رغم الحشود الغفيرة من النبلاء، ظل قلبها هادئًا... حتى لمحته. حينها فقط، بدأ ينبض بقوة، كمن استيقظ فجأة وبدأ يعدو.

'هل رأانا؟'

كان يرتدي زي الفرسان الملكيين الذهبي، يفيض أناقة وهيبة، كأنما خُلق ليكون بطل هذا العالم. لم تستطع إيف أن تبعد عينيها عنه، وكأنها مسحورة.

كان باليريان قد صرف نظره للحظات عن المكان، لكن ما إن اقترب منه فارس آخر يرتدي الزي نفسه، حتى بدا وكأنه تذكّر أمرًا مهمًا وغادر مسرعًا.

'هاه.'

تنفست إيف الصعداء بصدق، وقد نسيت للحظة هدفها من هذه المناسبة. ثم انتبهت لنفسها فجأة.

'ما الذي أفعله بحق خالق السماء؟'

كانت الغاية من هذه الخطبة أن تجعل باليريان يتخلى عنها... فكيف بها الآن تتجنبه؟ يا لها من مفارقة غريبة.

'تماسكي يا إيف.'

ومع عزمٍ متجدد، وضعت يدها برفق في ذراع ولي العهد، متشابكة معه كأنهما عاشقان.

"هيا، تظاهر بأنك لطيف."

همست له وهي تغمز بخفة على جانبه. تردد قليلًا للحظة، ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة مزيفة من أجل المظهر.

كانت ابتسامة متكلفة لا تخفى على أحد، حتى على إيف نفسها. ومع ذلك، فقد غطّى جماله اللافت على سوء تمثيله.

ومع كل خطوة يخطوانها سويًا، كانت همسات الحاضرين من النبلاء تتعالى أكثر فأكثر.

"أليست تلك الآنسة إستيلا؟"

"نعم، خطيبة الدوق الشاب لودفيغ..."

"يا إلهي...!"

عندما رآهم أحد الخدم، صاح داخل القاعة:

"سمو ولي العهد زافيير لو هيليوس، و الآنسة إيف إستيلا، قد وصلا!"

وبينما تُفتح الأبواب الكبرى لقاعة الحفل، دخلت إيف برفقة ولي العهد.

وفور دخولهما، خيّم على القاعة صمتٌ ثقيل، كأن الماء البارد صُبّ على رؤوس الحاضرين. لكن السكون لم يدم طويلًا، فما لبث أن تبدّد سريعًا، ليحل محله همس متسارع، يحمل مزيجًا من الدهشة والفضول.

"ما الذي يحدث هنا؟"

"لم أتصور يومًا أن يحضر ولي العهد الحفل بصحبة الآنسة إستيلا!"

وحتى إيف نفسها لم تكن تتخيل ذلك يومًا.

'من كان يظن أنني سأقف إلى جانب زافيير في حفل ظهور مثل هذا...'

لم تكن علاقتها به ودية على الإطلاق... بل كانت أقرب للعداء.

'لكن... الأمر لا يبدو غريبًا كما تخيلت.'

اندهش الحضور من هذا الثنائي الغريب، لكنهم لم يستطيعوا إنكار الهالة الساحرة التي أحاطت بإيف، فأخذوا يحدقون فيها بإعجاب.

غير أن تلك الدهشة لم تدم طويلًا.

"لكن... ماذا عن الدوق الشاب لودفيغ؟"

بمجرد أن نُطق السؤال، انفجرت الهمسات كالنار في الهشيم.

أما إيف، فلم تكن تُنصت لهم حقًا، بل كانت تراقب القاعة بعينين حذرتين... إلى أن وقعت عيناها على الدوق لودفيغ، فاشتدّ وجهها وجمود.

كان يشرب الكوكتيل بهدوء، وحين لمحها واقفة إلى جوار زافيير، اكتفى بنظرة خاطفة قبل أن يصرف بصره.

لاحظ زافيير أين كانت تنظر، فقال:

"إن كنتِ تقصدين الدوق لودفيغ، فهو على علم مسبق بالأمر."

"ماذا؟!" صُدمت إيف. إن كان الدوق يعلم... فهل يعني ذلك أن باليريان أيضًا يعلم؟

لكن كيف عرف بهذه السرعة؟

"في مثل هذا المكان، لا يمكن ترتيب أمر كهذا دون موافقة الدوق الضمنية."

كان زافيير كفيلًا بإزالة شكوكها بجملة واحدة.

"إذًا... لقد وافق."

تمتمت إيف، وقد غمرها شعور غريب. خمس سنوات قضتها تراقبه، فكيف له أن يوافق بهذه السهولة؟

'ربما شعر بالخيانة.'

حتى بنظرها، ما حدث كان غير عادل.

ابنه ذهب إلى غابة التنانين مخاطِرًا بحياته، بحثًا عن علاج لخطيبته... وفي المقابل، ها هي تلك الخطيبة تعلن خطبتها لولي العهد.

كان من المفترض أن تعتبر نفسها محظوظة لأنه لم يخرج سيفه ويهاجمها أمام الجميع.

'هل يعني هذا أن باليريان يعلم أيضًا؟'

شحب وجهها فجأة، ولاحظ ولي العهد تغير ملامحها.

"هل هناك ما يقلقك؟"

"أه... هل تعتقد أن باليريان يعلم؟"

"أظن ذلك، لكن لا يمكنني الجزم."

لم يُظهر زافيير ذلك، لكن القلق كان يعصف به أيضًا. كان يعلم تمامًا أن وقع الخبر على باليريان سيكون قاسيًا.

'لا شك أنه تلقى صدمة عنيفة...'

استعاد زافيير في ذهنه الوصية التي أخبره بها والده. لم يكن الوقت مناسبًا الآن لمراعاة مشاعر صديق.

ما كان عليه فعله الآن هو ضمان أفضل بيئة ممكنة للاستعداد لمواجهة الشياطين. وكلما قلّت مصادر الخطر، كان ذلك أفضل.

بهدوء شديد، التقط زافيير كأسين من الشمبانيا من العربة القريبة.

قدّم أحدهما إلى إيف وقال:

"ربما تشعرين بتحسن بعد قليل من الكحول."

"لا جدوى من ذلك،"

أجابت مبتسمة بفتور،

"منذ أن أعطاني ريان ذلك الإكسير، لم أعد أتأثر بالكحول."

"... حقًا؟"

أطلق زافيير تنهيدة إعجابٍ من شفتيه.

ففعالية الإكسير، الذي لم يكن يُروى عنه سوى في الأساطير باعتباره عشبة الخلود، بدت مذهلة حقًا.

"كان يجدر بي أن أقدّمه لجلالة الإمبراطور، لا لنفسي. أعتذر لذلك."

"ذلك الإكسير كان من نصيب الآنسة إستيلا منذ البداية، ولا حاجة لأن تعتذري."

قال كلماته دون أن يبدُ عليه أدنى أثر للندم، كان رجلًا بسيطًا ومباشرًا في كل شيء.

عندها فقط، أقرت إيف في نفسها بأن زافيير، في القصة الأصلية لم يكن يختلف كثيرًا عن الشخص الذي تراه أمامها الآن.

'لكن، لماذا كان يعاملني بجفاء من بين الجميع؟'

عادت تتساءل في داخلها، ما السبب الذي جعله يتصرّف معها بتلك البرودة؟ هل فقط لأنها كانت خطيبة باليريان؟ لا يبدو أن هذا هو السبب الكامل...

وفي تلك اللحظة، تذكّر بعض النبلاء أمر الإكسير، وبدأوا يتهامسون وهم ينظرون إلى إيف:

"كنت أظن أنها ستحضر الحفل برفقة الدوق الصفير لودفيغ، الذي أنقذ حياتها."

"ما الذي جرى حقًا؟ هل يعقل أن...؟"

عندما سمعت إيف ذلك الكلام، شعرت وكأنها ابتلعت مئة حبة بطاطا حلوة دفعة واحدة، وانقبض صدرها بشدة.

بدأ شعور تأنيب الضمير، الذي تجاهلته طويلًا، يثقل على قلبها

وإن عرفوا أن ما حدث لم يكن سوى تمثيلية...؟

لو تجرأ فاليريان، الذي يعلم أنها كانت تتصنّع المرض، على الإفصاح بكلمة واحدة... فستكون نهايتها محتومة.

ولن يكون غريبًا إن قاد الدوق لودفيغ جرّافة وسحق بها قصر عائلة الكونت إستيلا بأكمله.

وبدأت تُدرك الآن كم كانت فكرتها متهورة وخطيرة.

'زافيير... ستنقذني، أليس كذلك؟'

نظرت إليه برجاء شديد، لكنه تفادى نظراتها بشكل واضح كأن الأمر أثقل عليه.

قال هامسًا وكأنه يردّ على نظراتها المقلقة:

"لِمَ تنظرين إليّ بتلك الطريقة؟ تشعرني بالنذير السيئ."

كلامه ذاك أصاب إيف بالإحباط الفوري.

'كما توقعت... ليس شخصًا محبوبًا.'

يبدو أن شخصية "الرجل الرقيق الحنون" التي كانت له في الرواية، كانت مخصصة فقط ليوري، بطلتها الأصلية.

أما بقية النبلاء الذين راقبوا المشهد، فقد بالغوا في تفسيره بطريقتهم الخاصة وبدأوا بالهمس والإعجاب:

"يا إلهي! يبدو أن صاحب السمو واقع في غرامها فعلًا!"

"يا للعجب...!"

'يا لها من قدرة على إساءة الفهم. ألا يرون أن هذا الثنائي بينهما من التوتر والغرابة ما يكفي؟'

لكن النبلاء يملكون قدرة خارقة على رؤية ما يريدون فقط. كانوا يتخيلون بين الانسة إيف وزافيير علاقة سرّية مليئة بالهمسات والتقارب.

'لماذا يكون صاحب السمو مع الآنسة إستيلا؟'

'ألا يعني هذا أن هناك علاقة خاصة بينهما؟'

'لا يمكن! العلاقة بينهما وبين الدوق الشاب لودفيغ وطيدة جدًّا... أتقولان إنهما خاناه؟'

هكذا تقريبًا تخيّلت إيف الأحاديث الدائرة خلف ظهرها، وتمنّت أن تصل هذه "الثرثرة" سريعًا إلى آذان يوري المنتظرة للظهور.

حب يولد من بين الآلام...

تمنّت من قلبها أن تعتني يوري جيدًا بـ باليريان الجريح وتخفف عنه.

في تلك اللحظة، دوّى صوت حاجب القصر في أرجاء القاعة:

"جلالة الإمبراطور يدخل الآن!"

فما كان من النبلاء إلا أن شقوا الطريق يمينًا ويسارًا كما لو أن معجزة موسوية قد حدثت.

قاد زافيير إيف لتقف في أقرب نقطة إلى ممر دخول الإمبراطور.

همست إيف له بصوت خافت وقد انحنت برأسها قليلاً:

"لكن... كيف سنشرح هذا لجلالته؟"

كانت تشعر بقلق بالغ من أن يتأثر الإمبراطور، الذي أضناه المرض، بهذا الخبر فيسقط مغشيًّا عليه من الصدمة.

لكن زافيير أجابها بهدوء:

"جلالته على علم بكل شيء، لا تقلقي، لن يحدث ما تخشينه."

"آه... حسنًا."

لم تستطع إيف إلا أن تتساءل.

'هل هناك أحد لا يعرف بالأمر بعد الآن؟'

رفعت رأسها قليلًا لتنظر في اتجاه الإمبراطور، وهناك رأت باليريان واقفًا بجواره.

ما إن التقت نظراتهما، حتى خفضت عينيها بسرعة، وقلبها خفق بقوة.

"يا آنسة."

نادى زافيير عليها بهدوء بعدما لاحظ تصلّب جسدها وتجمّد حركتها.

وبينما تحاول استجماع هدوئها، أدارت رأسها ببطء نحوه.

وها هو الإمبراطور، قد وقف أمامها بالفعل.

كان يشبه زافيير في شعره الأسود، وقد طبع الزمن خطوطًا رفيعة حول عينيه، إلا أن ملامحه لا تزال وسيمة بوضوح، مما يدل على أنه كان رجلًا فائق الجاذبية في شبابه.

"جلالة الإمبراطور، هل أنت بخير؟"

لوّح الإمبراطور بيده وهو يبتسم.

"لا تقلق عليّ، لو لم أكن بخير لما وقفت هنا اليوم."

لكن رغم كلماته، بدا على وجهه شحوب واضح، دالٌّ على مرضٍ شديد.

'ذلك الإكسير...'

بمجرد أن رأت الإمبراطور، تذكرت إيف على الفور إكسير كابيلا الذي أكلته.

شعرت وكأنها أضافت ذنبًا جديدًا إلى سجلها.

قال الإمبراطور بلطف وهو يوجه كلامه إليها.

"أنت إذن ابنة الكونت إستيلا؟ سررتُ بلقائك."

انحنت إيف قليلاً وردّت بكل أدب.

"نعم، أنا إيف إستيلا. يشرفني لقاؤك يا جلالة الإمبراطور."

"لقد سمعت من والدك الكثير من المديح عنك، حتى كادت أذناي تتعبان! ولا عجب، فقد ورثتِ الكثير من ملامحه."

"أشكركم على كلماتك جلالتك."

شعرت بالخجل وهي تتخيل والدها يتفاخر بها حتى أمام الإمبراطور، فخفضت عينيها بحرج شديد.

'آه... أشعر وكأنني سأموت من الإحراج.'

لكن الإمبراطور اكتفى بأن ضحك ببساطة على رد فعلها العفوي، وكان في ابتسامته دفء خفف من توترها.

'إنه أكثر ودًّا ولينًا مما تخيّلت.'

على خلاف الصورة المخيفة التي كانت تتوقعها، بدا الإمبراطور حسن الطِباع وطيب المعشر. رغم أنها لا ترغب في الاعتراف بذلك، إلا أنها بدأت تفهم ممن ورث زافيير بعض صفاته.

"وهل الكونت بخير؟"

ردّت إيف بهدوء، تسرد أخبار والدها بصوت لطيف.

لكن أثناء حديثها، شعرت بنظرات تراقبها.

وحين استدارت، وتعرّفت على صاحب النظرة... تجمّدت في مكانها.

كان باليريان.

يرتدي زيّ فرسان القصر الإمبراطوري، ووقف تحت الضوء متألّقًا كالشمس.

بدا وكأنه النجم الحقيقي لهذا العالم.

وما إن التقت عيناه بعينيها، ثم نظرت إلى زافيير الواقف بجانبها، حتى لاحظت كيف بردت نظراته شيئًا فشيئًا.

وفي تلك اللحظة، أدركت إيف الحقيقة...

'باليريان... لم يكن يعلم بالأمر.'

ترجمة : سنو

انستا : soulyinl

واتباد : punnychanehe

2025/06/04 · 15 مشاهدة · 1508 كلمة
᥉ꪀ᥆᭙
نادي الروايات - 2025