”للمرة الألف أنا لا أذكر أي شيئ أيها اللعين...“

قالها وسط ذهول الرجال الحاضرين و راح يسير بينما وقف اللورد الجنوبي الشاب يراقبه و هو يبتعد قبل أن يصيح مناديا إياه: من هو اللعين أيها العجوز الأحمق الداعر ؟ عد إلى هنا و اعتذر حالا و إلا سأجعلك تندم على كلامك.

لكنه لم يستدر و لم يعد و لم يعتذر بل انطلق مبتعدا عن هراء هؤلاء الرجال بينما زم القائد الشاب شفتيه بعد أن أدرك أنه لا حيلة له مع هذا الرجل الذي يفوقه خبرة و ضراوة.

جلس بوقاره المعتاد على حصانه و خصلات شعره البني تتحرك مع الرياح، لم يكن الشيب قد وخط لحيته قط، ما جعله يبدو أصغر من سنوات عمره الأربعين، علت وجهه نظرة كئيبة كعادته مع عينين بارزتين و حاجبين معقودين، جلس يراقب في صمت كئيب في هذا اليوم الممطر الكئيب، صور من ليلة الأمس لم تفارق مخيلته: صراخ أطفال و نساء، دماء و دماء و دماء، جثث و جثث في كل مكان، رائحة الجلود المحترقة لا تحتمل، دفعت عشرات الرجال المستجدين للتقيئ اللاإرادي، جثث مكومة محترقة تعم الشوارع، رائحة الموت عالقة في المكان كعطر امرأة.

«و كأن الأمطار قد جاءت لتغسل المكان من بعض هذه القذارة اللعينة» قال ديريس في نفسه. «أما آن الأوان لينتهي كل هذا؟»

وبينما هو غارق في مآسيه سمع صوتا يناديه يخاطبه قائلا: القائد يأمرنا بالاستعداد لقد حان الوقت للذهاب، فيلق التطهير الرئيسي باشر تحركه علينا أن نتبعه إلى هدفنا التالي..


غمغم ديريس بكلمات غير مفهومة و نكز حصانه ليتحرك و مد يده نحو جربة الماء خاصته فوجدها فارغة تماما، دفعه ذلك للتنهد و القول: آاه يا إلهي اللعنة!!

إمتدت يد أحدهم نحوه تحمل جربة ماء ممتلئة و سمع صوتا يصحبها يقول: هاك إرو ضمأك بينما تستطيع.

تناولها ديريس بامتنان و راح يشرب كما لو أنها أول مرة يتذوق فيها الماء شعر أن آخر ماء دخل إلى جوفه كان منذ أربعين سنة، إنه أشبه بالضياع في صحراء لا نهاية لها أو هكذا خيل إليه. مسح فمه بظهر يده بينما سأله الرجل: تشعر بالإنتعاش الآن بعد كل هذا أليس كذلك؟

ناوله ديريس الجربة و شكره ثم نكز حصانه ليتقدم أكثر فلم يكن يشعر برغبة في مد جسور الكلام مع أحد من البشر و بعد وهلة عاد الرجل ليلحق به بحصانه و فتح فمه و باشر بالحديث مجددا: الرجال يختفون هذه الآونة بشكل مريب و الأغرب أنه لا يتبقى أثر لهم لقد فكرت في الأمر و لم أجد تفسيرا و أراهن أنك تشعر بالفضول حيال ذلك أيضا.

إستمر ديريس بالتقدم دون أن ينبس ببنت شفة لكنه كان يفكر في أمر الرجال أيضا فمعظم من اختفوا كانوا تحت إمرته و اللورد الشاب ملأ المكان صراخا و لم يلبث يسأل منذ الصباح أين هم و ماذا حدث لهم بينما لم يتمكن ديريس من الإجابة فقد شعر بصداع شديد و لم يقدر على تذكر أي شيئ من الليلة الماضية كل ما استطاع تذكره هو أنه كان في نوبة حراسة رفقة بضعة رجال آخرين تابعين له و ذلك بعد انتهاء الجنود من عملية التطهير و حرقهم لآخر شخص في القرية التي تركوها خلفهم ثم فقد وعيه بعد ذلك و لسبب غير معلوم فهو لم يختفي مع الرجال المختفين و ود لو أنه فعل فعلى الأقل كان ليتخلص من مرافقته لهؤلاء الملاعين على حد تفكيره.

إسترسل الرجل في الحديث من جديد و راح يسأل: هل تعلم إلى أين نحن متجهون؟ يبدو أن رجلا قد جاء يحذرنا...

قاطعه ديريس قائلا: مشاركتك الماء معي لا تعني بالضرورة أنني أرغب في الحديث معك.

- فكرت أن بإمكاننا أن نتشارك بعض المعلومات المفيدة هذا كل ما في الأمر.

لم يعره ديريس أي اهتمام و اكتفى بالقول: أغرب عني.

ونكزحصانه ليتقدم أكثر متابعا طريقه في صمت غائصا في أفكاره وقد ضاق درعا بكل الموت الذي رآه و لم يستعد وعيه حتى سمع صراخ القائد العام للفيلق "ويلكوت" اللورد الجنوبي الشاب المفعم بروح القيادة و الرغبة في القتل و كان كلما سمعه أو رآه رغب في تمزيقه إلى أشلاء و إطعامها إلى الكلاب الجائعة.

على امتداد مساحة شاسعة إمتد سكون غريب و تزينت السماء بأعمدة من الدخان المتصاعد من مختلف الأنحاء و غزت الأنوف رائحة الجلود المحترقة و علقت بالآذان أصوات صياح و صراخ أنفس تتعذب و تحترق و تشعر بكل ذرة من ذراتها تشوى و هناك وقف ديريس مجبرا لا مخيرا يتابع أبناء جلدته يحترقون حتى الموت فهو قائد فيلق (فرقة) الإستطلاع و مهمته مراقبة عمليات التطهير و المساعدة إن دعت الحاجة و تقديم الدعم و كذا التخلص من الجثث حتى صاروا معروفين باسم:

عرابو الموت/the death's godfather

الذين تم اختيارهم بعناية و كلهم من أهل الشمال لغرض واحد و هو أن يذيق بعضهم بأس بعض.

كان ديريس في ما ماضى سيافا و مبارزا ماهرا و معلما للسيف، خدم كمرتزق و صائد جوائز لأكثر من عشرين سنة في قارة العبيد "أبوكسيسوس" و لكنه عاد تماما قبل وفاة والده "لوكا باربوس" سيد قرية "بيرك" مسقط رأسه، لقد وعد أباه أن يجمع ثروة كبيرة قبل عودته و هو ما فعله لكنه فقد ما جمعه على مدار عشرين سنة في محاولة عبور البحر الفاصل بين القارة الأم و قارة العبيد حيث تعرض للملاحقة و السرقة و كاد يقبض عليه فينقلب عبدا أسيرا و في سنوات قليلة مضت بعد غزو الجنوبيين للشمال بدعوى نصرة الآلهة و دينها، خُيِّر بين خدمته في جيش الملك مقابل الإبقاء على حياة عشيرته أو أن يشهد إبادتهم جميعا فاختار الخدمة مُكرها و كان في البداية أَرفع منصبا فقد كانت مهمته مقتصرة على تدريب المستجدين لكنه في أحد الأيام اعترض على قرار تطبيق عدالة الملك على طفل لم يتجاوز السابعة من العمر فقط لأن القائد العام الشاب "ويلكوت" انزعج من بكائه المتواصل الذي كان بسبب جوعه و هذا ما دفع هذا الأخير إلى إنزال رتبته و مع ذلك لم ينفك المستجدون ينادونه ب "السير" و "القائد" بسبب وقاره و هيبته، لكنه في الآونة الأخيرة صار ينفرد بنفسه كثيرا بسب كثرة القتل فلم يكن فيلق المساعدة يضم أكثر من عشرين رجلا، كلهم شماليون يشهدون قتل و تنكيل و حرق شماليين آخرين مثلهم، البعض يبكي أثناء تأدية مهامه و البعض يأبى فيتعرض للعقاب.


أما فيلق التطهير الرئيسي فقادته جنوبيون ينحدرون من العائلات النبيلة، يتلذذون في إذاقة شتى ألون العذاب لضحاياهم من أهل الشمال، قبل قتلهم تنفيذا لشريعة الآلهة و تعاليم كهنة المعبد، تحت شعار الفرسان المقدسين و خدام المعبد و تنتشر فيالق مشابهة في كل الشمال و تقترب أعداد الرجال في الفيلق الرئيسي الواحد إلى مئتي رجل أو يزيدون حسب المنطقة و الحاجة فالشماليون لم يعرفو ثورة ولا مقاومة منذ سقوطهم قبل خمس سنوات و ذلك أمام قوة الجنوبيين الغاشمة، حتى ديريس لا زال يتذكر جيدا كيف سقط بلدته "بيرك" في يد الغزاة الجنوبيين، لقد صدف أنهم سيزحفون جنوبا نحوها، لأن فيلق التطهير هناك يحتاج إلى الدعم.


و جراء كل هذه الدموية فقد الشمال أكثر من نصف تعداده منذ بداية عمليات التطهير المقدسة التي أقرها الملك "إليوت دي روز" بمباركة كبير كهنة معبد "الكاتالا" و كبير خدام الآلهة المدعو "نفيريس" قبل خمس سنوات و ما زاد الوضع سوءا هو افتقاد الشماليين إلى قائد يوحد صفوفهم ضد العدوان و ذلك ما عجل بضعفهم و قلة حيلتهم و أدى إلى ما هو أشبه بانقراضهم.


لم تكن في قلب ديريس أية ذرة من الإيمان بالشريعة التي روج لها "نيفيريس" و لم يكن يوما من أتباع الكاتالا بل كان كارها لها و كان دائما يردد من دون خوف على مسامع قادته المتعبدين لها: منذ متى تتخذ الآلهة صفا ؟ منذ متى يجلس على العرش أكثر من ملك واحد ؟ و قد دل هذا على عدم إيمانه بتعدد آلهة الأوثان و لكنه أيضا لم يظهر إعتقاده بالدين الأوحد.


- ما بك أيها المجند؟ خاطبه ويلكوت بينما كان شارد الذهن و رمقه بنظرة متعالية كان الغرور يختبئ بين طياتها.

تعجب ديريس من نبرته فآخر مرة تحدثا فيها قبل الإنطلاق دعاه ويلكوت بالعجوز الداعر بعد أن رفض الإعتذار منه. إما أنه خائف منه أو أنه يفكر في رد ذلك بطريقة ما. أجاب ديريس بهدوء متناسيا الموقف السابق: لعله التعب فلم نرتح منذ أيام و بعض المستجدين غير قادرين على حمل سيوفهم علاوة على دروعهم.


- و إن يكن سنستريح فور وصولنا إلى بيرك و إستكمالنا لمهمتنا. ثم تابع قائلا: أولست راغبا في معرفة حال بلدتك كيف أصبحت؟ أراهن أن عمودا من الدخان ينطلق من النار التي تلتهم جثث أهلها يُرى على بعد أميال. ثم ضحك..

لم يسمح ديريس لنفسه بابتلاع الطعم لكنه رمق ويلكوت بنظرة وحشية راغبا في اقتلاع عينيه.

كان ويلكوت شابا وسيما متعجرفا في الثامنة عشر من العمر ، من أبناء عائلة "بلاك روز" النبيلة، إنه إبن اللورد "آرين بلاك روز" شقيق زوجة الملك و قائد الحصن الأسود و كان ويلكوت تحت قسم خدمة الملك منذ ما لا يزيد عن نصف عام و كان ولي عهد قلعة "البلاك روز" الواقعة على ضفاف "بحر تشيل"، وعده والده اللورد بقلعته الخاصة ما إن ينهي خدمته، مرتديا درعا مزينا بالمعدن الذهبي المرقط البراق و مرتقيا فوق صهوة أضخم حصان بين كل الأحصنة الموجودة، يرافقه حاملو راية الملك "دي روز" التي تزينت بوردة حمراء وسط قماش أبيض كالثلج و راية أبيه التي تمثلت في وردة سوداء وسط قماش أحمر كالدم.

خطر لديريس أنه قد سئم من تلقي الأوامر من هذا اللورد الصغير الذي سبق أن سخر منه و هو ثمل، كما أن عجرفته الزائدة تثير فيه الرغبة في فصل رأسه عن بقية جسده ، لقد رآه بالفعل قبل شهر من الآن في خضم إحدى عمليات التطهير يغتصب شابة من أهل القرى أمام والدها العجوز، لم ينس أبدا ذلك المشهد و كيف أشاح ذلك العجوز بنظره و هو مقيد لا حول له ولا قوة و كيف أن الفتاة تبكي من الأمر و تخاطب أباها طالبة منه ألا ينظر إليها حتى أن ويلكوت لمح ديريس و نظر في عينيه بنظرة براقة مستمتعة ، ذلك المشهد لا يغيب عن مخيلة ديريس مع مئات المشاهد الأخرى التي مرت عليه خلال خدمة تجواله رفقة فيالق التطهير اللعينة.


على مشارف بيرك، توقف هطول الأمطار التي استمرت منذ الليلة الماضية، كان نقع حوافر الأحصنة يثير الأتربة حول أقدامها و انقشعت الغيوم التي غلفت السماء منذ أيام مضت ما سمح لبعض من خيوط الضوء بالعبور و معانقة الأرض، تراءت البيوت الحجرية المشيدة من الطوب و الخشب الأسود لِ اللورد الشاب و تبادل أفراد الفيلق المساعد نظرات متوجسة، لم يكن هناك أي أعمدة دخان كما إدعى ويلكوت سابقا بفخره المزعوم ، أيعقل أن أهل بيرك نجو من عملية التطهير؟ لن يجيب على هذا السؤال غير التقدم و النظر عن كثب.


هبت رياح باردة جعلت الخيول تخرج أنفاسا ساخنة وسط ارتعاش خفيف و راود ويلكوت إحساس غريب مع طعم الهواء، لا نار و لا دخان و لا أصوات و لم يكن هناك أشجار تحف المكان كل ما هنالك كان مساحة من الأرض المكشوفة و قد لاحت لهم البلدة في الأفق على بعد أقل من نصف ميل.


إرتقب الجنود أمر قائدهم الذي اختار التوقف على هذا البعد.

- أهناك أمر يا سيدي؟ سأل التابع المدعو ب "فليك" سيده ويلكوت.

أجاب الشاب و هو يهز رأسه بالإيجاب ممثلا أنه يمتلك حدس القيادة: أجل! أشعر بغرابة المكان، ليس من عادة الفيلق ألا يحدث جلبة.

و استرجع مع ذلك ما حدث ليلة الأمس حيث وصل مبعوث تابع للفيلق الخاص ب بيرك يخبرهم أنهم يحتاجون إلى الدعم.

إلتفت إلى نائبه و قال: هل تحققتم من هوية ذلك المبعوث؟

- أأ... أجل أعتقد ذلك!!. أجاب التابع بنبرة فيها شك.

- إذا لماذا أشعر بالغرابة من هذا المكان؟
هل تحرك الشماليون الملاعين أخيرا و قاموا بأمر مريب يا ترى؟ أم أنني أتوجس فقط؟

- لنرسل أعيننا يا سيدي و نعرف إن كان ما يقلقك فيه شيء من الحقيقة.

- أولا أريد أن أكلم ذلك المبعوث الذي جاءنا بالأمس.

- لم... لم نعثر عليه منذ الصباح يا سيدي.

- ماذا هل تعبث معي أيها اللعين..؟ قال ويلكوت بلهجة غاضبة و دفع فليك من أمامه مفسحا الطريق، ثم توجه بالقول إلى رجاله: سنتوقف هنا ريثما نتحقق من أمر هذا النداء فقد يكون فخا و قد يكون عبثا أو كمينا، لكنني أقسم بالآلهة أنني سأذبحهم جميعا أيا كان الأمر. بعد ذلك أمر بعض رجاله بتقصي الأمر عن كثب.

وسط كل هذا لم يحرك ديريس الذي كان في مؤخرة الفيلق ساكنا و لم يتفوه بحرف واحد، راح يتفحص الأفق من على حصانه موجها نظره نحو بيوت بلدته الحجرية الصلبة التي أكل عليها الدهر، و أخذ يسترجع ذكرياته الأخيرة فيها.

كانت بيرك أول بلدة تصادف القادمين من الجنوب إلى الشمال، عرفت دائما ببوابة الشمال و كان أهلها أكثر من تعرضوا لعمليات التطهير ما دفع الكثيرين إلى هجرتها و حتى القرى التي حولها قد اختفت و التي بقيت منها أضحت أطلالا مهجورة و لازال ديريس يذكر عائلة "آيس بورن"، العائلة الأكثر عراقة في بيرك و لم ينس أيضا الفتاة التي أحب من تلك العائلة قبل عشرين عاما "ديميت" كانت أجمل من رآى، شعرها الحريري الذهبي كسنابل القمح التي تسقط عليها أشعة الشمس لتمنحها لونها البراق، عينيها البنفسجيتين كبلورتين من الماس النادر الموجود جنوبا في "ساوث غولد" و أدمتها البيضاء كالرخام الأبيض النقي تتلمسها قطع القماش الحريرية الناعمة تداعب أطراف جسمها المنحوتة ببراعة كتمثال يزين قصرا فارها، كل هذا دعا ديريس للإبتسام و التساؤل بعمق في نفسه: ما الذي حل بها الآن يا ترى؟


لم يستيقظ ديريس من غفلته هذه إلى على صوت أحد الرجال العائدين من الإستطلاع يقول مخاطبا قائده اللورد الشاب ويلكوت: لق.. لقد أمسكوا بالبقية يا سيدي!

من أمسك بهم؟ سأله ويلكوت مترنحا فوق حصانه يحاول السيطرة عليه.

بدا الرجل مرعوبا للغاية و بسبب ذلك اعتقد أن مرافقيه قد تم الإمساك بهم و قال و هو يجيب: لا أعرف لم أر شيئا! فقط كان هناك دخان أسود عم المكان ثم فور انقشاعه اختفى الرجال الثلاثة المرافقون لي.

- أتقول أن ثلاثة من رجالي قد اختفوا وسط دخان أسود و تبخروا في لمح البصر ، هل تعتقد أنني أحمق لأصدق هذا الكلام.


- لا يا سيدي لست أحمقا لكنني أقسم بالآلهة أن هذا ما رأته عيناي.


”هل جن الرجل ! أهي خدعة ؟ أهو السحر؟“ غمغم الرجال بينهم في ذعر واضح.

توجه ويلكوت بالنظر إلى ديريس الذي بدا غير مكترث لما يحدث و خاطبه بلهجة آمرة كأنه يريد إثبات سيطرته على الوضع قائلا: ما رأيك في قول الرجل ؟ هل اعتادت هذه الأمور على الظهور في هذا المكان القذر؟

”القذر؟“ قال ديريس ثم أكمل كلامه بنبرة متحدية و ابتسامة مستخفة من قلة حيلة هذا اللورد الصغير المدعي: كل شيئ وارد الظهور و الحدوث منذ أن وطئت أقدام الجنوبيين القذرة أرض الشمال ، من الواضح للجميع ما هو مصدر القذارة التي تتحدث عنها.

وسط ذهول الرجال من هذه الإجابة المتحدية للقائد الشاب و امتعاض ويلكوت منها تكومت سحب سوداء فوق رؤوس الرجال الذين لم يتجاوز عددهم السبعين و عم صوت مهيب المكان و لم يكن ليكسره سوى صوت الرعد الذي حرك الأرض تحت أقدامهم.


رمق الرجال بعضهم بنظرات حائرة فالوضع متوتر بين قائد الفيلق و قائد الكتيبة المساعدة و الكل في انتظار قرار اللورد الشاب. أزاح ويلكوت نظره عن ديريس و هو يضغط على أسنانه و قرر ألا يرد عليه فهو لازال بحاجته فلا يوجد رجل بخبرته أو براعته في القتال و لا بمعرفته ب هذا المكان فهو قبل كل شيئ مسقط رأسه و لكن الأمر بينهما لن ينتهي عند هذا الحد. بعد ذلك إرتقى ويلكوت على ظهر حصانه و أمر رجاله بالإستعداد للتقدم، لابد من كشف طلاسم هذا الأمر و ساروا في مسير واحد كسرب من الطيور يشق طبقات السماء و بدا ذلك الجندي العائد مذعورا و لم يرد أحد من الرجال أن يسأله شيئا عما حدث، أما ديريس فقد غط في لا مبالاته المعتادة و كأن كلام الرجل لم يدخل أذنه، بل هو لا يعير اهتماما لأي من هذا الهراء، حتى بيرك لم تعد تعني له أكثر من طوب و حجارة مهجورة لكن هذا لم يمنعه من التساؤل عن لغز اختفاء الرجال المتواصل ليقطع حبل أفكاره صوت يقول: مثير للاهتمام أليس كذلك؟

إلتفت ديريس إلى مصدر الصوت، فوجده الرجل صاحب جربة الماء و لهذا امتنع عن قول أي شيئ.


قال الرجل مجددا: أنت لا تقول شيئا، إما أنك تعلم ما يحدث أو ببساطة أنت تشعر بالخوف.

رمقه ديريس بنظرة جانبية و ظل متمسكا بصمته.

قال الرجل: يبدو أنك لست من محبي الثرثرة.

أجابه ديريس بصوت خافت: هل ادركت الأمر الآن! أغرب عني.

- لابد و أنك تتساءل ما الذي حدث لعشيرتك التي انظممت إلى خدمة الملك مقابل حمايتها من الإبادة.

- لا!

- أوه! هيا هون عليك أحاول الحصول على محادثة ودودة هنا و أنت لا تريد الكلام.

- لا أعلم كيف أوحى إليك مظهري بأنك قد تحصل على رفقة ودودة معي، أعتقد أنك ستحصل على ميتة سريعة إذا واصلت إزعاجي بثرثرتك الفارغة، لكنني سأقدم لك نصيحة، ما رأيك أن تفكر في طريقة لنجاتك مما نحن بصدد الوقوع فيه.

إبتسم الرجل بغرابة و قال قبل أن يبتعد عنه: أنت لا تعرف شيئا يا ديريس.

«اللعنة على ذلك! حتى إنني لم أر هذا الرجل معنا من قبل.» قال ديريس في نفسه.

في خضم المسير شعر الجميع برعشة تسري بينهم و بدا الخوف واضحا و هو يتسلل بين النسمات التي تحركت بين الصفوف في حرية مطلقة و ألقى أحد الجنود سؤالا طائشا يلملم كلماته مذعورا غير منتظر أن يجيبه أحد: هل هم الأشباح؟ لقد سمعت القصص بالفعل!

أجابه صوت أحد آخر قائلا: أخبرتني مرضعتي أن الأرواح تنتقم إذا قتل أصحابها بوحشية و ظلم.


- لا تصدق أي كلام تسمعه و فمك حول حلمة إمرأة ، جدتي أخبرتني أن الأموات قد يتلبسون أجساد غيرهم لأجل أن ينتقمو من قاتليهم...


وسط هذا الحديث إخترق الرجال المدخل الرئيسي لبيرك و فجأة إرتعد حصان ويلكوت و رفع قائمتيه الأماميتين حتى كاد يسقط من على ظهره. زعق ويلكوت و أطلق سُبّةً و أحكم يده على رباط خيله و جذبه بعنف، أخرج الحصان نفسا حارا مع صهيل، كانت علامة على شيئ يقترب و إستل ويلكوت سيفه و أمر رجاله بالإستعداد لأي أمر مفاجئ.


أخذ ديريس يسير بين البيوت القديمة و يتذكر كل واحد منها، هذا يعود لآل "ويغنز" و الآخر لآل "روب" و هذا بيت العجوز "كلير" التي لاطالما أخبرتهم القصص و راح يتساءل ما الذي حل ببيتهم ذي الباب الأحمر الكبير وشجرة الليمون خارج نافذته. لم يتغير أي شيئ عن ما كان عليه قبل خمس سنوات، سوى أن هذه البيوت مهجورة الآن و لم تغب عن أنفه رائحة السمك المرقط المشوي الذي كان يعده الصياد السيد "ويغنز"، لقد كان أشهى سمك أكله في حياته.

علا صياح أحد الرجال: سيدي ليس هناك أثر لأي أحد، كأنهم إختفو جميعا.


”إبحثو جيدا!“ قال "فليك" في تردد بينما اكتفى ويلكوت بالمتابعة محاطا ببضعة رجال متأهبين.

رفع ديريس رأسه نحو السماء و بلهجة لا مبالية قال: مهما كان ما يتربص بنا فلا بد أن نرحل قبل حلول الظلام و تعاظم الخطر.


سمع اللورد الشاب قول ديريس و علم أنه من المستحسن أن يفعلو كما قال و لكن إن لم يجدو تفسيرا لما حدث فالأمر لن ينتهي و سيتكرر أكثر فمن غير المعقول الإختفاء المستمر لرجاله أضف إلى ذلك أهل بيرك، هل يعقل أنهم علموا بقدومهم فقاموا بالمغادرة قبل وصولهم؟


أسئلة طرحت و إجابات منتظرة و الخوف قد دب بين الرجال، شيئ غريب شعر الجميع بمذاقه في الهواء بالفعل، كأنه نوع من توتر الأعصاب يقف على شفير الخوف و هذا في حد ذاته يثير التوجس. كان شعور القلق واضحا على ويلكوت، فمنذ أن حلوا بالمكان و هو يشعر بأن ثمة شيئا مظلما يراقبه، شيئ لا يكن له أية مودة.


ديريس أيضا راوده نفس الشعور و راح يتساءل عن احتمال كون ما رآه الرجل صحيحا، إختفى ثلاثة رجال في وسط دخان أسود! «هل تعبث معي بحق العالم» فكر في نفسه، إنه يشبه قصص الأطفال التي كانت العجوز "كلير" تخبرهم إياها و هم صغار، ما كان تفسير ذلك آنذاك! لقد كانت تخبرهم القصص عن "ألسايدن" الذي كان يريد أن ينتقم من كل الرجال فيقوم بخطفهم لإخافة الناس.

كان البحث مضنيا و حتى التابع فليك لم يرغب بشيئ في تلك اللحظة أكثر من رغبته في الإبتعاد إلى مكان آمن، لكن لم يكن جائزا طبعا أن تعبر لقائدك عن رغبة كهذه.


إتفق الجميع على نفس الشعور، هناك حتما شيئ مريب يحصل في المكان و تساءل ديريس: إذا لماذا لا يهجمون علينا؟ لماذا كل هذا الترقب بينما يمكنهم حيث يختبؤون أن يغيرو علينا؟

ثم خاطب جندي الإستكشاف: تعال إلى هنا يا بني أعد علي ما رأيته دون إغفال أي شيء.


علت وجه ويلكوت نظرة يائسة و كأنه اشتاق إلى جو القصور، إلى ملمس فراشه الحريري و إلى نعومة بشرة الجواري الحسان في قلعة أبيه، بدا كأنه سئم هذا الهراء و كأنه بتلك النظرة سلم ديريس القيادة و هو ما فهمه ديريس الذي بدأ بإعطاء الأوامر للرجال و تحديد مراكزهم و توزيع الأدوار عليهم، ويلكوت يراقب في صمت كأنه التلميذ يتعلم من أستاذه فن إدارة عملية استطلاع ناجحة، خطب ديريس قائلا: لن نبتعد كثيرا طالما لم نعثر على شيئ، إذا لم نرد أن نخسر المزيد من تعدادنا فسنغادر قريبا، لننظر عن كثب نظرة واحدة، نقدم تقريرنا و نرحل، لقد بدأت أسأم من هذا الوضع.


كل ما أراده ديريس هو أن يصطاد بعض السمك المرقط الذي يعيش في الأنهار، إن ذلك سيعيد إليه الذكريات حتما، عندما كان طفلا كان يستمتع بليالي الشواء على ضفاف النهر و المبيت في العراء، إنه يشعر بالكدر، كل شيئ جميل قد اختفى من حياة قوم الشمال بسبب أطماع كاهن مدعٍ و قائد قلعة متبجح «و هذا الطفل الذي يقودنا ليس بحازم و لا بمقدام» فكر ديريس، من المستحسن أن يعود إلى دفئ حضن والدته قبل أن تصيبه عاهة فيندم. بعد التعليمات التي ألقاها تفرق الرجال و بدا أنهم كانوا يبتعدون عن بعظهم دون دراية منهم كأن شيئا يتسبب في فرقتهم عن قصد.

تقدم ديريس بحصانه متفحصا البيوت باحثا عن بيت عائلته ذي الباب الأحمر الكبير، قد يكون تغير و اصطبغ فذهب لونه أو نمت عليه بعض الحشائش فغيرت شكله، ماذا عن شجرة الليمون تلك؟ أيعقل أن رياحا شديدة البطش اقتلعتها من أعماق جذورها أم أن هناك من قطعها لحاجة بجذعها! لو أنه يلمح شيئا من ذلك قد يعرف أي بيت هو فمعضم البيوت قد تفرقت حجارتها وصارت ركاما.

و كأن شيئا يجعله يتقدم، لم يلحظ أحد أن دخانا أسودا خفيفا بدأ يعم المكان منذ وقت قصير حتى انتشر في كل الأرجاء بحيث لا يُمَكِّن النَّاظِرَ من أن يبصر موضع قدمه، صوت صهيل الأحصنة دوَّى المكان، لقد فزعت من شيئ ما. لم يعد المكان مجرد أطلال بل أصبح متاهة، الكل ساحب سيفه و متأهب.

فكر ديريس في أنه إذا كان الضباب مصطنعا من قبل عدو محتمل فإن هذا سيمنع الطرفين من الهجوم على حد سواء، هناك تفسير واحد للأمر إما أن العدو غبي أو جاهل، لكنه لم يدرك ما يحدث بالفعل.

في هذه الأثناء شيئ ما أوقع ويلكوت من على صهوة حصانه مما سبب ذعره و فراره.

”لا!“ صاح ويلكوت. ”أرجوك عد!“

شيئ ما أمسك قدمه جعله يصيح: ”لا.. اللعنة!“ كأنه جذع شجرة قد إلتوى على كاحله أو شيئ يشبه الأفعى، شيئ ما قد تخلل إلى ثيابه فلسعه مفقدا إياه الوعي و لم يمر وقت طويل حتى نال من الرجال ما نال من ويلكوت، كلهم قد صارو صرعى حتى مع صراخهم و صياحهم لا أحد قد سمعهم، بدا الأمر أشبه بالوهم و كأنه مستنقع تحيط به الأعين المتربصة من كل جانب مع رائحة عفن ميزت المكان و احتلت الأنوف و لمحة من دخان سحري أسود يقشعر له البدن، لكن غرابة الأمر أن ديريس لم يشعر بشيئ و لم يلحظ الدخان الأسود و لم يسمع صراخ الرجال و كأنه في مكان مختلف تماما، كل شيئ كان يبدو طبيعيا من حوله فقط الشيئ الوحيد الذي توجس منه هو الصمت المطبق للمكان حتى أدرك أنه صار منعزلا عن البقية دون أن يلحظ سلفا، حصانه راح يسير دون إصدار صوت فبدا ذلك مريبا كأن أحدا يتحكم بخطواته و كأنه كان مخدرا يسير على طريقٍ معد له مسبقا كي يسير عليه.

سحب ديريس سيفه بيد عصبية و استفاق من تيهانه الذي أصابه و شعر بأطرافه شبه مخدرة و بدأ يسمع أصواتا من حوله، كأن الأعين المتربصة سَتُغير عليه، ظلام غريب لف المكان...”أهناك من أحد؟“ قال ديريس بعينين محمومتين.

كانت خطوات حصانه متثاقلة مترنحة ما جعل صعوبة في التحكم به، أحس ديريس بذعر حصانه و لكن شيئا ما قد كمم فمه فلم يقدر على إخراج صهيل الفزع، لوح بسيفه و كرر بصوت عال مستجمعا شجاعته: سواء كنت عدوا أم صديقا إنسا أو شيطانا أفصح عن نف...

لم يكمل كلامه حتى لفه ذلك الظلام، شعر بقدميه على الأرض.. شيئ لا يمكن تفسيره... «أين رجال الفيلق لماذا لم يظهر منهم أحد ماذا يحدث بحق السماء!»

إنقشع الظلام بنور مشعل جداري أضاء ما حوله إلتفت ليكتشف أنه انتقل إلى داخل بيت أو ما شابه، حرك المشعل ليتفحص الأمر و شعيرات جسده منتصبة و اللهاث يأكل أنفاسه مع خفقان سريع لعضلة قلبه، إتسعت عيناه حين رأى الباب الأحمر الكبير، لقد أدرك أنه قد نقل إلى بيته بقدرة قادر. «هل هذا فعل مشعوذ؟» سحب سيفه ثانية لكنه ذاب بين يديه و انسل كالماء الذي يستحيل حمله براحة الكف، الأمر مثير للجنون!!

”بنيّْ....!“ خاطبه صوت مألوف لأذنه..

إستدار ديريس ناحية الصوت غير مصدق لما حدث لسيفه للتو، لابد أنه في حضرة ساحر أو شيطان، أو لعلها روح منتقمة ذات قوى غريبة.

حرك المشعل ليعرف مصدر الصوت بحركة ثقيلة و عضلات متصلبة، قلبه شجاع لكن غريزة البقاء في جسده تحث أطرافه على عصيان شجاعته، أُنزل من حصانه و ذاب سيفه بين يديه كجليد تعرض لحر صيفي شديد السُّخنة لكن ما رآه جعله يتراجع خطوات إلى الخلف و سقط متعثرا بجذع خرج من الأرض، وقع منه المشعل منطفئا، مد يده فزعا باحثا عنه فالتقطه ليشتعل مجددا من تلقاء نفسه منيرا قسمات المكان، لازال مصدر الصوت واقفا هناك يحدق به... لم يكن ساحرا أو شيطانا... بل كان رجلا مكشوف الوجه يعرفه ديريس حق المعرفة لكن وجوده هنا ضرب من الهلوسة... يفترض أنه مات منذ زمن طويل.

كان الرجل صاحب البيت من الأساس، كان والد ديريس أو روحا متمثلة في جسده.

-السير لوكا باربوس الذي مات عام الغزو-

”بنيّْ!!“ كرر الصوت على مسمعه من جديد.

لوح ديريس بالمشعل ليبعد الظل الواقف أمامه المتمثل في هيئة والده، إعتقد أنه شيطان أو جنِّي، كل شيئ بدأ يتضح في رأسه؛ هذا الشخص هو من جاء بالأمس مدعيا حاجة فيلق التطهير الخاص بِبيرك للمساعدة، هذا الشخص تسبب في اختفاء الرجال المتواصل و تخلص من الرجال الذين أرسلهم ويلكوت لاستكشاف الأمر، هذا الشخص إستدرجهم إلى هنا لغاية ما و لم يكن هناك أحد بالوعي الكافي ليكتشف الأمر و مهما كان ما يخططه فالأمر قد نجح..



____________________________________

معلومات متوفرة حاليا:


ساوث غولد south-gold: منطقة تقع في أقصى الجنوب معروفة باستخراج الذهب.

أبوكسيسوس Epoxysus: قارة أخرى معروفة باسم قارة العبيد.

حملات التطهير: حملات إبادة ضد المرتدين عن دين الآلهة (شريعة الكاتالا).

2019/07/10 · 417 مشاهدة · 4197 كلمة
Leo
نادي الروايات - 2024