ثم ضحك الدوق.

ما من حماقة أفظع من الاتكال على العاطفة، إلا أن تطلب مني مودة، وكان حريًّا بك أن تلتمسها من سواي.

أعدك، إن اقتضى الأمر، سأقتلهم متى انتهى عقدي. وإن كُتب لهم النجاة، فلن يكون بدافع محبة، بل لأن بقاءهم أنفع، أو لأن قتلهم لا ضرورة فيه.

"[على أية حال، عشر سنوات قد مضت. وحتى يحين ذاك الوقت، فاعتبرهم كأبناء إخوتك، واعتنِ بهم حق العناية.]

[حتى وإن كان الأمر ذاته ينطبق على سائر أولادك، فإن الفارق بيني وبين الأمير التاسع لا يتجاوز خمسة أعوام. ابنَ أخ.]

[أتقصد أخاك حقًّا؟]

[...أراك بمنزلة ابن الأخ.]

مضت عشرة أعوام، ثم انقضى فوقها أعوام أخرى.

ورغم أن الأمير الأول لم يدرك ما جرى، ولم يكن له في ذلك قصد، إلا أن العقد ذا السنوات العشر كان خيارًا صائبًا. إذ لم تمضِ فترة طويلة على نيله القوة السحرية من ملك الشياطين، حتى أدرك الدوق أنّ تلك القوة قادرة على إبطال العقد.

ولأن للعقد أجلًا محددًا، أبقاه على حاله توفيرًا للطاقة. إذ لو لم يكن له زمن معلوم، لاستهلكت القوة السحرية في كسر القيود التي فرضها العقد. ولصار أولئك "الأطفال" الذين أراد الأمير حمايتهم في مهب الخطر.

"حسبته عقدًا يسيرًا، فكان أعقد مما تخيلت. لكني صبرت حتى مضى أجله."

كان الدوق ينوي، في الأصل، أن يختار دميةً أخرى ليتربع بها على العرش، حين يُطوى عهد الأمير الأول. وكان يعتزم أن يَسُوسَ الملك كيف يشاء، ليحفظ بذلك نسل الأمير.

{م.م: يُقال: يَسوسُ الناسَ: أي يُدبّر شؤونهم، ويقودهم، ويُدير أمرهم بالحُكم والرأي والتدبير.}

لكن ما لم يكن في الحسبان، أن الأمير التاسع، إدواردو ديزيرت، ذاك الذي كُلِّف بحمايته، قد قتل الآخرين واعتلى العرش. وهنا وجد الدوق نفسه أمام مأزق.

إنّ حماية المرء تستوجب قوّة تفوق كل شيء. وأوج تلك القوة أن تكون سيّد البلاد.

لكن، ويا للأسف، من وجب حمايته، هو من جلس على ذروة الحكم. والعقد الذي أُبرم ينص على احترام "الإرادة الحرّة"، لذا فإن إسقاطه لم يعد ممكنًا.

فقرّر الدوق، قائلاً في نفسه:

'لأستحوذنّ على الحكم، لا بالسيف، بل بسُبل السِّلم. يكفي أن أُمارس من الضغط ما يجعله يتخلّى عنه طوعًا.'

وهذا كان رأيًا يراه معقولًا.

إذ إنّ إدواردو ديزيرت لم يُدرِك بعد ثقل المسؤولية التي وُضعت على عاتقه. ولو كان أدرك، لما وُجد مخرجٌ غير هذا.

ومع ذلك، ظلّ الدوق يرقب الثلاثة طوال عشر سنوات، التزامًا بالعقد مع الأمير الأول.

فهل أحبّهم؟ هل خالط قلبه الودّ نحو "أبناء الأمير"؟ نحو إدواردو ديزيرت؟

'...'

حتى بعدما انقضت السنوات العشر، لا يزال الإمبراطور في عرشه.

ولا يزال ولي العهد وليًّا، والأميرة أميرة.

'ومهما يكن، فالوقت غير مناسب الآن فلا يمكنني أن ألمس شيئًا.'

{م.م: ربما يقصد بعدم إمكانه لمس شيء هو اعتلاء العرش، أعتقد؟}

إنها أيام مشغولة، تُبذل فيها الجهود لصون الإمبراطورية من الانهيار.

حوّل الدوق نظره عن المسائل المعقدة التي لا يسهل الإجابة عنها، ووجّه اهتمامه إلى الحاضر. وما دام الفعل مقيدًا، آثر أن لا يبالغ، بل وجّه قوته نحو "كنيسة الخلاص"، وراح يستثمرها في توحيد صفوف البشر من خلال معركة الرأي العام.

ومع أن الطريق لم يكن معبّدًا، إلا أن ما اعترضه من منغصات كان كافيًا ليُقال إن الحال بلغ أسوأ ما يكون.

'عبدة الشيطان/ديمون

(أستغفر الله)

، الجيش الثوري... أشياء ما كانت لتُظهر وجهها من قبل، تزحف الآن من تحت الرماد.'

وكان جيش الثورة قد ارتقى في أعين الناس بسرعة مريبة، حتى كاد يُرى كمن يخدم مصلحة البشرية.

وبالرغم من أن ذلك أزعج الدوق، إلا أنه علم أنهم سيكونون مفيدين، فألقى بمشاعره جانبًا. إذ إن هناك طائفة أشدّ إزعاجًا.

'الديمونية.'

ديانة لا تخفى شيطنتها على أحد، فما بالها تلقى هذا الرواج؟

وما إن بلغته التقارير بأنّ أصواتًا تهمس بـ"دي-سيه" في أزقة الأحياء الفقيرة قد كثرت، حتى شعر بضغط هائل، فمسح وجهه بيأس.

{م.م: يشيرون للديمونية بمصطلح:"دي-سيه"، ربما.}

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

'قال ديون أنه لا ضرر في أن تبادري، فتتقدّمي إلى عالم البشر.'

وبينما كانت قائدة الفيلق الحادي عشر (11)، "ليرينيل"، تعالج وثائق تتعلق بعبدة الشيطان/ديمون (أستغفر الله) الذين تسللوا إلى العالم البشري، عادت بها الذاكرة إلى الوراء.

[ألَا يجدر بنا أن نستبق الأحداث، حتى وإن كان الجهد دون طائل، خيرًا من أن نعجز وقت الحاجة؟]

[بلى.]

"[أجل؟ الديمونية (أستغفر الله.. الفكرة مزعجة.) تصلح لمعركة الرأي العام، وربما لا تبدو ذات نفع كبير، لكنها وسيلة لاستدعاء الشياطين أيضًا.]

وكان ذلك في خلوة خاصة لا تُنسى.

ذاك الرجل البشري، الذي كان يلامس فكه الوسيم ويبتسم، بدا في غاية الرقيّ والجمال. حتى الظلال تحت عينيه لم تُخفِ بهاءه، فهزّت ليرينيل رأسها، مأخوذة بسحره.

[بلى، ديون على صواب! ما إن أخذت الإذن من ملك الشياطين، حتى دخلت عالم البشر فورًا...!]

[لا. أحقاً علي الاسئذان من ملك الشياطين؟]

[نعم؟ لأن الأمر يمسّ عالم البشر...]

[هاه؟]

مال "ديون هارت" برأسه إلى الجانب، وانحنت زوايا عينيه كمن يبتسم بدهاء. كانت إصبعه، التي بدت كأنها تهمّ بطرق الطاولة، تدور بلطف على ظاهر كفّ "ليرينيل".

اهتزّ المكان، وكأن قلبي قد توقّف.

'لا، لا يمكنني أن أموت الآن!'

ما كنت لأموت و"ديون" أمام ناظري.

وثبتُ واقفة، أتشبث ببقايا عقلي التي همّت بالفرار. صاحت "ليرينيل" بحماسة وهي تمسك بأنفها الذي سال منه الدم منذ حين.

[بالطبع! سنبدأ على الفور!]

ضحك "ديون هارت" ضحكة خفيفة.

حتى لو تقدمنا في الخفاء، لا أظن أن ملك الشياطين سيتفطن لأمرنا. لم يكن الأمر سوى اختبار.

الشياطين تتبع والدها، ملكهم. فهل ذلك انقيادٌ مطلق؟ أم هو من باب التقدير لمن يتحمل عبء مصيرهم، وصِلة الدم؟

فإن كان الأمر الثاني، فـ"العصيان" أمرٌ ممكن، بل قد يُرفع السيف في وجه الشيطان نفسه.

[لا حاجة لتغيير اسم الديمونية. دعونا نتقدّم كما نحن.]

[نعم!]

وأبصرتُ بأمّ عيني أن القائد الأعلى يُقدّمني، "أنا"، على الشيطان نفسه.

عينا "ديون" المتلألئتان، والمخبوءتان خلف جفنين يبتسمان، كانتا تلمعان بوميض لا يُفسَّر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إزهاق الروح أمرٌ لا يُقدم عليه المرء إلا بعزمٍ جازم.

في الآونة الأخيرة، أدرك شيطانان هذه الحقيقة بمرارة.

"رضيع ديرنيڤان لا يكفّ عن البكاء. ماذا أفعل؟"

"..."

لا، في الحقيقة، شيطانٌ واحدٌ فقط هو من شعر بذلك.

"ديرنيڤان" حدّق بهدوء إلى قائده الذي كان يحدّق فيه بصمتٍ مريب، ثم مدّ يده نحو الطفل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أتراه حين سلّموه رأس شقيق الملك "رُويتشه"، أم عندما بلغه خبر سقوط مملكة "باراس"؟ في لحظةٍ ما، بدأ "ديون هارت" يرى الكوابيس.

كانت رؤى رديئة، موحشة.

أرواحٌ ناقمة تتبدّى في هيئاتٍ تشيب لها النفوس، لا يطيقها بصرٌ سليم.

[هل تنام قرير العين بعد أن أزهقت أرواحنا؟]

[لماذا فعلت ذلك؟ لماذا فعلت ذلك؟ لماذا فعلت ذلك؟ لماذا فعلت ذلك؟]

[استفق! لا تعش بوجهٍ صفيق... رجاءً متْ!]

آهٍ من الضمير، إن كان فيك بقية منه، فلا تُنكر أفعالهم وتقل أنها شنيعة، فالمُذنب أنا، لا سواي.

وقف "ديون" في صميم الحلم، يُطالع تلك الأشباح الصارخة في وجهه، تتقافز من كل صوبٍ بشتى الصور. كان بوسعه أن يُعرض، أن يُغمض عينيه، لكنه لم يفعل. كان يواجههم، يبادلهم النظرات، ثم يستفيق.

ومع تكرار ذلك، أدركت تلك الأرواح الناقمة، التي أهملها "ديون هارت" ذات موت، أن عويلها لا يُجدي، فتحوّلت إلى وجوهٍ يعرفها، تصرخ فيه بالموت.

'لكن هذا لا يهم على أي حال.'

كان ديون، كعادته، يحدّق في الأرواح التي اتخذت أشكالًا شتّى، تنفث لعناتها عليه، فرفع حاجبًا كأنما أحسّ شيئًا خفيًّا.

[مُت... مُت!]

تجاهلتُ الشتائم التي طالما تكررت على مسمعي.

الضباب الأسود، المعوجّ والمظلم، بدأ يتخذ هيئةً، كأنما يحاول تقليد ملامح بشرٍ أعرفه.

هيئة مألوفة، وطول أعرفه. ابتسم ديون ابتسامة واهنة، وقد خُيّل إليه أنه أدرك من هذا.

"أخيرًا."

كنت في الانتظار. متى يظهر؟ متى يتجرأ هو على لبس هيئته؟ لم أكن أظن أنّ الأمر سيطول حتى يعثر ذلك الكائن الساكن في رأسي على أكثر ما يؤذيني. أوشك عقلي أن ينفلت من حباله من طول الانتظار.

ومع تَشَكُّل الملامح شيئًا فشيئًا، لاح السواد المألوف لشعرٍ أعرفه، وما إن اكتملت ملامح الوجه أخيرًا...

هوووو!

ضوءٌ باهر انبعث من زاوية الرؤية، كأنه لفّ كل شيء بردائه الأبيض.

"...!"

فتح ديون عينيه.

الهدوء يملأ الغرفة من حوله، كأنما الضجيج السابق لم يكن سوى كذبةٍ أو حلمٍ مُزعج. رمش بعينيه، ونهض ببطءٍ من فراشه.

بدا الأمر كأنه لا ينتمي إلى الواقع، فظلّ على حالته الذهولية هنيهة. ولم يُدرك أنه عاد إلى صحوه إلا حين لفح النسيم، الداخل من نافذة مواربة، جسده المبتلّ بالعرق فجففه.

"...تُه..."

زفر زفرةً عميقة، ودفن وجهه بين كفّيه. ثم انطلقت ضحكة خاوية من أعماقه.

'لم أظنّ قطّ أنني سأُطرد...'

لكنني أدركت، بالفطرة، أنني لم أُطرَد من ذاك الحلم. بل أنا من غادره بإرادتي.

آنا الذي استجاب لنداء البقاء؟ تلك الغريزة المتجذّرة في كل حيّ؟ انتفض داخلي اشمئزازًا، فرفعت رأسي، فلامس بصري ستارةً تُرفرف.

هناك، في الجانب ذاته، رأيت النافذة التي يهبّ منها النسيم، وإلى جانبها زهرةٌ وُضعت على الشرفة. كان منظرها تحت ضوء القمر الناعم غريبًا إلى حدٍّ جعلني أحدّق فيها مسحورًا.

'...قال هين أنها زهرة جلبها من عالم البشر.'

هبطتُ عن سريري برويّة.

وما إن فارقتُ غطائي، حتى داهمني البرد، وبدني المبتلّ عُرّي لريح الليل، فارتعد، لكنني لم أُبالِ، ومضيت نحو النافذة.

الزهرة، وقد نظرتُ إليها عن كثب، كانت أكثر تماسكًا مما تخيّلت.

"لا شمس... ومع ذلك نضرتها لم تذبل."

ألعلّها تحت تأثير السحر؟ لعلّها، ما دامت هنا، في عالم الشياطين؟ من رآها، ظنّها قُطفت للتو.

تأملتُ الزهرة برهةً، ثم أسندتُ جسدي إلى إطار النافذة، وأطبقت ذقني على كفّي. ثم أملتُ رأسي لأحدّق بها من زاويةٍ أخرى، وتمتمت همسًا:

كلماتٌ، لا سامع لها، تناثرت في صمت الفجر.

"لو أن أخي طلب مني الموت، لمتّ بكل رضاً وسعادة."

في اللحظة التي تبدّلت فيها هيئة الطيف، أدركتُ الحقيقة.

إنه كرويل. هذا هو الأخ البِكرُ الذي انتظرته طويلًا. لقد تقمّص الطيف صورته، ليهمس لإنسانٍ لم يستطع الموت لأن أخاه أنقذه لأن يموت.

لفح البرد شعري، واهتزّت الزهرة لفرط الريح، كأنها ترجوني أن أَعْدُلَ.

فابتسم ديون ابتسامة شاحبة.

"حسنًا... لعلّ اليوم ليس اليوم المنشود."

إن غيّرت رأيك، تعالَ إليّ يا أخي، متى شئت.

ومنذ تلك الليلة... لم أرَ كابوسًا بعدها.

كانت فجراً صامتًا، والعالم نائم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"...ما الذي تفعله؟"

"أربط لك الحزام."

"ولِمَ تربطه إلى فخذي."

اليوم يوم اجتماع، لا حرب. فلم الحزام إذن؟ لا غمدَ خنجر هنا، بل حزامٌ فقط.

غير آبهٍ بنظرات الدهشة، واصل "بن" شدّ الحزام الجلديّ القاسي على فخذ ديون.

"دوماً تُنهك فخذيك، فدعني أربطه لك."

"..."

رغم نُقصِ تركيب الجملة، لم يكن في فهمها مشقة.

رفع "بِن" عينيه إلى ديون الصامت، وأردف بإصرار:

"من اليوم وصاعداً، رجاءً اِحمل سجائرك في هذا الحزام."

"...إن استمرّ الأمر هكذا، سأتأخر عن الاجتماع. أظنّنا انتهينا، فانهض الآن."

ضيّق بن عينيه، كأنما ضايقه التجاهل، لكن ديون تجاهله ووقف.

لطالما اعتاد حمل غمد الخنجر، غير أن شعور الحزام اليوم كان خانقًا، فألقى عليه نظرة عابرة.

في الممرّ، كان يمشي وهو يفكّر.

'ماذا أقول لأقنعهم؟'

في المرّة الماضية، أصررت على عبور أراضي الدوق. وألقيتُ العبء على إيديليا، التي رغبت في اتخاذ طريقٍ آخر.

وسيُعاد فتح ذلك الجرح من جديد. أحتاج إلى حجّة أقوى، فلا الشيطان سيخرج ليساندني، ولا الحجج تُؤتي أُكلها بلا منطق...

"قائد الفيلق الصفري (0) قد وصل."

...ووصلتُ أمام باب قاعة الاجتماعات، ولم أفلح بعد في ترتيب أفكاري.

2025/06/19 · 15 مشاهدة · 1698 كلمة
نادي الروايات - 2025