كان الصباح وادعًا كسولًا في حيّ المتعة؛ فهؤلاء الطيور المسجونة قد صدحت حتى الفجر، وما إن انصرف الزبائن أخيرًا حتى سقطت الأقنعة المتودّدة عن وجوههنّ.
ولبرهةٍ قصيرة حتى يعلو قرص الشمس، يرقدنَ في سباتٍ عميق.خرجت ماوماو من كوخها الصغير وهي تتثاءب. وأمامها، كان البخار يتصاعد من بيت الفيرديغريس، حيث كان الخدم يسابقون الوقت لإعداد حمامات الصباح.
وخز البرد بشرتها، إذ كان الفجر بطيئًا في قدومه. رداؤها القطني البسيط لم يكن كافيًا لصدّ الصقيع، ففركت يديها معًا، وأنفاسها تتكاثف في الهواء كضباب.
مضى شهر منذ غادرت القصر الخلفي، وانقضت احتفالات العام الجديد. أما الشيخ العجوز فقد بقي في القصر، ولهذا كانت ماوماو الآن في حيّ المتعة.في الكوخ، كان هناك طفل ما يزال نائمًا؛ وقد عقدت ماوماو العزم على تركه كذلك، فهي تعلم أن هذه اللحظات وحدها تجعله هادئًا.
كان الصبي يُدعى تشو-أو، آخر الناجين من عشيرة شي التي أُبيدت عن بكرة أبيها، وهو يقيم الآن مع ماوماو—قصة طويلة.
هذا الصغير الماكر قيل إنه من سلالة نبيلة، غير أنّ ماوماو كادت تشكّ في ذلك؛ إذ بدا متأقلمًا على نحو يثير العجب، قادرًا أن يغطّ في النوم في ذاك الكوخ المتهالك والرياح تعصف به .
أجل، الجدة طلبت أن تراني
ارتجفت وهي تتوقف أمام البئر، تُنزل الدلو ثم ترفعه مملوءًا.وحين بلغت بيت الفيرديغريس، كانت الغانيات قد فرغن من استحمامهنّ، والخادمات الصغيرات يجففن شعورهنّ.قالت مي مي، وشعرها ما يزال يتلألأ بالرطوبة:
«أما هذه فزيارة مبكرة منكِ اليوم.»
كانت إحدى "الأميرات الثلاث" في الدار، وأخت ماوماو الكبرى في المعنى، إن لم يكن في النسب. فالغواني البارزات كُنّ يبدأن الاستحمام قبل غيرهنّ،ولهذا وجدتها ماوماو هناك، إذ كان حمام الغواني قد انتهى بالفعل.
قالت وهي تلوّح بيدها بتحية سريعة:«أه، أختي، أتعلمين أين الجدة؟»
أجابت مي مي وهي تلتف بمنشفة سميكة:«العجوز تتحدث مع المالك هناك.»
«شكرًا لكِ.»
كانت الجدة العتيقة هي التي تدير شؤون بيت الفيرديغريس اليومية، غير أنّها لم تكن مالكته. أما الرجل الذي يملك المكان حقًّا، فكان يزور الدار مرة في الشهر ليُشاورها في أمور الماخور والغواني وما يدور بخاطره. وقد جاوز الرجل عتبة الكهولة، غير أنّه كان يهاب العجوز التي عرفته منذ صغره، حتى همس بعض القوم أنّه ابنها من المالك السابق، غير أنّ أحدًا لم يتيقن من ذلك.لم يكن إدارة بيت المتعة شغله الشاغل؛ إذ كانت له تجارة أخرى مشروعة، ويبدو في أعين الناس عاديًّا تمامًا.
كان رقيق الطبع إلى حد يجعل المرء يتساءل هل يصلح أن يخوض غمار هذا العالم، ويخشى على مصير الدار إن غابت عنها تلك العجوز يومًا.
سألت ماوماو وهي تضيق عينيها: «أهو هنا ليبثّ إحدى أفكاره التجارية العجيبة من جديد؟»رفعت مي مي كتفيها باستهانة وقالت: «ومن يدري؟»
وفي تلك اللحظة دوّى صوت الجدة في أرجاء المكان:
«يا أحمق! يا غبيّ تام! ما الذي تظن نفسك صانعًا؟!»
تبادلتا النظرات، فقالت مي مي مبتسمة
: «يبدو أنكِ أصبتِ.»
أجابت ماوماو: «يبدو ذلك.»
ترى، ما الذي جَنَح إليه الرجل هذه المرّة؟وبعد دقائق، خرجت الجدة من إحدى الغرف الداخلية، يتبعها الرجل شبه المسنّ، منكمشًا كطفلٍ توبيخُه أبوه. كان الجميع يدعونه "السيد المالك"، ليتذكروا من الذي يملك المكان حقًّا. وقد بدا من فركه رأسه أنه نال قرصة من مفاصل العجوز الحادة.قالت الجدة وهي تلمح ماوماو: «أوه، ها أنتِ هنا.»ردّت ماوماو: «أجل يا جدة، أتيتِ لأنكِ طلبتِ ذلك، أليس كذلك؟»قالت: «بلى، بالطبع.»
اللعنة، لقد نسيت.
أيقنت ماوماو أنّ العجوز قالت ذلك لنفسها فقط، غير أنّها في اللحظة التالية شعرت بمفاصلها تضرب قمة رأسها. وكثيرًا ما تساءلت: أهي حقًّا بشرية أم روح جبلية تقرأ الأفكار؟ ألقى السيد المالك إلى ماوماو نظرةً ملؤها المواساة.
ذكّرها ذلك الرجل قليلاً بالصبي الذي يمارس الطبّ الشعبي…لو كان لديها شعور بالديجا فو، فلربما لأن الرجلين يشبهان بعضهما إلى حدٍ ما.قالت العجوز وهي تحدق به: «أعرفُ ذلك التعبير في وجهك. تريد أن تذهب للاستحمام، وربما الإفطار أيضًا، أليس كذلك؟ خذ الصبي معك.»قال السيد المالك مبتسمًا: «يبدو أن المزاج جيد اليوم.»ردّت العجوز بخفة دم: «لديّ أيامٌ كهذه.» ثم مشيت متمايلة نحو المطبخ كأنها ملكة تُظهر عرشها.
قال السيد المالك متلعثماً: «سأخرج من تلقاء نفسي إذًا.» وفعل ذلك على الفور.
يا للأسف
عمّ الصمت المطبق على الجميع في غرفة الطعام، لا كلمة تُقال.وأخيرًا نطقت بايرين الجالسة بجانب ماوماو، وقالت بغضب: «فظيع.»ارتسم على وجهها عبوسٌ من الاستنكار.
كانت تُعتبر إحدى أجمل ثلاث ورود نبتت في بيت الفيرديغريس، ولو رآها زبائنها بهذه النظرة، لانهارت كل أحلامهم وأوهامهم.أما ماوماو، فبدت وكأنها وجدت دودة في ماء شرابها.كان المائدة طويلة تكفي نحو عشرين شخصًا، وكلٌ أمامه طبق من العصيدة، وآخر من الحساء، وثالث صغير، بينما وُضعت ثلاث صوانٍ كبيرة متباعدة على طول الطاولة.
عادةً ما تتألف وجبات بيت الفيرديغريس من طبق حساء واحد، وربما—إن حالفك الحظ—طبق جانبي بسيط. أما اليوم، فكانت الأطباق الصغيرة تحتوي على سمك نيء وخضروات مخللة، بينما احتوى صينيان على أطباق جانبية منفصلة—إفطارٌ كريمٌ بحق بحسب المعايير العادية.وكان هناك شيء داكن يلمع فوق الصواني. حشراتٌ تُعتبر عادةً آفات مزعجة في حقول الفلاحين، تقدم هنا كطعام. الجراد.
قالت ماوماو: «جدة، هل يمكنك شرح هذا؟»
قالت العجوز: «اصمتِي وكلي، هذا هدية من السيد المالك.»كانت ماوماو تفهم تمامًا سبب انزعاج العجوز.
للسيد المالك أعمالٌ أخرى إلى جانب إدارة هذا الماخور—أعمال شرعية تمكّنه من رفع رأسه بين أهل الطباع الحسنة. لكنه لا يُعدّ رجل أعمال موهوبًا حقًا.قالت الجدة بغضب وهي تصب خلًا أسود على عصيدتها: «كان الحصاد سيئًا هذا العام. أظنهم قبلوا بأي شيئ .»
كان السيد المالك يعمل في تجارة المحاصيل. ففي هذه البلاد، يمنح الفلاحون جزءًا من حصادهم كضريبة، وتشتري الدولة جزءًا آخر من المحصول. أما ما يتبقى، فكان السيد المالك يتاجر به.قال بغضب: «لا يهمني إن بكى الفلاحون حتى جفت أعينهم، ماذا كان يفكر ذلك الرجل وهو يترك للبائع حرية تحديد السعر؟ لن يستطيع بيع هذه الكميات أيضًا. وانظر إلى هذا الكم الهائل!»
كانت هناك كومة ضخمة من الجراد المقلي على الصحن، متبلة بأفضل ما يمكن من معجون الصويا والسكر. «قال إنه اشترى كمية زائدة، وأنها لن تصمد وستفسد. لو كان الأمر كذلك، كان من الأولى أن يرميها بدلًا من أن يطبخها بالسكر!»والسكر كان ثمينًا! ومع ذلك، طبخ الحشرات به. من ذا الذي سيأكل ذلك؟ لا أحد، بالتأكيد. ولهذا بقيت الكمية كبيرة—وهكذا وصلت إلى مائدة بيت الفيرديغريس.كان السيد المالك قد فكّر في تحمل الخسائر بنفسه، لكن كان لديه هاجس آخر: زوجة لا ترضى عن مهنة الغواني في البيت، وكان واضحًا أنه اختار تلقي اللوم من مفاصل العجوز بدلًا من غضب زوجته.
خدشت ماوماو مؤخرة عنقها، معتادةً على الطعام البسيط، لكنها لم تكن متحمسة لمواجهة تلك الكومة من الحشرات. بعد أن التهمت اثنتين أو ثلاثًا، ستكون مستعدة لإعلان امتلائها. أما الغواني، فكان تناولهنّ لهذا الطعام المتواضع أمرًا غير مألوف، فعبّسن وجوههنّ ورفضن الاقتراب من الجراد حتى.
قالت العجوز بنبرة غاضبة: «أسرعوا وابدأوا بالأكل! لم تكفوا عن التذمر طالبين الأطباق الجانبية، فها هي أمامكم. خمسة لكل واحدة—كلوا.»تبادلت الأنظار الحضور، وأخيرًا مدّت أولى العيدان باتجاه الصحن الكبير.
تفاجأت ماوماو بالشخص الأول الذي وضع جرادة في فمه. ولكن حين مضغها، ارتسم على وجهه تعبير واضح من الاشمئزاز. قال بصوتٍ عالٍ ونبرة طفولية: «ليست لذيذة جدًا. غريبة، مقرمشة... كأنها خاوية.»
وكان هذا التقييم الصريح صادرًا من تشو-أو. كانت ماوماو متأكدة أن ذلك الشاب المدلل، ذو النشأة الأرستقراطية، سيرفض بشدة فكرة تناول مثل هذا الطعام، لكن على ما يبدو لم يكن الأمر كذلك. ربما فقدان ذاكرته أزال عنه أي تحفظات طبقية، أو ربما سبق له أن تناول مثل هذا الطعام. وربما كانت فقط مرونة طفل في مواجهة الجديد.قالت بايرين الجالسة بجانب ماوماو: «واو، يدهشني أنك تستطيعين تحمل هذا.»أجابتها ماوماو بلا مبالاة: «ليس لذيذًا جدًا، لكن لا يعني أنك لا تستطيعين أكله. هو مقرمش جدًا، حقًا.»مقرمش؟ بدا الأمر منطقيًا؛ فالجراد يُزال من أمعائه قبل طهيه، لذا فهو أجوف من الداخل. ولهذا لم تتردد ماوماو وهي تمدّ يدها لالتقاط جرادة وتأخذ قضمة بلا حماس.وفجأة، صرخت: «آه؟!»نعم، كان مقرمشًا حقًا.
هدا أكثر جوفًا من الجراد الذي سبق أن تناولته، رغم أن هذا قد طُبخ ببطء. ربما لأن القشرة هي الشيء الوحيد الذي وصل إلى فمها، طبقة خارجية فارغة أكثر من المعتاد.
كان تشو-أو مشغولًا بالتفاوض مع بايرين: «هل تريدينني أن آكل جرادك؟ سأساعدك إذا أعطيتني كعكة القمر.»أمسكت ماوماو برأسه بقوة ودفعته للجلوس: «آه! أوه أوه أوه!» صرخ تشو-أو متألمًا.أمسكت ماوماو بإحدى الجرادات بعيدان الطعام ونظرت إليها بغضب؛ كانت عادة سيئة لديها: إذا استحوذ شيء على اهتمامها، لا يمكنها تركه.
قالت له: «أريدك أن تقوم ببعض التسوق لي.»
بعد الانتهاء من الإفطار، تذكرت الجدة سبب استدعائها لماوماو في المقام الأول. أرادت أن ترسلها في مهمة إلى السوق الذي يحتل الشارع الرئيسي للمدينة.لم يكن مسموحًا للغواني بمغادرة الماخور، لكن الرجال هنا كانوا غافلين جدًا ليُعهد إليهم بالتسوق.
كان في السوق الكثير من البضائع الغريبة والنادرة، لكن أيضًا كثير من المحتالين الذين يحاولون خداع الزبائن. وكان السوق مكانًا رخيصًا لبيع السلع لأنه لا يتطلب محالًا دائمة، لكن بالمقابل لم يكن هناك ما يميز المحتالين أو الأماكن التي يجب تجنبها. لذا، كان لا بد من الحذر والفطنة لاختيار المشتريات المناسبة.
قالت العجوز: «أريدك أن تجلبي لي بعض البخور. النوع المعتاد.»
كانت تقصد البخور الخفيف الذي دائمًا ما يُشعل عند مدخل بيت الفيرديغريس. كان مستهلكًا، لذلك أرادت شراؤه بأرخص سعر ممكن، لكنها لم تكن لتسمح باستخدام بخور رديء عند مدخل مكان عملها.
قالت ماوماو وهي تبرز يدها: «نعم، بالطبع. ما قيمتها عندك؟»لكن العجوز صفعتها بعيدًا بحدة.
قالت بدهاء: «إفطار وحمام لشخصين. هل يبدو ذلك عادلاً؟»
فكرت ماوماو في نفسها:
يا لها من عجوز بخيلة
«هيي، يا ذات النمش ! اشتري لي واحدة من تلك!»
ردّت ماوماو بحزم: «مستحيل.»
كان تشو-أو يشير إلى كشك مليء بالألعاب بينما كانت ماوماو تسحبه بعيدًا، ممسكة بأكمامه.
كانت تعتزم أن تقوم بالتسوق وحدها، لكن الصبي الصغير طرح نفسه على الأرض يتوسل ويصرخ حتى استسلمت وأخذته معها.
والآن، كانت تمشي في السوق، تجذبه وراءها.يقطع شارع واحد هائل مركز العاصمة؛ تتردد عليه العربات ذهابًا وإيابًا، وعلى طرفه البعيد يقبع مقر أولئك الذين يعيشون "فوق الغيوم"، القصر.في كل يوم، يحتضن هذا الشارع سوقًا مزدهرًا. أحيانًا، حين تنظر ماوماو إلى القصر من هنا، تشعر كأنها حلمت فقط أنها عملت هناك. لكن وجود تشو-أو معها الآن كان الدليل الحي على أنها عاشت بين جدرانه، فهذا هو السبب الذي جعلها تورطت في سلسلة الأحداث التي أوصلته إليها.
لقد أثّر تمرد عشيرة شي على السوق أيضًا، إلى حدٍ ما. كانت المناطق الشمالية تُنتج الحبوب ومنتجات الأخشاب، ولم تستطع ماوماو أن تتخلص من الشعور بأن الأماكن التي تعرض مثل هذه السلع أصبحت أقل من المعتاد.
بدلاً من ذلك، رأت الكثير من الفواكه المجففة والأقمشة القادمة من الجنوب والغرب.كان هناك أمر آخر - شيء دفع ماوماو إلى العبوس حين رأته: حشرات مطهوة تُعرض للبيع.
الجراد مجددًا.قال تشو-أو بصراحة: «أضمن لك أن هذا الشيء سيء جدًا! من الذي سيشتريه فعلاً؟»
فوضعت ماوماو يدها على فمه وسحبته بعيدًا، في حين نظر صاحب الكشك إليهما بنظرة شديدة الغضب أثناء مرورهما.
سأل تشو-أو مستنكرًا: «ماذا فعلت؟ هذا صحيح، أليس كذلك؟»قالت ماوماو بصرامة، وهي تنظر إليه بنظرة أشد جدية من نظرة صاحب المحل: «اسكت فقط.»وهنا فكرت، «لهذا السبب أكره الأطفال.»
تابع تشو-أو بصوت أخفض: «القشور الجوفاء مثل هذه لن تكون جيدة أبدًا.» ثم قال: «يا رجل، حصاد هذا العام يبدو كارثيًا.
رمشت ماوماو بدهشة: «انتظر... ماذا قلت؟»
أجاب: «أوه، أن هذا الشيء سيكون سيئًا؟»
قالت: «لا، بعد ذلك.»
نظر إليها بتساؤل: «أن الحصاد هذا العام سيكون خائبًا؟»قالت: «نعم! كيف عرفت ذلك؟»
خدش تشو-أو رأسه بيده اليمنى، فيما كانت يده اليسرى تتدلى بلا حراك أحيانًا، إذ كان قد مات وعاد للحياة، مما تركه مشلولًا جزئيًا وذاكرته متقطعة.
قال: «لا أتذكر. فقط أتذكر أنني سمعت أن لما يكون الجراد مقرمشًا، يعني أن الحصاد سيكون سيئًا.»فكر وهو يمسك رأسه، وظلت ماوماو تتساءل إن كان هزّه جيدًا قد يعيد له بعض الذكريات، لكنه في النهاية كان مُعَارًا لها، فلم ترد أن تكون قاسية معه.
لكن إن كان ما يقوله صحيحًا، فقد يكون الأمر خطيرًا.صفعته على جبينه، بقوة كافية فقط ليمنعه من أن يصبح أكثر غباءً، فنفخ خديه معترضًا.
قال وهو مبتسم: «تعرفين، أعتقد أنني قد أستطيع أن أتذكر.»سألته ماوماو: «حقًا؟» ونظر تشو-أو سريعًا حول المتاجر القريبة.قال مبتسمًا واثقًا: «نعم! إذا اشتريت لي شيئًا، سأتذكر!»لم تنبس ماوماو بكلمة، لكنها سحبت زوايا فم تشو-أو إلى أقصى حد يمكنها أن تصل إليه. وفي الفجوة الغبية بين أسنانه الأمامية، كان بإمكانها أن تلمح سنًا جديدًا يخرج.
مرة مشاغب، مشاغب للأبد
تذكر؟ لا وألف لا.
بالطبع، لم تكن ماوماو لتسمح له بالتسلط عليها، فاختارت له ورقًا أقل جمالًا لكنه قابل للاستخدام.
كانت الورقة باهظة الثمن لمادة تُستهلك مرة واحدة، لكنها ليست مكلفة بشكل مستحيل. وكانت تأمل أن يصبح الورق أرخص مع ازدياد شيوعه. بدا تشو-أو سعيدًا ممسكًا بحزمة الورق تلك، فقررت أن تسامحه بضربة واحدة على رأسه فقط.
كان تشو-أو يرسم بنشاط منذ عودتهما إلى بيت الفيرديغريس. كان في المحل مع ماوماو، التي كانت مشغولة بصنع أدوية الإجهاض وأدوية البرد التي طُلبت منها. قيل لها أن تبقيه قريبًا حتى لا يثير المشاكل بين المتدربات (بعضهن في عمره) أو الغواني.
عندما عادت بعد توصيل الأدوية إلى ماخور قريب، وجدت حشدًا عند مدخل بيت الفيرديغريس. الغواني، والمتدربات، وحتى بعض الخدم كانوا هناك.تساءلت ماوماو:
ما الأمر؟
سألت ماوماو: «ماذا تفعل؟»كان تشو-أو جالسًا أمام لوح مسطح بدل الطاولة، يرسم صورة. وأمامَه غانية جالسة على كرسي، تحاول أن تبدو هادئة ومتزنة قدر الإمكان.
قال تشو-أو وهو يمرر الفرشاة بسلاسة فوق الصفحة:
«أليس واضحًا؟ أنا أرسم صورة.»
كانت الفرشاة تنساب على الورق، مرسمة شيئًا يشبه المرأة الجالسة على الكرسي، ولكن أجمل منها.قال وهو يضع الفرشاة في إناء الحبر ويهز الورقة جيدًا: «ها هو ذا! انتهيت.»
ابتسمت "النموذج" فجأة وقالت بدهشة: «يا للهول!»
ثم أخرجت محفظتها وأعطته خمس عملات—وليس نقودًا صغيرة.قال تشو-أو وهو يخبئ النقود في طيات ردائه: «سعيد بالتعامل معكم.»
و كانت تلك المبلغ أكبر بكثير من مصروف طفل عادي.قال أحد الخدم وهو يجلس على الكرسي: «أنا بعدها.»
كان من المفترض أن يكون في مهمة حراسة أو شيء من هذا القبيل، فما الذي يفعله هنا يلعب؟ لو رآه المشرفة، لكان في ورطة كبيرة.ردت تشو-أو: «آسف يا سيدي، انتهى الورق عندي.
سأذهب لشراء المزيد الآن، تعال غدًا، حسنًا؟»
صاح الخادم: «كذب! أنا أنتظر طوال اليوم!»قال تشو-أو مبتسمًا: «حقًا آسف، سيدي. سأجعلك تبدو أكثر رجولة غدًا!»
كان ماهرًا في ذلك. انسحب تشو-أو من الحشد وبدأ يسرع نحو محل الورق. تذكرت ماوماو أنها اشترت له حزمة من عشر أوراق—وقد نفدت بالفعل؟كان ثلاثة من الحاضرين على الأقل يحملون بورتريهات، وبأسعاره تلك، كان من الممكن أن يكون قد استعاد تكلفة المواد.تساءلت ماوماو وهي تخدش عنقها وتلقي نظرة خاطفة على الصفحة التي تحملها غانية قريبة:
من كان يعلم أن لديه موهبة كهذه؟
فجأة جاء صوت العجوز الأجش: «أيها الأوغاد! ماذا تفعلون؟!»كانت تلك الكلمات كافية لإسكات الثرثرة الودودة وتحويل وجوه الجميع إلى شحوب.
قالت العجوز: «عجّلوا في تجهيز المكان! هل تريدون أن يهرب الزبائن؟»
ظهرت العجوز وهي تهز مكنسة بيدها، ففرّت الغواني والمتدربات والخدم كالعناكب الصغيرة.كانت ماوماو على وشك الانسحاب إلى مكانها، حين أمسكت يد عظمية بيدها.
قالت: «ما الأمر يا جدة؟»ردّت العجوز بحدة: «تعلمين جيدًا ما الأمر! إنه ذلك الصبي! قد تكونين وافقتِ على استضافته وربما تأخذين معونة لدعمه، لكن لا يمكنك السماح له بفعل ما يشاء!»
قالت ماوماو بثقة: «أنتِ من تحصلين على المال كله يا جدة "نعم، لسبب ما كانت العجوز هي التي تحتفظ بكل الأموال التي تدخل. كان الأمر يتعلق إلى حد ما بأن تشو-أو، إلى درجة معينة، يُسمح له بحرية التنقل في بيت الفيرديغريس.
لكن لا يمكن السماح لرجل — حتى لو كان طفلًا — أن يعيش فعليًا داخل الماخور، كما لا يمكنه أيضًا أن يقيم في بيت الخدم. وبناءً على ذلك، وُضع في كوخ ماوماو.قالت ماوماو: «هو يستخدم مراحيضي. يستحق أن أدفع له نصيبًا من الأرباح. سأكتفي بعشرة بالمئة.»
يا لها من عجوز جشعة.
سألت ماوماو: «لماذا أنا؟»قالت الجدة: «لا تسألي، فقط افعلي. وإلا سيكون غدًا حساء الجراد.»
يا للعجوز!
قالت: «يا ذات النمش ، أين فرشاتي؟»أجابها تشو-أو: «لا فرشاة للأولاد الذين لا ينظفون بعد أنفسهم.»
التفتت ماوماو عنه بوضوح وأشعلت الحطب في الموقد.
صرخ تشو-أو: «لا تكن بخيلة معي!»ردت ماوماو وهي تحرك العصيدة في قدر الطين على الموقد، تتذوق رشفة وقالت: «إذا كنت بخيلة، فقد تعلمت ذلك من العجوز.»ثم أضافت: «بالمناسبة، هي التي قالت إنها ستفرض عليك أجرة لاستخدام مكانها.»
قال تشو-أو: «أنا أعلم! سأرسم بورتريهاتي في مكان آخر من الآن فصاعدًا.»
أثار ذلك عبوس ماوماو. وضعت الملعقة على قدر الحساء ثم اقتربت وقف أمام تشو-أو، الذي كان يتمدد على بساط القش على الأرض.انحنت ونظرت إليه.قال هو باستفزاز:
«ماذا؟!»
قالت ماوماو:
«ابقَ قريبًا من بيت الفيرديغريس. لا يهمني إذا كانت ستأخذ منك المال. لا تبتعد كثيرًا عن الحراس. ولا تذهب بمفردك لشراء الورق بعد الآن.»
ردّ بتحدٍ: «مهلاً، أستطيع أن أفعل ما أريد.»
وحاول أن يلتفت عنها.لكن ماوماو أمسكت رأسه وأجبرته على النظر في عينيها.
قالت بصوت حازم: «نعم، تستطيع أن تفعل ما تريد. إذا لم تمانع أن تنتهي ككتلة لحم.»نظر إليها تشو-أو بدهشة: «كتلة لحم؟»لم تكن تمزح. بيت الفيرديغريس كان صاخبًا وودودًا، لكنه مع ذلك كان جزءًا من حي اللذة، والحياة القذرة تحت سطح العاصمة لم تكن بعيدة أبدًا.أشارت ماوماو عبر نافذة الكوخ، وقالت: «ستنتهي مثلها.»
يمكن رؤية نور فانوس يتراقص في ظلمة المساء، تحمله امرأة مغطاة بغطاء، تحمل بساط قش.
بدت عادية في البداية، لكن تشو-أو شحب فجأة وقف بسرعة. لا بد أنه لاحظ أن تلك المرأة الليلية لا أنف لها.
لم يكن لها بيت خاص بها أيضًا، وكانت تضطر لأخذ زبائنها على جانب الطريق.نساء مثلها، أسوأ أنواع البغايا، كثيرًا ما تكون أجسادهن منهكة بالأمراض الجنسية.
بدت المرأة في الخارج كأنها لا تدوم طويلاً في هذا العالم، لكنها إذا أرادت وجبتها القادمة، فعليها أن تجد رجلًا يرضيها.
تساءل ماوماو ما الذي تفعله تلك المرأة هنا؟ ربما كان والدها الطيب قد أعطاها دواء يومًا، أو ربما كانت تبحث عن بقايا من ماخور آخر. مهما كان، فكرت ماوماو، فإن وجودها يسبب لها المتاعب.
قالت: «هذا ليس مكانًا جيدًا. لا يهم إن كنت طفلًا صغيرًا. هناك من ينتظر فرصة ليقتلك لو عرف أنك تحمل بعض القطع النقدية.»بعبارة أخرى، إذا لم يرغب في الموت، فعليه أن يفعل ما تأمره به.ضغط تشو-أو شفتيه قليلًا، لكنه أومأ برأسه، وعيناه تلمعان بالدموع.
قالت له: «هل فهمت؟ إذن أسرع كل عشاءك واذهب للنوم.»عادت ماوماو واقفة أمام الموقد، حيث واصلت تحريك العصيدة.في الصباح التالي، كان تشو-أو قد استيقظ قبلها. سمعت حركة في المكان، ونظرت لترى الطاولة مغطاة بالورق.
كان تشو-أو يرسم بحيوية باستخدام الفرشاة.
ذلك المشاغب...
همم؟
ذكريات قديمة...
وفجأة وقف تشو-أو وقال بصوت مفعم بالفخر: «انتهيت!»ثم قدّم لها ورقة قائلاً:
«انتهيت يا نمشاتي!»
سألت ببرود: «انتهيت من ماذا؟»
أجاب وهو يلوح بالورقة في وجهها: «هذا! هنا!»
على الورقة كان هناك رسمان لحشرتين متشابهتين لكن باختلافات دقيقة.
قال تشو-أو: «واجهت صعوبة في التذكر بالضبط، لكن أظن أن هذا هو. أعتقد أن هذه هي الحشرة التي رأيتها عندما سمعت عن سوء المحصول.»
لحسن الحظ، كانت رسوماته أوضح من كلماته بكثير. فقد كان يوضح قائلًا:«هذه هي الجرادة العادية. وهنا في الأسفل جرادة تظهر عندما يكون الحصاد سيئًا.»
كان الاختلاف جليًا في طول الأرجل، ورغم صعوبة إدراك اللون في الرسم بالحبر، إلا أن تباينًا في درجة التصبغ كان يوحي بالاختلاف أيضًا.
سألت ماوماو: «هل أنت متأكد من هذا؟»
أجاب بثقة مترددة: «إلى حد كبير. الأمر عاد إليّ على شكل شظايا من الذاكرة.»كان تشو-أو لا يزال يعاني من فقدان الذاكرة، لكنه بدأ يسترجع أجزاءً منها شيئًا فشيئًا. قد يكون ذلك مزعجًا حسب ما يتذكره، لكنه أيضًا قد يكون بالغ الأهمية.
نوعان من الجراد...
ماوماو لم تعرف ما الذي يسبب هذه الكوارث، لكنها كانت تحدث مرة كل عدة عقود. ولحسن الحظ، لم يقع شيء من هذا القبيل منذ تولي الإمبراطور الحالي الحكم.بعض الناس كانوا يصرون على أن ذلك بفضل عدل الإمبراطور وحكمه المستنير، وأن السماء لم تر داعيًا لإرسال البلاء.لكن ماوماو لم تصدق ذلك لحظة واحدة. رأت أن الأمر مجرد صدفة.
ومع ذلك، إذا وقع الوباء في عهده، فسيكون ذلك الامتحان الحقيقي لقوة الإمبراطور.لم يمضِ زمن طويل على العقوبة التي أنزلها الإمبراطور بعشيرة "شي"، أقوى عشائر البلاد. وكان التوقيت في غاية السوء؛ فلو حلّ وباء الجراد الآن، لاعتبره الكثيرون تأديبًا سماويًا لما جرى من استئصال تلك العشيرة.
تفه، ليس شأني. لا علاقة لي بالأمر.
لا أظن أنني سأجدها هناك...
أغلب ما في المحل كان كتبًا مستعملة أو للإعارة، والقليل منها جديد للبيع. إن رغبت في كتاب جديد حقًا، لوجب عليك طلبه. صاحب المحل ترك أمر التجارة لأبنائه، يعيش منعزلًا في عالمه.
على الأرجح لن أجد ما أبحث عنه هنا.
فهذا المتجر اشتهر برواياته الشعبية ورسوماته الفاضحة، لا بما يُسمى موادًا راقية. غير أنّ المرء قد يعثر أحيانًا على كنز في أماكن كهذه...
ما إن خطت خطواتها الأولى حتى مسحت عينيها بدهشة.
ما هذا؟
أأكون في مسرح حبكة ساذجة؟
مدّت إصبعها نحو كتاب فوق كومة على المكتب وقالت:«أيها العم، هل لي أن أرى هذا؟»
«ممم»، تمتم البائع بصوت خافت، فاعتبرته إذنًا وتناولت الكتاب.كان الكتاب سميكًا ثقيلًا، على غلافه طائر مرسوم بدقة.
أمر لا يُصدق...
ومع ذلك، ها هو بين يديها. كان مليئًا برسوم الطيور، تحفّ بها شروح دقيقة، وتتناثر في الهوامش ملاحظات مكتوبة بخط اليد.سألت وهي تتصفح الصفحات بدهشة: «ما قصة هذا الكتاب؟»تمتم البائع بفتور: «أحضرته البارحة.»
بل كان يتمنى لو تكفّ عن إزعاج قيلولته.سألت ماوماو وهي تقلب الصفحات بعينين تلمعان:«هل وصلك شيء آخر معه؟»
أجاب الرجل بتكاسل:«نسخة واحدة فقط. لكن الرجل الذي أحضره قال إنه سيعود، على ما أظن.»عندها أضاء وجه ماوماو بوميض غريب.
لقد كان هذا الكتاب بعينه، لا ريب في ذلك. المرة الثانية التي تلمسه فيها بيديها. نعم، هو ذاته الذي رأته في ذلك الزمان، في تلك الحجرة التي سجنت فيها.كان واحدًا من الكتب التي أُعطيت لها لتبحث فيها عن سرّ إكسير الخلود.
وها هو الآن بين يديها من جديد.