60 - المجلد الثاني: الفصل الثالث و العشرون : العودة إلى القصر الخلفي

ظنّت ماوماو في البداية أنها لم تحب هذا المكان، لكنها اكتشفت لاحقًا أنها كانت مخطئة — لقد باغتتها هذه الحقيقة كمفاجأة غير متوقعة. ففي حين اعتادت سابقًا على حياة القصر الخلفي، بدا الآن، بعد عودتها إليه أخيرًا، أنه المكان الأنسب لها. فقد نشأت في بيئة مليئة بالنساء، وربما لهذا السبب انسجمت مع إيقاع الحياة هناك دون عناء.عادت أيامها لتدور حول تذوق الأطعمة، وتحضير العقاقير، مع قليل من التنزه البسيط. لم تكن ساقها قد شُفيت تمامًا بعد، وقد طُلِب منها بصرامة ألا تجهد نفسها أو تكثر من الخروج. لكنها، من وجهة نظرها، كانت بخير طالما تجنبت أي مجهود قد يفتح جرحها مجددًا.

أما ذراعها اليسرى، فبكل صراحة، لم تكن بذلك القدر من الحساسية الذي يستحق القلق.

أما بخصوص حمل "غيوكيويو" ، فلم يُحسم أمره بعد بشكل نهائي. حين كانت حاملاً بالأميرة "لينغلي"، لم تعانِ من غثيان الصباح أو تغيّر ملحوظ في تفضيلاتها الغذائية. باستثناء تأخر الحيض، لم يظهر دليل حاسم على الحمل هذه المرة.ومع ذلك، فُرِض تعتيم كامل على الجناح اليشمي ، اتقاءً لأي خطر. فلو وُجد من لا يتمنى رؤية "القرينة غيوكيويو" تحمل بطفل، فمن المؤكد أنه سيستهدفها في المراحل الأولى، حين يكون الحمل أكثر هشاشة. وكان التسميم، للأسف، مجرد احتمال من عدة احتمالات مقلقة.ولأجل الوقاية، تم استبعاد "الإمبراطور" — الرجل العجوز المهووس بالملذات — من أي زيارات ليلية إلى الجناح اليشمي مؤقتًا. في العادة، لم يكن هذا ليشكّل عائقًا، لكن منذ بدأت "غيوكيويو" بتطبيق ما تعلمته من دروس رفيقاتها، لم يعد شيء مما كان "عاديًا" ينطبق بعد الآن.

كل الاحتمالات باتت ممكنة."ربما كان يجدر بي أن أتعامل مع الدروس بقدر أقل من الجدية"، فكّرت ماوماو. لكنها سرعان ما رفضت الفكرة. لقد انتهى الأمر بإثارة استياء كل من "غيوكيويو" و"الإمبراطور"، ومع ذلك، كانت النتيجة أنها أرعبت "القرينة ليشو" ، وجعلت وصيفاتها ينظرن إلى ماوماو وكأنها وحش لا يُروّض .

ترددت ماوماو، كما هو متوقع، في أن تفتح الحديث مع جلالة الإمبراطور بنفسها — فطرح مثل هذا الأمر عليه مباشرة لم يكن بالأمر الهين. وبما أن نقل الرسالة عبر الخدم كان أكثر سهولة، فقد آثرت التواصل من خلال "جينشي"، دون أن تُفصح صراحةً عن مرادها. كل ما كانت تأمله هو أن يواصل الإمبراطور زيارة "غيوكيويو" كما اعتاد من قبل، لا أكثر ولا أقل. إذ إن الانقطاع المفاجئ أو قلة الزيارات قد تثير الريبة، وهنالك دومًا من يلتقط الإشارات، خاصة أولئك المتربصين بالأميرة أو من يكنّ لها الضغينة.

ولدهشتها، لم يحد الإمبراطور عن عادته. ظل يزور "غيوكيويو" بانتظام، يلعب مع ابنته الصغيرة بحنوّ، ويتبادل أطراف الحديث مع رفيقته بروح مرحة لا تخلو من عفوية. تذكّرت ماوماو في تلك اللحظات قصة "ديو آه" القديمة، وتساءلت إن كانت قد ظلمت الإمبراطور حين اختزلته في صورة رجل مهووس بالشهوات. وربما، وربما فقط، كان أكثر وعيًا بعواقب أفعاله مما كانت تظن.

صحيح أن البعض كانوا يعتبرونه "الحاكم الحكيم"، وإن كان هذا الوصف في نظر ماوماو يأتي مقارنة بما كان عليه سلفه — مهرجًا على عرش الإمبراطورية. ومع ذلك، لم تستبعد أن يكون لهذا الحاكم بريق من الذكاء الحقيقي."في النهاية، لا يعنيني كثيرًا"، هكذا فكرت ماوماو. "طالما لا يُثقِل كاهل الناس بالضرائب ويدع الحياة تمضي كما هي، فليكن ما يكون."كان هناك قول شائع في الأوساط الشعبية: "الحاكم الأحمق يظن أن الناس لا ينفدون، أما الحاكم الذكي، فيدرك أنهم بشر لهم طاقة وحدود." وإن صحّ هذا القول، فإن الإمبراطور الحالي ينتمي بجدارة إلى الفئة الثانية.

لكن ماوماو لاحظت بين الحين والآخر تلك النظرات المتعبة، البعيدة، التي تُغلف وجه الإمبراطور. ولأجل ذلك، قررت أن تمنحه شيئًا يملأ به أوقات الفراغ: مجموعة من "المواد التعليمية".(ولا حاجة للخوض في تفاصيل طبيعة تلك المواد تحديدًا...)كانت تحتفظ دومًا بمجموعة من الكتب المختلفة في متناول اليد، لعلّها تثير اهتمام إحدى السيدات في القصر، لكن لم تُبدِ أيٌّ منهن رغبة في تصفحها.

ويا للأسف...فما كان من ماوماو إلا أن وضعتها في مكان ظاهر لكن غير مزعج، على أمل أن يلمحها جلالته — وقد فعل.وبعد أيام قليلة، حين أُمرت بإعداد المزيد من تلك "المواد"، ابتسمت في نفسها وقالت:"ربما... كان وصفه بالمهووس ليس بعيدًا تمامًا عن الحقيقة.".

وفي قصر كهذا، حيث تتناثر الأحاديث كالغبار، كان لا بد أن تخرج شائعة أو اثنتان قريبًا ، كان ما يدور من أحاديث في أروقة القصر الخلفي يُعزى إلى الملل الذي يخلّفه الروتين الذي لا يتغير، وإلى الغياب الدائم للرجال، مما يترك فراغًا في الأحاديث والنفوس. وهكذا، حين لم تجد السيدات ما يشغلهن، اجتمعن في المطبخ يتبادلن أطراف الحديث ويملأن الوقت بالثرثرة.

كانت الحلوى المتبقية من حفل الشاي الأخير لا تزال على المائدة، ومن بينها نوع شهي يُعرف بـ"حلوى لحية التنين" — خيوط ناعمة من السكر تذوب في الفم، ممزوجة اليوم بأوراق الشاي، مما منحها نكهة عطِرة وخفيفة.

قالت إحدى السيدات المنتظرات، وهي تقضم قطعة من الحلوى بشيء من الاستنكار:"هل رأيتن ذلك الزي؟! لم أستطع تصديقه!"

كانت امرأة جريئة لا تتردد في التعبير عما يدور في خاطرها.ردّت أخرى بنبرة مرحة، وقد بدت مستمتعة بالحلوى:

"صحيح، لكنّ الثوب الذي ارتدته مؤخرًا كان جميلًا جدًا. الملابس الغربية تبدو جذابة، ألا توافقن؟"

أما ثالثتهن، وكانت أكثر رصانة ولم تكن من محبي الحلويات، فقد اكتفت بارتشاف الشاي قائلة:

"هذا النوع من الملابس لا يليق بأي أحد... ومع ذلك، لم أظن أنها بدت سيئة عليها."

شعرت الأولى وكأن صديقاتها خذلنها، فالتفتت إلى ماوماو مستنجدة، فقالت هذه بهدوء:

"نعم، بالتأكيد..."

لكنها في داخلها كانت تتمنى ألا تُزجّ في مثل هذه المهاترات التافهة وهذا كان أقصى مشاركتها.

أما الفتاة التي بدت خائبة الأمل لأن أحدًا لم يساند رأيها، فقد نفخت خديها قائلة:"حسنًا، كنت أظن أن تلك السيدة أكثر أناقة بكثير!"ثم شربت الشاي بامتعاض، دون أن تُغيّر تعبير وجهها. نظرت الأخريان إلى بعضهما البعض وابتسمتا.

قالت إحداهن مازحة:"إذًا، كنتِ تؤيدين السيدة آه دو منذ البداية!".

صرخت الأخرى وقد ارتبكت: "أنا؟! أبدًا!"

ابتسمت الثالثة وقالت بلطف:"لا بأس عليك. نحن في خدمة السيدة جيوكويو، لكن لا أحد سيلومك على مشاعرك."

ردّت بعناد: "لكني لا أشعر بذلك أصلًا!"

أما ماوماو، فقد استمرت في شرب الشاي بهدوء، مستمعة إلى حديثهن. لم تكن الحلوى تستهويها، فهي تفضل المذاقات المالحة على الحلوة، وتمنت في تلك اللحظة لو كان بين يديها بعض رقائق الأرز المالحة لتجدّد بها ذوقها.

وكان محور الحديث يدور حول القرينة الجديدة التي ظهرت مؤخرًا في القصر، تلك السيدة الغريبة الأطوار التي تملك حضورًا غير معتاد التي تدعى روان ! وما كان يثير الحديث بشأنها؟ إنها ملابسها الغريبة، فكلما ظهرت كانت ترتدي زيًّا يختلف عن الآخر. يومًا تخرج في ثوب شبيه بأزياء بلاد الغرب، وفي اليوم التالي ترتدي زيا غريبا لأحد القبائل .تساءلت ماوماو في نفسها: ما حكاية هذه السيدة؟

لعلّها ثرية جدًا... فبهذا المعدّل من تبديل الملابس، لن يمضي وقت طويل قبل أن يتحول جناحها إلى خزانة مكتظة. كان الجناح الذي كانت تسكنه "ديو آه" من قبل، والذي اتّسم سابقًا بالتقشف، قد تغيّر بالكامل حتى غدا من الصعب تمييزه، وكأن المقيمة الجديدة أرادت طمس أي أثر لصاحبته السابقة.

وقد يكون في ذلك صواب وخطأ معًا. فمن جهة، القصر الخلفي عالم لا يعلو فيه المرء إلا بالبروز والظهور، لكن في المقابل، وكما يقول المثل، "المسمار البارز يتعرض للطرق"، ولعلّ "لولان" كانت لتُعامَل كمثل هذا المسمار في الظروف العادية، لولا أن والدها كان أحد المستشارين الكبار أيام الإمبراطور الراحل، مما يجعل يد العدالة أو الانتقام أضعف من أن تطالها."هذا يفسر الكثير"، همست ماوماو في خاطرها. ولعلّ هذه الصلة هي وحدها كافية لطرد "ديو آه". بالنظر إلى عمر "لولان"، قد يبدو دخولها إلى القصر متأخرًا بعض الشيء، غير أن الأمور في هذا المكان لا تُقاس بالعمر وحده.ثم خطرت لها فكرة: أليس من مصلحة الإمبراطور، من بعض النواحي، أن تُبقي "ديو آه" في القصر؟

فهي، بما أنها لا تصلح أن تكون أمًا لوارث العرش، فإن نظرها سيظل موجّهًا إلى الأمام دون انشغال، وقد كانت فطنة حادة الذكاء، حتى لتمنّت لو أنها وُلِدت رجلًا. والآن، وبدفعة واحدة، خسر الإمبراطور مستشارة ذات شأن، وربح امرأة شابة قد لا تقتصر آثار حضورها على القصر الخلفي، بل قد تمتد لتطول أروقة البلاط الأكبر ذاته. فهل كان هذا ربحًا أم خسارة؟

لم يكن يستطيع أن يتجاهلها تمامًا، لكن في الوقت نفسه، لم يكن من الحصافة أن يُظهر لها الكثير من الحفاوة، أو أن يسمح بإنجابها لطفل. إذ إن نفوذ قرينات الإمبراطور لا يدوم عادة إلا ما دام أطفالهن صغارًا. أما إذا شبّ الفتى وصار هو نفسه الإمبراطور، فحتى الأم قد تُهمَّش ويُلقى بها في زاوية النسيان.إذًا، ما الذي يعنيه كل هذا؟

تأملت ماوماو في الاحتمالات، متلذذة بطعم الشاي وهي تصب لنفسها كوبًا آخر من الإبريق الصغير.

2025/05/30 · 96 مشاهدة · 1315 كلمة
نادي الروايات - 2025