ديريس: الواتشر

إلتوى فمه و أحس بالدم قد تجمد في عروقه... تسارعت أفكاره و راح يتساءل: ما هذا الهراء بحق اللعنة؟ هل ما تراه عيناي حقيقة أم أن هذه روح شيطانية... المكان يبدو هادئا و مريبا كمقبرة...

أسئلة كثيرة طرأت على ذهنه و هو يشاهد ظل أبيه الذي مات إبان الغزو و ها هو الآن واقف أمامه بعينين شاخصتين مرددا: „ بني...“

- ما هذا الجنون؟ من أنت بحق الجحائم السبعة؟


- ألم تتعرف إلي أنا والدك!


- توقف عن لعبة الأب و الإبن هذه و أفصح عن نفسك أو تنح جانبا!


- أنت محق.. كلنا نلعب لعبة خطرة إما أن تفوز فيها أو تموت..


- حسنا من الواضح أنك لا تنوي أن تتنحى جانبا، لهذا استعد للموت...


- لاطالما كنت هذا الشخص... المحارب القوي الذي لا يخشى شيئا، أتساءل كيف وصل بك الأمر لأن تصبح تابعا لذلك المتعجرف الوضيع ويلكوت؟


رد ديريس بتعابير جافة: لا تتحدث عني و كأنك تعرفني... أعلم جيدا أي نوع من الألاعيب تمارس عليّ.


لف الظل المتمثل في هيئة والده دخان أسود محولا إياه إلى رجل بعباءة سوداء تغطيه بالكامل و تابع قائلا:


- أولا دعني أخبرك أنا لست ساحرا و لا أدعي أنني أعرفك بل أنا أعرفك بالفعل و لسنوات طويلة أيضا بل أكثر من ذلك نحن أصدقاء... رغم هذا لم تتذكرني و لم ترحب بي لكن مع ذلك أنا صديق جيد و لن أعير هذا أي اهتمام الآن.

- ماذا؟ ما الذي تهذي به؟... أصدقاء!! أنا لم أر أخرقا مثلك من قبل.

- لا بأس أنت لا تذكر فحسب... أساسا هذا ما يبقينا عالقين في هذا المكان، لكن دعني أخبرك شيئا لا تعرفه عن نفسك.


لم يكمل الرجل الظل كلامه حتى انقض عليه ديريس محاولا إمساكه لكنه تحول إلى دخان سحري أسود قبل ذلك ما جعل ديريس يقع على وجهه. ظهر الظل مجددا خلفه و قال: توقف عن هذا فقد تؤذي نفسك..

- ماذا...؟... أتعرف! و نفض ملابسه و ضبط نفسه و رسم تعابير جادة على وجهه و تابع القول: لابد و أنني انتهجت طريقة خاطئة في التعامل معك و أقر أنني خسرت أمامك في الجولة الأولى..


- أجل! الآن أنت تتكلم كديريس الذي أعرفه.. أتعرف؟ ديريس لم يكن الإسم الذي اعتدت أن أطلقه عليك.

- أنا لا أهتم أي إسم لعين إعتدت أن تطلق علي، في النهاية سأقتلع رأسك اللعين و أجعلك تخرس..

- لا أرى سببا يدعونا إلى الدخول في قتال نحن في غنى عنه...


فرقع الظل بأصابعه فانقضت جدران البيت كلها متهدمة من حولهما و انقشع الغبار الشديد و الدخان الأسود و استحال المشهد إلى صفاء حيث برزت الشمس وسط سماء صافية لم تكن كذلك حين مجيئهم إلى هذا المكان، توجس ديريس من الأمر و تساءل في نفسه: هل هذا يوم جديد؟ الوقت يبدو مختلفا عما كان عليه حين مجيئنا إلى هنا و الطقس كذلك.
لكنه مع هذا قرر إخفاء قلقه و المحافظة على رباطة جأشه، لقد أصبح يعلم أن من يقف أمامه ليس شخصا عاديا،إنه شخص ذي قوى غير طبيعية و قد يكون شيطانا على الأرجح... و سأله:


- هل كل هذا من فعلك؟

- أجل لكن ما أستطيع فعله حقا اكبر من هذا بكثير. أجاب الظل و تابع: أقدر على فعل الكثير من الأشياء المدهشة لكن إذا علمت سبب قدرتي فلن تندهش كثيرا، كما يمكنني أن أخبرك أنني لست الوحيد... لقد مرت بالفعل أربعة أيام منذ مجيئكم إلى بيرك.

«ماذا؟» قال ديريس. في «نفسه هذا مستحيل لقد كانت مجرد لحظات لعينة، اللعنة ماذا يحدث؟...» حاول أن يتماسك و قال: قد أكون مندهشا لكنني لست خائفا.


- الخوف ليس عيبا إنه غريزة أساسية للبقاء لكن مع ذلك لا شيئ يدعو إلى الخوف فنحن في النهاية أصدقاء.. <مبتسما>


في هذه الأثناء و في مكان قريب إستيقظ ويلكوت غير مدرك لما حدث له و قد تهشم درعه و فقد بريقه، شعر بعجز في ساقيه و لم يستطع أن يقف عليهما إلا بعد عدة محاولات... دوار رهيب قد أصابه، إلتفت حوله فلم يجد أحدا من رجاله.... الأمر غريب لم يستطع تذكر شيئ و راح ينادي:

„مرحبا! هل هناك من أحد؟“

لكن لا أحد قد أجابه، كل ما يوجد هو ركام البيوت و كأن إعصارا قد ضرب المكان.... أيعقل أنه قد مر أكثر من يوم و هو فاقد الوعي....

«مهلا» قال في نفسه و تفحص نفسه فلم يجد سيفه و لا أثر لحصانه كذلك.
بدأ يسير مراقبا ما حوله بحذر خشية أن يغير عليه أحدهم و هو من غير سلاح و تمنى أن يظهر قبالته بعض من جنوده حتى يشعر بأمان أكثر... ساقاه ترتعشان و لونه قد أصبح ذابلا و بينما هو يسير لمح رجلين يقفان قبالة بعضهما البعض وسط حطام إحدى البيوت... مهلا لقد تعرف على أحدهما إنه قائد الكتيبة المرافقة ”ديريس باربوس“... لقد ابتهج لرؤيته، حسنا إنه ليس معجبا به و لا ديريس معجب به أيضا و لكنه أفضل بكثير من لا شيئ و يبدو أنه قد قبض على أحد الشماليين و يقوم باستجوابه... «هذا رائع!! حسنا بعد أن ينتهي كل هذا لابد و أن أحضى بإجازة»... فكر ويلكوت و بخطى مسرعة إنطلق نحو ديريس و هو يصيح مخاطبا إياه: أحسنت أيها المجند عمل رائع إقبض عليه و لنرحل من هذا المكان اللعين.


- أنظر يا ديريس إنه الزعيم يبدو أنه استيقظ أخيرا من سبات دام أربعة أيام. قال الظل.

- إنه ليس زعيما. تمتم ديريس.

سمع ويلكوت كلام الرجل الذي يشبه الظل و قال متعجبا: ماذا تعني بأربعة أيام؟ هل مر كل ذلك الوقت؟ هل هذا صحيح أيها المجند؟

- كف عن مناداتي بالمجند.
قال ديريس و عقد حاجبيه و بدا كما لو أنه قد خلع قناع المجند بالفعل و ارتدى قناع الرجل الحازم الذي كانه من قبل..

- (ماذا؟ أنت تخدم تحت إمرتي باسم الملك و الآلهة و أنا فارس مقدس قد عينني الملك بنفسه و آمرك أن تقبض على هذا الشمالي اللعين في الحال.

وأضاف: نفذ هذا الأمر و اعتذر عن إهانتك لي سابقا و سأمنحك موتا سريعا غير مؤلم.

«هاهاها» ضحك الظل على قول ويلكوت ثم قال بنبرة سخرية: يال هذه العجرفة أيها الشاب، أنا لست شماليا لعينا بالمناسبة.

و فرقع بأصابعه فذاب درع ويلكوت كالماء تماما مثلما حدث سابقا مع سيف ديريس، جعل ذلك الرجلين في دهشة...

زعق ويلكوت و قال: اللعنة! من أنت بحق الآلهة؟

- أنا „الواتشر“ المراقب لكل شيئ في هذا العالم...

- ماذا يعني ذلك على أية حال؟ سأل ديريس بتجهم..

- حسنا أنا مجرد شخص ذي مواهب متعددة، حدث أن شعرت بالملل فقررت أن أختبر شجاعة رجال الفيلق الذين كانوا في الجوار..

- قتلتهم جميعا أليس كذلك؟
سأل ويلكوت.

”مهلا!“
قال ديريس: من أين تعرفني يا هذا لماذا قلت أننا أصدقاء؟

- لأننا بالفعل كنا كذلك لوقت طويل يا ديريس أنت فقط لا تتذكر الأمر لكن من الآن فصاعدا سأساعدك على التذكر و أول شيئ ستفعله حتى تستعيد ذاكرتك هو... و فرقع بأصبعه فتشكل سيف ديريس من جديد في يده و تابع الرجل قائلا: ...أن تقتل ويلكوت.

ذعر ويلكوت لسماع ذلك و تراجع إلى الخلف و وقع بعد أن تعثر بغصن جعله الظل ينبثق من الأرض و قال من شدة ذعره: أنت لن تفعل أيها المجند.

- ما كنت لأفعل صحيح؟ أجاب ديريس.

أحدث الرجل المزيد من الجذوع التي خرجت من الأرض مثبتة ويلكوت الذي تسمر في مكانه من الخوف قال مخاطبا ديريس و الذعر يأكل أنفاسه: أرجوك تريث و لا تفعل ما قاله سأعفو عن إهانتك لي سابقا أرجوك حررني و سأبقي على حياتك...

ضحك الرجل الظل و قال مستمتعا بالوضع: كنت أعلم أنني سأجد المتعة في اللعب معكم يا رفاق... و أضاف: أنت لست في موقف يسمح لك أن تأمر أو تطلب أي شيئ. أليس كذلك يا ديريس؟
ثم تابع مخاطبا ويلكوت: هل اعتقدت أن درعا جميلا و حصانا مزينا و سيفا براقا سيجعل منك فارسا أيها الفتى البكاء حتى الملك و الآلهة لن يقدروا على إنقاذك الآن أليس كذلك يا ديريس؟


توجه ديريس إلى الرجل و أطبق على مقبض السيف بكلتا يديه و قال: لست مجبرا على تنفيذ ما تقوله أيها الساحر المعتوه أو أيا ما كنت كما أنني لا أذكر أبدا أنني فقدت ذاكرتي في أي يوم من الأيام.

أعاد هذا الكلام بعض الأمل لويلكوت، قال الظل: آه يال عنادك! أنت توجه السيف نحو الشخص الخطأ أنا لست عدوك بل هو لكن لا بأس. و فرقع بأصابعه فانسل السيف كالماء بين يدي ديريس كما حدث سابقا تماما ثم قال الرجل: لقد رأيت هذا الطفل البكاء و هو يغتصب فتاة أمام مرأى أبيها و رغبت في أن تقتلع رأسه من على كتفيه بوحشية، لكنك فكرت في أن عدد الجنود الموالين له أكثر من الجنود الذي قد يخضعون لك، إنها الإرادة يا ديريس لقد كان دائما بداخلك هذا الشعور، شعور الرغبة في التمرد أنت تستطيع قيادة أعتى المقاتلين في أعتى المعارك قدرك ليس أن تخدم هذا الطفل.

- ماذا؟ كيف علمت بشأن الفتاة؟

- حقا! ألم أخبرك أنني أراقب كل شيئ، لقد كنت أراقبك منذ فترة طويلة، ربما ستصدقني الآن حين أخبرك أننا نعرف بعضنا ألا ترى أنني أحاول مد جسور العلاقة معك مجددا لا تكن متشددا في موقفك هكذا.

- إذن ماذا هل ستقتلنا؟ قال ويلكوت.

- إخرس أيها القذر. أجاب الرجل الظل.

- توقف! قال ديريس و تابع: أنا أحاول أن أجعلك تفهم الأمر نحن لا نعرف بعضنا أنا لم أرك من قبل و لم أفقد ذاكرتي أبدا في حياتي.

- ربما لم تفقدها في حياتك هذه لكن في حياتك السابقة لقد كنا أصدقاء مقربين فعلا.

- أنظر الآن... منذ التقينا و أنت تتفوه بالهراء... أنا لست مؤمنا بشريعة الكاتالا و لا أؤمن بالحياة السابقة و لا الحياة اللاحقة.

- هذا ليس ضمن شريعة الكاتالا ، إنه شيئ خاص بيني و بينك... و حياتكم هذه مجرد كذبة و أنا لا أريد أن تتعود عليها.

قال ديريس بوجه ضاحك مستهتر: لقد فهمنا أنك قوي و لأخبرك بوضوح حياتي ليست بتلك الأهمية بالنسبة لي و أنا لا أهتم بما سيحدث لهذا الفتى لهذا أنصحك أن تجهز علينا إذا كان هذا ما تريده لأن الأمر قد أصبح مملا.

شعر ويلكوت بالرعب مما سمعه للتو من فم الرجل الغريب و تساءل في نفسه عن مصيره المشؤوم... هل صار فعلا رهينة لدى هذا الرجل بعد كل مشواره الحافل بتصفية الشماليين؟


تبادل الرجلان النظرات في صمت مطول و توجس ديريس في نفسه من الرجل الغريب و تساءل إن كان بإمكانه أن يثق به ثم كسر تعويذة الصمت بقوله: ما الذي يدفعني إلى الثقة بكلامك أيها الرجل الغريب؟

- أوه! لا تكن فظا معي هكذا، ناديني أوستن، و بالحديث عن الثقة فأنا لم أقتلك بعد و هذا دليل على حسن نيتي.

بدا إسم أوستن بشريا أكثر من أي إسم آخر قد سمعه ديريس الذي أجاب: أو ربما أنت لا تستطيع قتلنا ببساطة.

- أوه! يالك من عنيد... في كل الأحوال فيلق ”كاستل هورس“ قادم إلى هنا و لم تعد لديك خيارات كثيرة في غالب الأمر كما أنني لن أقوم بإنقاذك و سيشهد ويلكوت ضدك بأنك لم تحاول تخليصه من الأسر كما أنه يريد أن يفصل رأسك عن بقية جسدك منذ مدة طويلة و هكذا ستفقد رأسك في غالب الأحوال و أعتقد أنه آخر شيئ تريده أن يحصل.


أعاد سماع هذا إلى ويلكوت بعض الأمل، فأغمض عينيه و أخشع قلبه لكبير الآلهة "أوبال" متضرعا له و هو يتمنى أن يصل فيلق ”كاستل هورس“ بسرعة و أن ينجحوا في إنقاذه و بدا كما لو أن شيئا وخزه و جعله يفقد وعيه ببطئ و تمنى ألا يستعيده إلا و هو على فراش دافئ من الحرير و ريش الإوز الناعم في قلعة أبيه.

فرقع الرجل بأصابعه من جديد و لفه دخانه السحري الأسود فتحول إلى شاب عشريني بشعر كستنائي مائل للون الذهب و قوام رشيق مرتديا ملابس من الجلد المخيط المصبوغ و تخلص من العباءة السوداء التي أخفت ملامحه و جعلته يبدو كالمشعوذ. قال ديريس في دهشة لم يستطع إخفاءها: هل هذه هي هيئتك الحقيقية؟ كنت تبدو كالمشعوذ الأحمق أما الآن فتبدو مثله و أشار إلى ويلكوت.

- أجل! أفضل شيئ هو التمويه لخداع أعدائك لقد أصبحت أشبه أبناء النبلاء الملاعين. و ضحك.


أطلق أوستن صفيرا فخرج من مكان قريب حصانان أبيضان جميلان عليهما سرجان مزينان بزخارف و حلقات معدنية مذهبة و عليهما علامة الوردة التابعة للنبلاء. قال ديريس: من أين خرج هذان؟ خدعة أخرى من خدعك؟

أجاب أوستن بنصف ابتسامة: لا! بل كانا ملكا لرجال الفيلق سابقا و قد حصلت عليهما بعد أن تخلصت منهم و كنت أبقيهما في الجوار، علينا أن نسرع فالفيلق صار قريبا منا بالفعل.

سأل ديريس و هو يضع جثة ويلكوت فوق الحصان معدلا سرجه: ماذا حدث لرجال الفيلق هل قتلتهم جميعا؟ ماذا عن الأهالي هل نجا من أحد؟

- لقد تخلصت من رجال الفيلق فور وصولهم إلى هنا أم الأهالي فقد تنكرت في شكل رجل جريح هارب و أخبرتهم أن الفيلق قادم إليهم و عليهم أن يغادرو فورا.

- و هل صدقوك؟

- أجل لقد تحققوا من الأمر بأنفسهم و صدقوا ما قلته لهم في نهاية المطاف و غادروا المكان بسرعة.

- و أين اتجهوا في رأيك؟ سأل ديريس.

- آيس بورن.

إتسعت عينا ديريس فور سماعه لهذا الإسم المألوف و قال: آيس بورن؟ هذا ليس اسم مكان بل اسم عائلة.

- نعم أنه اسم عائلة المرأة التي أحببتها منذ أكثر من عشرين عاما "ديميت آيس بورن" لقد أسسوا ضيعة مخفية بين التلال في "مونستر آي" جنوبا.


- ماذا؟ كيف...؟ علمت بشأن...


- هاهاها!! هل تسألني هذا السؤال مجددا؟ لقد أخبرتك أنني أعرفك جيدا!

عقد ديريس حاجبيه و أخرج هواء ساخنا من مناخيره و قال: ماذا عن الهراء الذي قلته سابقا حول "حياتي السابقة"؟

- حسنا الأمر ليس هراء و لكن يطول شرحه الآن، سأخبرك بكل شيئ لاحقا أما الآن فعلينا أن نسرع.

إمتطى الرجلان حصانيهما و بدا لديريس أن أوستن يجد صعوبة في التحكم بحصانه الذي راح يخطو خطوات كثيرة في نصف دائرة ما دفعه للسؤال: هل أنت متأكد من أنك تستطيع إمتطاؤه؟


- أجل! بالتأكيد إنها ليست أول مرة لي، أنا أجعله يقوم بافتعال آثار مزيفة عن قصد لإرباك المتعقب الذي سيحاول معرفة عددنا و وجهتنا لاحقا.


- متعقب؟ آه بالفعل لابد و أن هناك واحدا.

- نعم كل الفيالق لديعا واحد لكن المهارة تختلف من شخص لآخر.

- إنها خطوة بالغة الذكاء منك.

- أجل فبعد كل شيئ لقد عشت كثيرا و تعلمت بعض الحيل الضرورية للتفوق على الخصوم.

تساءل ديريس عن عدد السنوات التي يدعي أوستن أنه قد عاشها و لكنه تجاهل كل هذا و نغد حصانه ليتقدم إلى الأمام و هو يوجه نظراته الأخيرة نحو الباب الأحمر الكبير الذي ظل منتصبا وسط ركام بيته المتهدم و راح يفكر في أنها قد تكون بالفعل أول مرة منذ ثلاث سنوات لا يتلقى فيها الأوامر من جنوبي لعين، إنه شعور أقرب إلى الحرية لكنه الآن سيسلك طريقا مختلفا مجهول المعالم و لا ينبغي أن يفرط في ثقته بأوستن فهو لا يعرف شيئا عنه شيئا.

إنطلق الرجلان بسرعة عبر الطريق في انتباه و صمت و كل منهما قد أحكم يده على رباط حصانه يراوغ العقبات و يوجهه، تأمل ديريس جثة ويلكوت الملقاة أمامه على ظهر الحصان و تساءل أي مصير ينتظره هل سيصبح رهينة في لعبة سياسية من نوع ما، «ما هذا الهراء» قال في نفسه إن ويلكوت في النهاية مجرد جنوبي قاتل عديم الرحمة و مغتصب آثم لا يستحق منه هذا التفكير المشفق، لكن رغم ذلك رفض سابقا قتله حين منحه أوستن الفرصة، لربما كان تفكيره مشوشا آنذاك أو ربما فكر أن ويلكوت وجد نفسه في هذا المكان مجبرا و فكر مجددا فيما حدث منذ قدومه إلى بيرك و استرجع ما قاله أوستن سابقا حول فقده ذاكرته و تساءل أي هراء هذا، لكن ما يشغل ديريس في هذه اللحظة أكثر من أي شيئ آخر هو احتمال أن يرى المرأة التي أحبها بعد كل هذه السنوات الطويلة.

على مشارف بيرك وقف جنديان يرتديان درعين مزينين بالمعدن و البرونز و معطفين أبيضي اللون عليهما علامة الوردة البيضاء ذات الأشواك ، قال أحدهما و قد كان تابع القائد الخاص: أيها السير "فاجنر" لا أرى أي أحد وسط هذه الديار الخربة.


قال السير فاجنر بعبوس و قد عقد حاجبيه فبدا مخيفا: اللعنة! لقد أصبح علي الأن رعاية أطفال النبلاء، أين المتعقب بحق الجحائم السبعة؟


- لقد إنطلق نحو تلك الأطلال بالفعل يا سيدي أجاب تابعه.


- و من سمح له بذلك؟


- إنه يفعل هكذا أشياء من تلقاء نفسه يا سيدي. قال التابع.


- اللعنة علينا انتظاره إذا.


كان السير "فاجنر وايتروز" قائد فيلق "كاستل هورس" و قد بدا مهيبا و هو يعتلي حصانه الحربي الهجين مرتديا درعا معدنيا مزينا بحلقات ذهبية و توسطت صدره علامة الوردة الملكية التي زينت مقدمة خوذته المعدنية ذات قرون فيها أشواك و تزين بذات العلامة حزامه الذي يحمل غمد سيفه الضخم الذي احتوى مقبضه هو الآخر نفس العلامة و كان السير فاجنر معروفا بين مرؤوسيه بالعفريت و قيل أنه تغلب وحده على عشرين جنديا من الجنود المدربين على القتل بدم بارد إبان تواجده في أبوكسيسوس و قد كان تحت قسم خدمة الملك منذ عام الغزو و لكنه كان على معرفة به منذ ما يزيد عن ذلك حتى.

بعد وقت قصير عاد الرجل المدعو بالمتعقب و هو يقول: لا يوجد أحد هناك على ما يبدو يا سيدي القائد.

- أخيرا عدت يا ڤيتزل! قال السير فاجنر بسخط.


ثم تابع كلامه بامتعاض: كم مرة أخبرتك ألا تفعل شيئا من تلقاء نفسك يا ڤيتزل؟


أجاب ڤيتزل مستمتعا: لم أستطع أن أنتظر الإذن منك يا أبت فالوقت ليس في صالحنا.

أوقف السير فاجنر نوبة سخطه بعد أن أدرك أنه لا فائدة من هذه المحادثة و قال سائلا إبنه: إذن ما الذي وجدته هناك؟

- لا شيئ ببساطة. أجاب ڤيتزل و تابع كلامه: يبدو أنهم قد توجهوا غربا نحو خراب ”مونستر آي“ منذ وقت قصير، لقد حاولوا افتعال آثار مزيفة لتضليلنا لأنهم علموا مسبقا بقدومنا إلى هذا المكان و هذا يبدوا ذكيا و على ما يبدو أن عددهم ثلاثة على أكثر تقدير كما أنه لا أثر لفتى بلاك روز و رجاله، قد يكون رهينة لديهم.


إستشاط السير فاجنر من جديد قائلا: اللعنة لا أعرف كيف يتم تعيين هؤلاء الفاشلين! و لا أعرف لماذا علي أن أصحح أخطاء الحمقى؟ هل تبخر أولئك الرجال؟


أجاب ڤيتزل باستظراف: أنت تخدم الملك يا أبت، إنه واجبك.


أصمت لم أكن أطلب رأيك. قال السير فاجنر بسخطه المتفجر ثم صاح بصوت ملأ الأسماع مخاطبا تابعه الخاص: أيها المجند كم من الرجال نملك؟

- مئتي رجل هنا و خمسون في كاستل هورس يا سيدي.

- ما يكفي لنطيح بهم جميعا. غمغم ڤيتزل.

أمر السير فاجنر رجاله بالإستعداد للتحرك جنوبا نحو مونستر آي و الهدف استعادة ويلكوت من الأسر.

تقدم الأب و الإبن رجالهما؛ خمسون فارسا من خيرة المقاتلين التابعين لعائلة وايتروز قد ارتدو دروعهم المعدنية و معاطفهم البيضاء المزينة بعلامة الوردة البيضاء ذات الأشواك أما البقية فهم من المشاة المسلحين بحرابهم ذات الرؤوس المعدنية المذببة التي تشع في ضوء الشمس العابس.

سار ڤيتزل تحت راية الملك الخفاقة المزينة بالوردة الحمراء المتوسطة لقماش من الحرير الأبيض الناصع الذي زينت أطرافه بخيوط ذهبية و راية أبيه وردة بيضاء ذات أشواك توسطت قماشا من الحرير الأحمر و قد إمتطى حصانا أبيضا جميلا ذو ظفائر طويلة و قد غطى مقدمة رأسه قناع من القماش الحريري المزخرف، فيما ارتدى ڨيتزل معطفا من الجلد الأسود و سروالا جلديا أسود اللون كذلك و زوجا من القفازات من فرو الخلد و كان شابا عشرنيا وسيما فارع الطول بارعا في القتال و كان الأصغر ضمن أشقائه ”إيدن و كيڤن و ڤيتزل“ قتل كيڤن عام الغزو ما أحزن والده السير فاجنر عليه كثيرا و شعر بالحقد تجاه الشماليين و كأن دمه قد تفرق عليهم جميعا و لابد أن يبيد الشمال كله حتى يقتص لموت إبنه أما إيدن فهو وريث عائلة وايتروز و قد أصبح سيد القلعة الآن و اختار ڤيتزل خدمة الملك رفقة أبيه الذي اعترض في بداية الأمر خشية أن يتكرر معه ما حدث لأخيه كيڤن لكن شجاعة ڨيتزل لا تعرف حدودا ثم إن خدمة الملك شرف لهما فبعد كل شيئ فهو من جعلهم من النبلاء و منحهم قلعة عائلة "دي صوف" الصابئة بعد أن تمت إبادتها و كان معروفا أن عائلتي "بلاك روز" و " وايتروز" على خلاف دائم و لكن عندما يصبح الأمر طاعة الملك و خدمة الآلهة فإن كل الخلافات يتم تنحيتها جانبا.

برزت البيوت التي بدت كالأكواخ بين أشجار الخشب الأسود الكثيفة و أشجار البلوط العملاقة و اقترب الرجلان بخطى ثابة شيئا فشيئا و لاحت لهما الأسيجة الخشبية التي تحيط ضيعة آيس بورن و علت أطرافها أبراج المراقبة ذات فتحات أشعت من خلالها رؤوس السهام الموجهة بضوء الشمس المنعكس عليها. كان المكان قريبا من أطلال بلدة ”مونستر آي“ التي تعرضت لحملات التطهير و هوجمت من قبل الفيالق فأبيد جل أهلها و هجر منها البقية فصارت بيوتها ركاما و أطلالا و أصبحت حكاياها تقص على نار المساء تماما كأي بلدة شمالية أخرى دمرت بيوتها و أبيد أهلها، لكن جمعا من أهل الشمال قرروا أن يبدؤوا فصلا جديدا من حياتهم بعيدا عن صخب الموت فأسسوا هذه الضيعة و أحاطوها بالخنادق و الأعين و الجدران من الخشب الأسود المتين ذات الرؤوس المذببة على ارتفاع ثلاثة أمتار لا يرى ما بداخلها إلا عن بعد و قد توسطتها بوابة ضخمة من الفلين و خشب البلوط المدعم بالمعدن المقوى المطروق، نظرة واحدة من ديريس كانت كافية لأن يعلم أن اختراق هذا المكان غير وارد تماما و راح يتساءل متى شيد كل هذا؟

إقترب الرجلان من النهر الفاصل بين الضفتين و عند أول خطوة للحصان داخله أصاب سهم موضع قدمه ففزع رافعا قائمتيه الأماميتين و دوى صوت البوق المكان؛


<أووووووووووووووووووووو >


علا صوت حارس البرج قائلا: توقفا مكانكما و أفصحا عن نفسيكما.

تقدم أوستن رافعا يديه عاليا و قال: نحن هاربان من فيلق التطهير و معنا هنا رهينة ثمينة.

- عودو أدراجكما و إلا ستقابلون بمعاملة لا تسركم.

تقدم ديريس بحصانه أكثر فأسقطت سهام أخرى أمامه معترضة طريقه.

<أوووووووووووووو ووووووو> صوت البوق مجددا.

- تراجع و إلا سيخترق السهم التالي رأسك. قال الحارس.

صاح ديريس قائلا: أيها الأحمق !! ألم تسمع ما قاله؟ معنا رهينة هنا إنه ويلكوت قائد فيلق بيرك.

- ترجلا من حصانيكما و ارفعا أيديكما حتى أتمكن من رؤيتها و تقدما بروية و لا تحاولا المراوغة فالمكان محاصر.


ترجل الرجلان من على حصانيهما و أحكم كل واحد منهما قبضته على رباط حصانه و هو يجره خلفه و تحركا بحذر عبر تيار المياه يتلمسان طريقهما للعثور على موضع قدم ثابت على الأرض الغير مستوية وصولا إلا الضفة الأخرى.


شرعت البوابة أمام الزائرين الغريبين و الرهينة الملقاة على ظهر الحصان و وقف أمامهم بتأهب حشد من الرجال المسلحين برماح طويلة ذات رؤوس مدببة و توجه الرماة نحوهما متأهبين للإطلاق من الأبراج المحيطة بهم. رفع كل منهما يده إلى الأعلى في إشارة إلى الخنوع و عدم الرغبة في القتال.

< لقد أتينا في سلام >

تقدم أحد الرجال بعد أن أفسح الجنود الطريق له و قد بدا شابا بشعر أسود كذاك الخشب و عينين سوداوين كالليل و أدمة بيضاء كالعظم مرتديا معطفا جلديا زيتوني اللون و بدت عليه ملامح الحنكة و القيادة و قال: أنا السير روبن لانسل، أعتذر عن الإستقبال الفظ، لقد كان لدواع أمنية آمل أنكما تتفهمان ما أقول، لقد سمحنا بمروركما بعد أن تأكدنا من صحة كلامكما، و الآن أخبراني من أنتما؟


أجاب أوستن: أنا أوستن و هذا أخي الأكبر ديريس و نحن أبناء السير لوكا باربوس نائب لورد بلدة بيرك اللورد "ديميتري آيس بورن" و قد جئنا فارين من الفيلق بعد أن اشتبكنا معهم رفقة بعض الرجال الذين لقوا حتفهم لكننا غنمنا هذه الرهينة الجميلة!
<مشيرا إلى ويلكوت>


دعني أرى. قال السير روبن متفحصا جثة ويلكوت.

- أمتأكد من أنه ليس ميتا؟


- بالطبع ! إنه حي. أجاب أوستن.


- حسنا سنهتم بأمره و أنتما ستأتيان معنا كذلك.


- هل نحن رهائن لديكم الآن؟ سأل ديريس بتجهم.


إبتسم السير روبن إبتسامة خفيفة و أجابه: ليس بعد! ستقابلون اللورد ديميتري في المساء لكي نقوم بالإستعدادات اللازمة.


- إستعدادات؟ عن ماذا تتحدث أيها السير؟ سأله ديريس.


أجاب السير الشاب: الإستعدادات للمعركة الوشيكة.

_________________________________


معلومات متوفرة حاليا :

Monster -eye : مونستر آي
Castle -horse : كاستل هورس
Ice- born : آيس بورن



2019/07/14 · 399 مشاهدة · 3772 كلمة
Leo
نادي الروايات - 2024