كانت إيف تظن أنها ستسقط أرضًا دون أدنى مقاومة، فغمضت عينيها بقوة متوقعة ألمًا مريعًا يوشك أن يداهمها.
لكنها لم تُصب حتى بأبسط كدمة، إذ وجدت نفسها بين ذراعي شخص ما.
'من هذا؟'
'هل هو ذلك السائق من قبل؟'
لكن رائحة جسده المنعشة والمألوفة الشبيهة بعطر الحمضيات، والدفء الذي يحيط بها، جعلا قلبها يخفق في غير انتظام حين أدركت منيحتضنها.
“باليريان…”
…ما الذي يفعله هنا؟!
كانت إيف مضطربة بين ذراعيه، لكن باليريان أحكم الإمساك بها بثبات.
لم تستطع رؤية تعابير وجهه بوضوح، إذ حجبتها أمطار غزيرة.
لكنها لاحظت شيئًا… رائحة دم!
ظنت لوهلة أنها تتوهم، لكن حاستها القوية للشم أكدت لها أن ما تشعر به حقيقي.
أخذت تتساءل من أين تأتي هذه الرائحة، ثم فجأة خفق قلبها بقوة.
'مهلاً… إن كان قد تلقاني من ذلك الارتفاع…'
هي لم تُصب بشيء، إذًا من المنطقي أن يكون هو قد تأذى بدلاً منها.
سارعت بالكلام بقلق:
“هل أنت بخير؟ هل أصبت في مكان ما؟”
أرادت أن تفحصه، لكنها كانت لا تزال محاصرة في أحضانه، غير قادرة على التحرّك.
عندها سمعت صوته المألوف يعلو فوق رأسها:
“أنا بخير يا إيف.”
رغم أن صوته بدا مطمئنًا، إلا أنها لم تصدقه.
“لكن… أنا أشم رائحة دم!”
لم تستطع كبح مشاعرها، فغرورقت عيناها بالدموع.
“ومن هو الأحمق الذي يرمي بنفسه ليتلقى الساقطين من فوق الأحصنة؟!”
فقال بهدوء:
“إنها إصابة بسيطة في ساق الحصان، يبدو أنه جُرح من أشواك العليق.”
لكن إيف لم تطمئن لكلماته، وأخذت تجهد نفسها لتفلت من بين ذراعيه، حتى نجحت في النهاية.
كان من المهم أن تطمئن على حاله قبل أي شيء.
لم تكن الرؤية واضحة بسبب المطر، لكنها لم تلاحظ جروحًا ظاهرة عليه، فهل كان يقول الحقيقة إذًا؟
“آه!”
وهي تراقب، انزلقت قدمها في حفرة موحلة، ومال جسدها إلى الخلف فجأة.
إلا أن باليريان أمسك بذراعها بسرعة، مانعًا سقوطها.
“المطر يشتد، من الأفضل أن نغادر الغابة فورًا.”
“…حسنًا.”
تشبثت إيف به وبدأت تتحرك ببطء خارجة من الغابة.
ثم تمتمت:
“بالمناسبة… ألم ترَ أحدًا منذ قليل؟”
“من؟ غيركِ، لم أرَ أحدًا.”
فهل غادر السائق الغابة بالفعل؟ لم تصدق أنه مضى في طريقه دون أن يلتفت، لكنها تقبلت الأمر.
'في النهاية، حياة المرء أغلى ما يملك.'
فهمت تصرفه من هذا الجانب.
وبينما كانت تسير بخطى ثقيلة بجوار باليريان، شعرت في قرارة نفسها بالارتياح لأنهما لم يتعرضا لأذى.
وبعد دقائق قليلة فقط من المشي، توقف المطر فجأة.
ثم انقشعت الغيوم، وظهر صفاء السماء، فشعرت إيف بفراغ غريب، كأن تقلب الطقس هذا مجرد مزحة سخيفة من القدر.
“…كيف وصلت إلى هنا؟”
قطعت إيف الصمت أخيرًا، فأجاب باليريان بصوت هادئ:
“ذهبت إلى قصر الكونت صباحًا، ولم أجدك.”
“فجئت لتلحق بي؟”
“نعم.”
قالها بكل بساطة، كأن تتبعها كان أمرًا طبيعيًا.
لم تصدق وقاحته، لكنها لم تعلق.
ففي النهاية، لولا تدخله لكانت قد أُصيبت، وربما أسوأ… فهل عليها أن تشكره؟
'يا لها من معضلة.'
“ظننت أنكِ هربتِ.”
قالها مبتسمًا بخفة، وأضاف:
“لكني سعيد لأن ظني كان خاطئًا.”
نبرته التي تنضح بالارتياح جعلت إيف عاجزة عن الرد.
ففي الليلة التي تقدم فيها للزواج، فكرت فعلًا في الهرب تحت جنح الظلام.
لكنها لم تفعل.
'وإلا، ماذا عن عائلتي؟'
رغم أنهم أخفوا عنها الكثير، إلا أن حبهم لها لم يكن يومًا موضع شك.
ولو هربت فجأة، دون أي كلمة، لما ترك الدوق لودفيغ عائلة إيف في سلام، خاصة وهو المعروف بشدته.
'قطعًا، لن يسكت.'
لهذا السبب، لم تستطع التخلي عن عائلتها والهرب.
وكان لابد من التفكير بحل آخر… كأن تتحالف مع ولي العهد.
لو أصبحت خطيبته، فلن يجرؤ الدوق على مهاجمة عائلتها علنًا.
“لن أهرب، فلا داعي للقلق.”
قالت إيف. فهي لم ترغب أبدًا في أن تعيش فارّة، لأن هروبها سيجرّ عائلتها معها إلى المصير ذاته.
“إيف، لماذا ذهبتِ إلى القصر الإمبراطوري؟”
“…كان هناك شخص عليّ أن أقابله.”
لكنها ابتلعت باقي الحديث، لم ترغب في شرح التفاصيل الآن.
خصوصًا أن ولي العهد قد اعتبر اقتراحها ضربًا من الجنون، مما جعلها تفقد الأمل تمامًا.
وحين لم تجب بوضوح، أمسك باليريان بيدها.
كانت يده لا تزال باردة من البلل.
“…إيف، إن كنتُ قد أخطأت بحقك، أخبريني.”
“لم ترتكب أي خطأ. حقًا.”
قالتها بصدق، ونظرت إليه متمنية أن يصل إليه صدق مشاعرها.
“الخلل فيّ أنا.”
قالت بصوت منخفض، متضايقة من نفسها لعجزها عن قول الحقيقة.
“ففي النهاية، لا شيء أكثر تقلبًا من مشاعر البشر… وأنا لم أكن استثناء.”
أكدت مجددًا أن مشاعرها قد تغيّرت.
فنظر إليها باليريان بعينين لا تشبهان البرود، بل أشبه بشرارة زرقاء متقدة فيهما.
“ومع ذلك، لا يهم.”
“…ماذا؟”
لم تصدق إيف ما سمعته. ما معنى أن يقول إنه لا يمانع رغم أنها قالت له صراحةً إن مشاعرها قد تغيّرت؟
راودها القلق والريبة
'هل ضُرب باليريان على رأسه؟ هل أصابه شيء ما؟'
“قلت لكِ، لا يهم، يا إيف إستيلّا.”
رافق كلماته تلك ابتسامة هادئة ارتسمت على شفتيه، نفس الابتسامة التي اعتادت رؤيتها منه، لكنها لم تعد تراها ببساطة كما كانت من قبل.
“ما يهمني هو أن تبقي إلى جانبي، هذا فقط.”
تجمدت إيف من الذهول، وقد ارتبكت مشاعرها بالكامل.
كان كل شيء في رأسها متشابكًا وفوضويًّا. بدا لها مختلفًا كثيرًا عن الصورة التي عرفتها عنه طوال تلك المدة.
لقد كانت تتوقع ردًّا على هذا النحو:
– إيف، كيف تجرؤين؟ كيف يمكن أن يتغير قلبك بهذه البساطة؟
– أنا آسفة يا باليريان.
– حسنًا، طالما هذه مشاعرك، فلا داعي لأن نلتقي مجددًا.
كانت تظن أن شيئًا من هذا القبيل سيحدث.
فهي تعرف جيدًا أن باليريان يقدّر الإخلاص والثقة فوق كل شيء، وكان من الطبيعي من وجهة نظرها أن يدير ظهره لها دون تردد.
ظنت أنه سيشعر بخيبة أمل عميقة أو ربما حتى بالاحتقار تجاهها. لذلك كان من الصعب عليها أن تعترف بتغيّر مشاعرها أمامه.
لكن أيًّا من ذلك لم يحدث.
ردّة فعله لم تكن ضمن أي من السيناريوهات التي تخيلتها.
'هل كان هكذا أيضًا في القصة الأصلية…؟'
أصبحت تشعر بالارتباك، وكأن أحداث القصة التي تعرفها لم تعد تنطبق على الواقع الذي تعيشه الآن.
لكن خبر قدوم القديسة الذي نقلته رئيسة الكهنة أرييل، كان متطابقًا تمامًا مع أحداث القصة الأصلية…
'فلماذا يتصرف هو بهذا الشكل إذن؟!'
تصرفات باليريان التي لم تسر كما توقعت، سبّبت لها ارتباكًا متواصلًا لم تستطع التخلص منه.
وهكذا، عادت إيف إلى قصر إستيلّا وهي في حضن باليريان على ظهر الحصان.
“إيف! ما الذي حدث؟! و… باليريان، ما هذا المنظر؟!”
تفاجأ الكونت والكونتيسة من رؤية ابنتهما وخطيبها وهما يبدوان وكأنهما غارقان حتى العظم بماء المطر، كفأرين مبتلّين.
“روز! أحضري لهما كوبين من الشاي الساخن بسرعة!”
أمرت الكونتيسة خادمة إيف، وانطلق الخدم في حركة سريعة لإحضار البطانيات والشاي.
في صالون الاستقبال، جلس كل من إيف وباليريان جنبًا إلى جنب أمام الموقد الكبير، وغطيا نفسيهما بالبطانيات.
“أريد أن أكون معه وحدي لبعض الوقت، يا أمي وأبي.”
“…فقط لا تطيلي الجلوس، يا ابنتي.”
استشعر والداها الأجواء الغريبة التي تسود بينهما، وغادرا الغرفة بهدوء.
'حسنًا.'
وما إن أصبحا بمفردهما، وقبل أن تنطق إيف بكلمة، حتى نزع باليريان البطانية عن نفسه وغطّاها بها وحدها.
نظرت إليه إيف بدهشة، وقالت معترضة:
“ستُصاب بالبرد إن فعلت هذا.”
وأشارت إليه أن يعيد البطانية إليه، لكنه لم يتحرك.
“أنا بخير.”
بل زاد على ذلك أن أحكم لفّ البطانية حولها، وكأنه يرفض أن يتلقى منها أي عناية.
“جسدي دافئ بطبيعته.”
توقفت إيف لحظة عند هذه الكلمات، وتذكرت شيئًا سمعته من قبل:
'قالوا إن مَن يرث قوة الشمس يحمل في جسده شعلة صغيرة منها…'
ولهذا، كانت حرارة جسده أعلى من حرارة الإنسان العادي.
لكنها لم تستطع نسيان كيف أن يديه كانتا باردتين تحت المطر. ذلك جعل قلبها ينقبض رغمًا عنها. لكنها لم تقل شيئًا.
لو عبّرت عن قلقها أكثر من ذلك، فقد يظن أنها لا تزال تحتفظ بمشاعر تجاهه… وهذا ما لا تريد إظهاره الآن.
في تلك اللحظة، طرق أحدهم الباب.
نهض باليريان أولًا وفتح الباب.
رأت إيف من خلال فتحة الباب الرجل الذي كان يرتدي زي الفرسان المقدّسين. ولم تستطع أن تُبعد ناظريها عنه.
استمعت دون أن تقصد.
“سيدي القائد، نعتذر على الإزعاج، لكن شُوهد شيطان يخرج من صدع بين الأبعاد.”
“أين؟”
“في الجهة الغربية من غابة ديلرينو.”
شعرت إيف بقشعريرة تسري في جسدها.
'إنها نفس الغابة التي مررنا بها…'
بل إن الشيطان خرج من الجهة الغربية تحديدًا، تمامًا كما أتوا هم.
تجهم وجه باليريان بقلق حاد، فور علمه بظهور صدع بالقرب من العاصمة.
“سننطلق فورًا.”
ألقى نظرة سريعة على إيف، ثم خرج من الغرفة دون كلمة إضافية.
جلست إيف تحتضن ركبتيها، وهي تشعر بفراغ ثقيل لا تعرف سببه.
كانت رائحة خافتة من عطره لا تزال عالقة في البطانية التي غطاها بها.
'كنت أعلم أنه سيذهب.'
موقفه ذلك، اندفاعه دون تردد لقتال الشياطين، كان مطابقًا تمامًا لما كانت تعرفه عنه في القصة الأصلية.
رغم أنه تصرف في كل شيء حتى الآن بشكل مختلف، إلا أن هذا الموقف أعاده إلى صورته الأصلية التي كانت تحفظها جيدًا.
لكن رغم ذلك، شعرت بمرارة غريبة، كأن في فمها رملًا.
وفي تلك الليلة، وصل خبر إلى إيف من الكنيسة الرئيسية.
باليريان أصيب أثناء قتاله أحد الشياطين، وقد فقد وعيه.
ترجمة : سنو
انستا : soulyinl
واتباد : punnychanehe