الإمبراطورية، يحيا عالم البشر، وببقاء عالم البشر، تولد الثورة.
وقد آثر بول ردّ الجميل لـ"دانيال" الذي ربّاه وعلّمه، على خلافاته القديمة التي ذبلت، ولذا وقف في وجه "ديون هارت" علنًا.
"هل تسمعني الآن؟!"
"..."
"أهكذا تعين الإمبراطورية بصفتك قائد الثورة؟!"
يا لصخبه.
عبس بول وهو يفيق من أفكاره، وكأن ما يراه لا يُحتمل.
أنا واثق أن "دانيال" هيونغ قد تخلّص من الكثير من الحمقى السطحيين، ولكنني لا أصدق أن مَن تبقى هم فقط أُناسٌ هكذا.
"أنا لم أساعد الإمبراطورية."
"كُفّ عن الكذب! الجميع رآك تدافع عن الإمبراطور!"
آه... يجب أن أهدأ.
بانغ! ... صفعت الطاولة وقد بلغ الضيق بي ذروته، وتعالت الأصوات فجأة.
"أنا لم أدافع عن الإمبراطور!"
"..."
"لقد أنقذْنا عالم البشر!"
أظنني بتّ أفهم الآن لمَ كان "دانيال" يضرب الطاولة. فلا شيء يُسكّن الغيظ، ويخرس الألسن في آن، مثلها.
"متى أنكرتُ أن الإمبراطور تافه، حتى وأنا أجادله؟! لم يكن الأمر كذلك! كل ما فعلته أنني استخدمت حديثي عن كم أن "ديون هارت" حقير! لأمنع تسلل مزيد من الخونة من عالم الشياطين. ولأحمي عالم البشر من بطش هذا العالم!"
"..."
"ثورتنا قائمة أصلًا على فرضية بقاء عالم البشر! فالثورة لا تقوم إلا على أرضٍ باقية! أما عالم الشياطين، فعدو لا يُستهان به. فإذا ما انقسم عالمنا البشري، استعصى عليه الصمود. وقد منعتُ ذلك!"
أُدرِكَ ما كانوا يخططون له.
لقد أراد أن يستغل الفرصة ويقيدني بقيود الطاعة... أنا القائد الشاب الساذج.
{م.م: في الترجمة الإنجليزية في الجملة الأخيرة الي فوق كان يذكرون الضمير "هو"، هي المفروض على حسب السياق يكملون في الضمير "هم"، ولكن ربما كان يتم القصد بـ"هو" "الدوق"، ولكن ما أعتقد هذا.}
ولكنني، وأنا وريث "دانيال"، قد تعلمت كيف أروض أمثالهم. فلا مكان للضعف هنا.
"..."
وحين استشعر الحاضرون نفَس "دانيال" يطفو من بين كلماتي، خيم عليهم الصمت.
لقد استقر في عقولهم أن هذا القائد ليس كما توهّموا، وأن مواجهته ليست بالأمر الهيّن.
وفجأة، تجرأ أحدهم، وبصوتٍ بالكاد يُسمع، اعترض قائلًا:
"... لكنك خرجت من دون أن تُعلِمنا بشيء..."
"لم يكن الوقت يسعني لأبلغكم. أعتذر عن ذلك."
والحق أن الوقت لم يكن كافيًا لإقناعهم فُرَادى بعد إبلاغهم.
أولئك الحمقى، ظنّوا أن اعتذاري خنوع، فأوشكوا أن ينبسوا بشيء، لكن "بول" لم يُمهلهم.
"لكن لو تكرر الأمر، فسأفعل الشيء نفسه. من يتقلّدون مناصب عليا في الجيش الثوري، عليهم أن يكونوا بعيدِي النظر، قادرين على احتواء المواقف. وبهذا، فهم يعلمون يقينًا أن ما جرى، كان لا بد أن يكون."
فَــوَجَمَ البعض، وانسحب الصمت من جديد.
ثم، رفع أحدهم يده وقال:
"كل شيء جيد... لكن، وماذا عن الثورة؟"
"لن تُقام إلا بعد انتهاء الحرب مع عالم الشياطين، وبعد أن يستعيد عالم البشر استقراره."
"وهذا يعني..."
"أننا ربما لن نرى الثورة في جيلنا."
فلندعها إذًا للأجيال القادمة.
وهنا تكمن العُقدة: علينا أن نتمسك بأولئك الذين خاب أملهم حين أدركوا أن الثورة لن تزهر في أعمارهم، لئلا يرحلوا.
'فبماذا أُقنعهم؟'
تذكّر "بول" ذلك السجال الشرس بين الشيطان والإمبراطور، وقد شهده برفقة "دانيال".
'السموّ.'
عليك أن توجههم لا نحو ما سيجنونه بعد الثورة، بل نحو الفخر بكونهم جزءًا من أمرٍ عظيم وجليل.
"... لأنني الآن مطالب بالتركيز على ما هو أعظم. دورنا هو أن نمهّد الطريق. لنزرع البذرة. لتجني الأجيال القادمة ثمار الثورة وتصنع عالمًا أبهى."
"وهذا يعني حماية عالم البشر."
"وهذا ما أفتخر به. لأنه أعظم من ثورتكم. نحن نحمي الإنسانية!"
الأجيال التي سبقتنا خاضت المحن في سبيل الإنسانية، وورّثتنا قبسًا للثورة.
{م.م: "قَبَسًا" = جُذْوة صغيرة من الحلم أو الفكرة، لا تزال مشتعلة، لتنتقل إلى من سيُتمّون المسيرة.}
فمن ذا الذي يرفض هذا الوسام الفاخر؟!
ابتسم "بول"، وقال:
"أما ترغبون في أن تُخلِّدوا أسماءكم في التاريخ؟"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي نهاية المطاف، جرت الرياح بما اشتهته سفن بول.
اتفق القادة على أن الذود عن عالم البشر أََوْلى من إشعال فتيل الثورة، بل وجعلوه في رأس الأولويات.
وبهذا القرار، غُلَّت أيديهم، فما عادت لمساعدته للإمبراطورية أي فائدة تُرجى. إذ ما إن يُقال: إنه لأجل عالم البشر، حتى يُغلق باب النقاش ولا يُفتح.
'لقد قررنا أن نُعلن على رؤوس الأشهاد ما بات مكشوفًا في حرب الألسنة.'
{(°): 'قررنا أن نُفصح للعلن عن أمرٍ كان الجميع يتحدث عنه مسبقًا، لكنه لم يُؤكَّد رسميًا.'.}
كان بول وجهًا معروفًا، ومَن يجمع من المعلومات طرفًا يسيرًا، فسيُخمّن هويته لا محالة. ومادام الأمر سلاحًا في أيدي العارفين، فالأجدى أن يُكشَف على الملأ.
فلنبدأ إذن بكشف أن مَن أشعل حرب الكلمات ضد ديون هارت، هو نفسه قائد الجيش الثوري.
'في الأمس/الماضي، التقى الشيطان والإمبراطور وجهًا لوجه، واليوم، أقف أنا قبالة ديون هارت، 'ممثّل عالم الشياطين.'"
وما دمت من عالم البشر، ووقفت أمام 'مُمَثِّلِ عالم الشياطين'، أفليس من الطبيعي أن يُنظر إلي كـ'ممثّل لعالم البشر'؟
ورغم أنه لم يكن في الحسبان، تقلّد بول الدور الذي كان من المفترض أن يؤدّيه الإمبراطور، فغدا قائد الثورة ممثلًا عن البشر.
'بفضلكم، سأُعرّف بالثورة وجيشها بين الأمم.'
وذلك رغم أنني كنت أعيش كل لحظة كأنها آخر أنفاسي.
فجيش الثورة، هو الحامل لراية عالم البشر.
عاد بول إلى مكتبه بخطى خفيفة، وهناك وجَد من ينتظره، فابتسم وقال:
"السيد إيرام، كنتَ في الانتظار؟ قلت إن لدي ما أُخبرك به، لكن ما كان ينبغي لك أن تنتظر طويلًا."
"..."
"آه، سبب دعوتي لك، أنني أرى وجوب تعيين خليفة منذ الآن. فنحن نعيش زمنًا مضطربًا، لا عجب فيه إن سقط أحدنا بين لحظة وأخرى. ولأننا نسلّم الثورة لأجيال تأتي من بعدنا، فالمُضيّ في الزخم أولى ما يُحفظ... لذا..."
"بول."
"نعم؟"
تغيّرت ملامح وجه بول شيئًا فشيئًا، وقد قرأ في قسمات إيرام حيرةً غامضة.
حَسِبَه تعبًا قد علا وجهه، لكن ما رآه لم يكن من أثر السهر، بل وقعُ أمرٍ جلل.
فتح إيرام فاهه غير ما مرة، ثم تنهد طويلًا، ووضع إصبعه على صدغه، وقال:
"تماسك، واسمع."
"ماذا هناك؟ ما الذي جرى؟"
"سِيَا مفقودة."
{م.م: سِيَا هي البنت الي كانت مع بول في الصغر، بعدين افترقوا -على ما أعتقد-.}
ساد الصمت، وأغلق بول فاهه، فيما حدق في عينيه كأن زلزالًا دبّ في محجريه.
كان يكنّ لـ"سيا" مكانة خاصة، فقد رأى فيها ظلّ أم دانيال. لكن، يبدو أنها اختفت حين غفل الحرس عنها برهة.
قد يكون ذلك طبيعيًّا، فهي دومًا في ذات الزاوية، كأنها جثة هامدة، لكن...
المصيبة أن الخصم هو قائد الثورة ذاته.
ولم يكن في طاقة إيرام أن يتنبأ برد فعله، فحدّق في بول بنظرات مرتجفة.
ثم، وبعد صمت مرير، نطق بول ببطء:
"...فهمت."
قالها بصوت هادئ، يتكئ على رُشدٍ مُتصنَّع.
فُوجئ إيرام، فما كان ذلك الرد ما توقعه، فحتى في تلك اللحظة، كان بول يسترد اتزانه سريعًا.
"ما دام الأمر كذلك... لن نجدها إن نشرنا الذعر."
"..."
"ابحثوا عنها في الخفاء، ولا يشعرنّ أحد أننا نفتّش."
كان بول قد تعلّم الكثير من دانيال.
كان له أستاذًا نقيًا في خُلُقه، ومثالًا يُحتذى به.
تعلم منه ما ينبغي أن يُحتفظ به، وما يجب أن يُلقَّن.
على الأقل، علم أن القائد لا يجوز له أن يُقدّم عاطفته على حكمته، ولو في محنة من يُحب.
"أظن أنك ستنفّذ ما قلتُ... فانصرف الآن، رجاءً."
"...حسنًا. لا تُرهق نفسك اليوم، وخذ قسطًا من الراحة."
ثم انصرف إيرام، بعد أن ألقى عليه نظرة أخيرة حافلة بالقلق.
وما إن سُمِع وقع الخطوات المتنحية، وأُغلِق الباب، حتى دفن بول وجهه بين كفيه، وظهرت من بين أصابعه دموعٌ دامعة باليأس.
وهمس صوته في المكان، كأنما كان أنينًا.
"إلى أين ذهبتِ، يا سيا...؟"