مرّ شهران منذ تلك الليلة المروعة التي واجهت فيها أهوال البرج القديم، وتلك الزيارة الغريبة من والدي وأليستر.
شهران قضيتها حبيس جناحي، أتعافى ببطء من الآثار الجسدية والنفسية لتلك التجربة التي كادت أن تودي بحياتي.
الأطباء الذين أرسلهم والدي كانوا قد فعلوا ما بوسعهم، والمؤكلات الفاخرة ساعدت جسدي على استعادة بعض من قوته، لكن الندبة الفضية على صدري، وذلك الألم الخفيف الذي كان ينبض تحته أحيانًا، كانا تذكيرًا دائمًا بالرعب الذي واجهته، وبالغموض الذي لا يزال يلف شفائي الغريب.
التوتر غير المعهود الذي بدا على والدي وأليستر في تلك الليلة تلاشى كأنه لم يكن، وعادا إلى طبيعتهما المعتادة:
الدوق كتلة من الظلال الصامتة التي لا يمكن سبر أغوارها، وأليستر ذلك السياسي البارد الذي يدير شؤون العائلة بحسابات دقيقة.
هذا التغير جعل تلك الليلة تبدو وكأنها حلم غريب، أو هلوسة من تأثيرات البرج، لولا الندبة التي تؤكد حقيقتها.
كنت أواصل تدريباتي الجسدية في حديقة جناحي المعزولة، أحاول دفع جسدي إلى أقصى حدوده.
مهاراتي بالسيف التدريبي تحسنت بشكل ملحوظ، وأصبحت حركاتي أكثر رشاقة وقوة.
"عين الحقيقة" كانت لا تزال رفيقي الدائم، أستخدمها لمراقبة كل شيء، لتحليل هالات الطاقة، لكشف الخبايا التي لا تراها العين المجردة.
لكن الصداع الخفيف كان لا يزال يرافق استخدامها المكثف، كأنه ضريبة يجب أن أدفعها مقابل هذه البصيرة.
أما السحر... فكان لا يزال ذلك القيد اللعين، ذلك الجدار الصلب الذي يرفض أن يتزحزح.
"الرتبة السحرية: مقيّدة" كانت كإهانة محفورة في روحي. كل محاولاتي لاستدعاء أي شرارة من الطاقة السحرية، حتى ذلك التقارب المزعوم مع سحر الظل الذي ورثته عن والدي، باءت بالفشل الذريع.
النظام، ذلك الكيان الصامت، كان لا يزال يرفض أن يقدم لي أي إجابات، أي مساعدة، أي شيء سوى ذلك العرض البارد لحالتي المزرية.
والآن، بعد مرور شهرين، وجدت نفسي أقف أمام حقيقة مرة أخرى.
"تبقى أربعة أسابيع على الأكاديمية،" همست لنفسي، وأنا أتأمل انعكاسي الشاحب في المرآة الطويلة في غرفة تبديل الملابس.
أربعة أسابيع فقط قبل أن أُلقى في ذلك الجحيم الجديد المسمى أكاديمية "سيلفانوس" الملكية. أربعة أسابيع لأستعد لمواجهة آيلا، وسيلين، و... الجوكر.
"وأنا،" أكملت بسخرية مريرة، "لا أمتلك أي شيء يساعدني سوى 'عين الحقيقة'!
السحر مقيد، ولا أمتلك سلاحًا قويًا يمكنني الاعتماد عليه في عالم لا يرحم الضعفاء."
نعم، "عين الحقيقة" كانت مفيدة، لقد أنقذت حياتي أكثر من مرة.
لكنها لم تكن سلاحًا هجوميًا. كانت أداة كشف، أداة بصيرة، وليست سيفًا أو تعويذة.
"حسنًا، بالطبع، دوق الظلال لديه الكثير من الأسلحة الفتاكة والقوية في مستودعاته،" فكرت، والازدراء يملأ صوتي الداخلي.
"أسلحة مرصعة بالجواهر، مسحورة بتعاويذ قديمة، قادرة على شق الجبال وبث الرعب في قلوب الشياطين.
لكنني..." ترددت للحظة. "لكنني أفضل أن أحصل على شيئين بنفسي. شيئين أعرف أنهما سيكونان ملكي، بقوتي، أو على الأقل، بقراري أنا."
كان هناك شيئان محددان يدوران في ذهني منذ أن بدأت أستعيد عافيتي وأفكر في مستقبلي المظلم. شيئان ذكرتهما الرواية بشكل عابر، لكنهما تركا أثرًا عميقًا في ذاكرتي.
"أولاً، السيف الأسود،" همست، وشعرت بقشعريرة خفيفة تسري في جسدي.
"سيف غير قابل للكسر مطلقًا. سيف قيل إنه مصنوع من مادة نجمية سقطت من السماء منذ دهور، وأنه لا يمكن لأي قوة في هذا العالم أن تخدشه أو تكسره."
"ثانيًا، قطعة أثرية نادرة،" أكملت، وعيناي تلمعان ببريق غريب. "قطعة أثرية قيل إنها تضخم قوة حاملها، أو تمنحه قدرة فريدة، قدرة قد تكون هي المفتاح لفك قيودي، أو على الأقل، لمنحي فرصة للنجاة في الأكاديمية."
لكن الحصول على هذين الشيئين لم يكن بالأمر السهل. لم يكونا ملقيين على قارعة الطريق، ينتظران من يلتقطهما. كانا في مكان... مكان مرعب.
" هنالك مخاطرة عظيمة،" اعترفت لنفسي، وشعرت بالبرد يتسلل إلى عظامي رغم حرارة الصيف.
"فالمكان الذي أود الذهاب إليه... قريب من القطب الجنوبي. أحد أرعب الأماكن في الرواية.
مكان ربما لا يقل رعبًا عن الغابة السوداء، إن لم يكن أسوأ."
القطب الجنوبي. مجرد ذكر الاسم كان كافيًا لإثارة قشعريرة الخوف في جسدي.
الرواية لم تتحدث عنه كثيرًا، لكن ما ذكرته كان كافيًا لرسم صورة من الجحيم المتجمد.
مكان تسوده العواصف الثلجية الأبدية، حيث درجات الحرارة تنخفض إلى ما دون الصفر بمئات الدرجات، وحيث تعيش مخلوقات من الجليد والظلام، مخلوقات لم ترَ نور الشمس أبدًا، وتتغذى على الأرواح الضائعة.
"المكان الذي سأذهب إليه سيكون بردًا قارسًا جدًا، ومرعبًا بحد ذاته،" فكرت، وأنا أتذكر وصف الرواية لتلك الأراضي المتجمدة.
"يكفي أنه قريب من القطب الجنوبي. مكان قيل إن الزمن نفسه يتجمد فيه، وإن الواقع يتشوه، وإن العقل يفقد صوابه من فرط العزلة والبرد والرعب."
كانت مهمة انتحارية. أعرف ذلك. لكن ماذا كان البديل؟ أن أذهب إلى الأكاديمية ضعيفًا، أعزل، مجرد هدف سهل للجوكر، أو لأي شخص آخر يرى في ابن دوق الظلال فريسة ثمينة؟ لا. لن أسمح بذلك. لقد نجوت من الغابة السوداء، ونجوت من البرج القديم. لن أستسلم الآن.
لكن حتى لو كنت مستعدًا للمخاطرة بحياتي، كنت بحاجة إلى وسيلة للوصول إلى هناك، ووسيلة للنجاة في تلك البيئة القاتلة.
وهذا ما قادني إلى قراري التالي. قرار كان يبدو أكثر جنونًا من فكرة الذهاب إلى القطب الجنوبي نفسها.
قررت أن أطلب المساعدة من والدي. دوق الظلال.
قضيت الأيام القليلة التالية وأنا أستعد لهذه المواجهة. لم تكن استعدادات جسدية، بل نفسية. كيف يمكنني أن أقف أمام ذلك الكيان المظلم، وأن أطلب منه شيئًا بهذه الأهمية، دون أن أكشف عن خططي الحقيقية، ودون أن أثير شكوكه؟
أخيرًا، في إحدى الليالي، بعد أن جمعت كل ما لدي من شجاعة... أو يأس، طلبت مقابلة الدوق.
الانتظار كان جحيمًا آخر. كل دقيقة كانت تمتد كأنها ساعة. ثم، جاء الأمر. الدوق سيستقبلني في جناحه الخاص.
ليس في قاعة العرش، بل في جناحه الخاص. هذا... هذا كان غير مألوف.
سرت عبر الممرات الصامتة، وقلبي يخفق بقوة في صدري. "عين الحقيقة" أظهرت لي أن هالات الحراس الذين مررت بهم كانت مشوبة بالدهشة والفضول.
يبدو أن زياراتي لوالدي أصبحت حدثًا نادرًا يستحق الملاحظة.
وصلت إلى باب جناح الدوق. كان بابًا ضخمًا، مصنوعًا من خشب أسود لامع، لا يحمل أي نقوش سوى شعار العائلة البسيط والمخيف.
لم أجرؤ على طرقه. فقط وقفت هناك، أنتظر.
بعد لحظات، انفتح الباب من تلقاء نفسه، بصمت تام، كأنه يرحب بي في فم الوحش.
دخلت.
جناح الدوق لم يكن كأي مكان آخر في القصر. لم يكن فخمًا بالمعنى التقليدي.
بل كان... فارغًا. ومظلمًا. الجدران كانت مغطاة بنسيج أسود يمتص الضوء، والأثاث قليل، مصنوع من نفس الخشب الأسود اللامع، ويبدو وكأنه جزء من الظلال نفسها.
لم تكن هناك أي نوافذ، ومصدر الضوء الوحيد كان وهجًا خافتًا، أرجوانيًا، ينبعث من بلورات غريبة مثبتة في السقف.
والدي كان هناك. جالسًا على مقعد يشبه العرش، لكنه أبسط، وأكثر قتامة.
كان كالعادة، كتلة من الظلال المتحركة، لا يمكن تمييز ملامحه.
لكنني شعرت بنظراته، تلك النظرات التي تخترق الروح، وتكشف كل الأكاذيب.
"نير،" قال، وصوته كان كصدى قادم من أعماق بئر لا قرار لها. لم يكن سؤالاً، بل مجرد... إقرار بوجودي.
ابتلعت ريقي بصعوبة. "أبي،" قلت، وحاولت أن أجعل صوتي ثابتًا قدر الإمكان. "لقد جئت... لأطلب منك شيئًا."
صمت. صمت طويل، ثقيل، كأن الهواء نفسه قد تجمد. كنت أسمع دقات قلبي، كأنها طبول تدق في جنازة.
ثم، وببطء، أومأ الدوق برأسه، حركة بالكاد ملحوظة في تلك الكتلة من الظلال.
"أتيت لأطلب منك ثلاث قطع أثرية،" قلت، وقررت أن أكون مباشرًا قدر الإمكان. لا فائدة من اللف والدوران مع هذا الكيان.
"اثنتان منها تسمح لي بفتح بوابة للانتقال إلى أي مكان، انتقالاً آنيًا. لكنها تستخدم مرة واحدة فقط لكل قطعة."
صمت آخر. شعرت بأن العرق البارد بدأ يتكون على جبهتي. هل سيضحك؟ هل سيسخر من طلبي هذا؟ هل سيسألني لماذا أحتاج إلى مثل هذه الأشياء؟
"والقطعة الثالثة،" أكملت، وصوتي يرتجف قليلاً رغماً عني، "هي خاتم الأبعاد. ذلك الذي يمكنه تخزين أي شيء. وأريده أن يكون... بداخله طعام وماء يكفيني لمدة شهر على الأقل."
انتهيت. ألقيت بطلبي في ذلك الفراغ المظلم، وانتظرت. انتظرت الرفض، أو الاستجواب، أو العقاب.
لكن ما حدث بعد ذلك كان... مفاجئًا. مفاجئًا لدرجة أنني شككت في أنني قد سمعت بشكل صحيح.
"ولمفاجأتي،" فكرت، وعقلي لا يزال يحاول استيعاب ما حدث، "أن دوق الظلال لم يسألني حتى لماذا أحتاجها!"
لم يقل شيئًا. لم يسأل. لم يوبخ. لم يسخر.
فقط... أومأ برأسه مرة أخرى، تلك الإيماءة البطيئة، التي لا يمكن تفسيرها.
ثم، رفع يده، تلك اليد التي كانت تبدو وكأنها مصنوعة من الظل الخالص.
ومن العدم، ظهرت أمامه ثلاثة أشياء، تطفو في الهواء، تتوهج بضوء خافت.
قطعتان معدنيتان، صغيرتان، رماديتان، عليهما نقوش غريبة، معقدة.
كانتا باردتين الملمس عندما التقطتهما، وشعرت بطاقة هائلة، مكبوتة، تنبعث منهما. هاتان هما قطعتا الانتقال الآني.
وخاتم. خاتم بسيط، مصنوع من معدن أسود غير لامع، لا يحمل أي زخارف.
لكن عندما وضعته في إصبعي، شعرت به يتكيف مع حجمه، وشعرت بفضاء شاسع، فارغ، بداخله.
وعندما ركزت، شعرت بوجود كميات هائلة من الطعام والماء محفوظة بداخله، طازجة، وجاهزة للاستخدام. خاتم الأبعاد.
"خذها،" قال الدوق، وصوته كان لا يزال ذلك الصدى العميق.
"واستخدمها بحكمة."
"بحكمة؟" فكرت بسخرية. "هل يعتقد حقًا أنني سأفعل ذلك؟ أم أنه لا يكترث؟"
"شكرًا لك... أبي،" تمتمت، وشعرت بالارتباك يزداد. هذا لم يكن منطقيًا.
هذا لم يكن دوق الظلال الذي أعرفه من الرواية، ولا حتى ذلك الكيان المرعب الذي واجهته في قاعة العرش.
كان هناك شيء مختلف. شيء لا أستطيع فهمه.
"يمكنك الانصراف الآن،" قال الدوق، وعاد إلى صمته المطبق، كأنني لم أعد موجودًا.
خرجت من جناحه، وقلبي لا يزال يخفق بقوة، وعقلي يعج بالأسئلة.
القطع الأثرية كانت ثقيلة في يدي، وفي إصبعي. كانت حقيقية. وكان والدي قد أعطاني إياها... دون أي سؤال.
لماذا؟
هل كان يعرف إلى أين أنا ذاهب؟ هل كان يعرف ما أبحث عنه؟ هل كان هذا... اختبارًا آخر؟ أم أنه... هل يمكن أنه... يثق بي؟
ضحكت بسخرية من هذه الفكرة الأخيرة.
الثقة؟ في عائلة ڤيرتون؟ هذا مستحيل.
عدت إلى جناحي، وأغلقت الباب خلفي. نظرت إلى القطع الأثرية في يدي.
الآن، لم يعد هناك أي عذر. لدي الوسيلة. ولدي الوجهة.
القطب الجنوبي.
السيف الأسود. والقطعة الأثرية النادرة.
والرعب الذي ينتظرني هناك.
ابتسمت ابتسامة باردة، خالية من أي فرح. "فلتكن رحلة ممتعة،" همست للظلال في غرفتي.
"فأنا أشك في أنني سأعود منها حيًا."
لكن في أعماق قلبي، كنت أعرف أن هذا ليس مجرد يأس. كان تحديًا. تحديًا لهذا العالم، ولهذه الرواية، ولهذا القدر اللعين.
وسأواجهه.
حتى لو كان الثمن هو حياتي.