66 - المجلد الثاني : الفصل السابع و العشرين: الأظافر الحمراء 💅💅

الورود الكريهة الألوان، التي ازدانت بطيف مشوّه من الأصباغ، خطفت الأضواء في حفلة الحديقة. حدّق لاكان فيها بشرود، وقد كادت الموسيقى الهادئة أن تغرقه في النوم. كان ممسكًا بقبعة لا يعرف صاحبها، تتدلّى منها كرة من الزغب، ولم يدرِ حتى من أين جاء بها.

قال في نفسه: «لا بأس»، ثم وضع القبعة إلى جواره على الطاولة. فانقضّ عليها الموظف الجالس إلى جانبه بجشع، وسوّاها على رأسه، ناظرًا إلى لاكان بنظرة عتاب، لا يدري هذا الاستراتيجي سببها. تجاهل الأمر، وأخرج عدسته الأحادية ليمسحها بمنديله ثم أعادها إلى عينه الأخرى .

كانت الورود موضوعة في قلب المأدبة، كما لو أن من نظّمها أراد أن يعرض ذوقه السيئ على الملأ. أدرك لاكان أنه في مأدبة، هذا ما استطاع تذكره على الأقل. كانت الألحان تتراقص حوله، وشرائط من الحرير ترفرف، وأمام عينيه طعام فاره، ورائحة الخمر تملأ الأجواء.لم يكن لاكان بارعًا أبدًا في تذكّر ما لا يثير اهتمامه. كان يتذكّر الأحداث، لا المشاعر التي رافقتها، وكأن بينه وبينها حجاب لا يُخترق.قبل أن يدرك ما يجري، كانت مراسم الحفل قد انتهت، والإمبراطور يقدّم الورود لاثنتين من الجوار، إحداهن بثوب أسود، والأخرى بأزرق، كل وردة بلون زيّ من تحمله. سمع همسات من حوله تشيد بجمالهن، لكنه لم يكن ليميز الجمال من القبح في الوجوه، فقد كان هذا المفهوم غريبًا عنه.يا للضجر. ألم يكن من المفترض أن يظهر؟ لمَ كل هذا العناء في استفزازه إن لم يكن سيأتي؟ لم يجد بُدًّا من أن يبحث عن ضحية جديدة ليمارس عليها بعض من مشاكسته المعتادة، علّه يُطفئ بها بعض الضيق.

نظر حوله؛ لا يزال الجمع محتشدًا.كان يكره الحشود.كانت وجوه الناس، في عينيه، تشبه حجارة لعبة الـ"غو". يفرّق بين الرجال والنساء، إذ تبدو وجوه الرجال كالحجارة السوداء، ووجوه النساء كالبيضاء، لكنهم جميعًا بلا ملامح تُذكر، أشبه برسوم كاريكاتورية باهتة. أما الذين عرفهم في الجيش عن كثب، فقد تدرّجت صورهم في ذهنه لتصبح أقرب إلى قطع الشوغي: الجنود البسطاء كأنهم بيدق، وكلما ارتفعت الرتب أصبحوا رمحًا أو فارسًا، أو إحدى القطع الأقوى.وظيفة القائد العسكري بسيطة: أن يضع كل قطعة حيث تكون أنفع. لكل موضع موضعه، وهذا هو سر النصر في معظم المعارك.

لم يكن في ذلك صعوبة! ما على لاكان إلا أن يرتّب قطعه كما ينبغي، فينجز عمله. قد لا يملك موهبة تذكر، لكنه إن أحسن توزيع الجهود، تكفّل من حوله بالباقي. هكذا كان يظن.حتى ذلك الرجل، الذي قال الناس إن جماله يفوق وصف الحوريات السماوية—كان لاكان يصدّقهم فحسب، إذ لم يكن ليُميّز ذلك الجمال بعينه. كل ما كان يعلمه أنه بحاجة إلى أن يجد «جنرالًا ذهبيًا» يرافقه «فضّيٌ مترقٍّ».

وكان لاكان بارعًا في إيجاد الأشخاص.لكن، آهٍ، عيناه تؤلمانه اليوم أكثر من المعتاد. اللون الأحمر كان يلسع عينيه. الكلّ يحمل على أطراف أصابعه بقايا من طلاء قرمزي. هذا الطلاء الذي شاع بين نساء القصر. الطلاء الأحمر كما يتذكّره لاكان لم يكن بهذا الابتذال؛ كان رقيقًا، ناعمًا، بلون زهرة البلسم.

ذلك الاسم حرّك وترًا دفينًا في قلبه، وذكّره باسم محظيّة.وما إن تردّدت الخاطرة في ذهنه، حتى أطلت من أمامه فتاة قصر صغيرة الحجم. بدت نحيلة، هشّة، لكن فيها صلابة شبيهة بعشبة الحميضة. رفعت إليه عينيها الجوفاوين، ولما رأت أنه يحدّق بها، أدارت وجهها وكأنها تقول: «اتبعني».

خلف حديقة الفاوانيا، كان لوح شوغي منصوبًا في جناح مفتوح. وفوق اللوح، صندوق من خشب الباولونيا، يرقد فيه شيء يشبه بقايا وردة ذابلة.

«هل تأذنون لي بمباراة؟» سألت الفتاة، بصوت خافت أجوف، لا نبرة فيه ولا شعور، وهي تلتقط قطع الشوغي الواحدة تلو الأخرى.كان الجنرال الذهبي قريبًا، يرافقه فضيٌّ مترقٍّ، كأنه ظلّه.أي سبب قد يدفعه للرفض؟ كيف له أن يتجاهل طلبًا من هذه الفتاة الصغيرة العزيزة—فتاته العزيزة؟ابتسم لاكان بمكر.

○ ● ○

ما الذي تأمل أن تحققه، بحق السماء؟

كانت ماوماو قد رجَت جينشي أن يعود إلى القصر إن كان ذلك ممكنًا، غير أنه تجاهل رجاءها تمامًا. بدا عليها الضيق الشديد، لكنها رضيت بشرط أن يلتزم الصمت. ثم وجهت دعوتها الصامتة إلى القائد، وبدأت ترصّ قطع الشوغي.

كان وجهها خاليًا تمامًا من التعبير؛ بل إن برودها المعتاد بدا أكثر دفئًا وإنسانية مقارنةً بما هي عليه الآن.

كانت تحكّ ظهر يدها من حين إلى آخر؛ لعلّها تعاني لدغة حشرة.

«إذًا، من يبدأ أولاً؟» قال لاكان، وعيناه—إحداهما خلف عدسة أحادية—تلمعان بفرح صافٍ. ما أصدق هذا الدليل على هوسه العميق بهذه اللعبة.

«قبل أن نقرر ذلك، دعنا نضع القواعد… والرِهان»، قالت ماوماو.«لن يكون ذلك عسيرًا.»كان جينشي يحدّق إلى لوح الشوغي من خلف كتف ماوماو، ولاكان يرمقه بابتسامة مواربة، تنذر بما لا يُحمد. لكنه، في قرارة نفسه، لم يكن ليسمح لنفسه بالهزيمة في هذه المواجهة. فزاد ابتسامته حلاوة، كما لو كان يسكب عسلاً في كأسٍ لاذع.

كان الاتفاق أن تكون مباراة من ثلاث جولات في أصل خمس. ومع ذلك، لم يفهم جينشي ما الذي تفكر فيه ماوماو.

فالقائد لم يُهزم قط في الشوغي. واختيارها لهذه اللعبة تحديدًا بدا ضربًا من الجنون. ومن العبوس الذي ارتسم على جبين غاوشون، بدا أنه يشاطر جينشي رأيه.

تُرى، ما الذي يدور في ذهنها؟

«أي قطع تريدينها كإعاقة؟ قلعة، ربما؟ أو فيل؟» سأل لاكان.

فأجابته ماوماو بثبات: «لست بحاجة إلى إعاقة.»ظن جينشي أن عرض لاكان كان كرمًا نادرًا، وأن ماوماو كان يجدر بها أن تقبله بأدب.

«حسنٌ إذًا. إن فزتُ، ستُصبحين ابنتي.»

كاد جينشي أن يصرخ اعتراضًا، لولا أن غاوشون أوقفه بإيماءة حازمة. فقد تعهدوا بعدم الكلام.

«أنا موظفة حاليًا، لذا سيتعيّن عليك الانتظار حتى تنتهي مدة خدمتي.»

«موظفة؟» التفتت عينا لاكان، المتقدتان بدهاء الثعالب، نحو جينشي. لم يفقد ابتسامته، لكنه قاوم رجفة في وجنتيه.

«أحقًّا؟»

«نعم، والوثائق تُثبت ذلك.»وكان الأمر كذلك—أو هكذا على الأقل قرأت ماوماو في الأوراق التي رأتها. غير أن ثمة احتمالًا أن تكون السيدة العجوز—التي تؤدي دور وصيّها بطريقة ما—هي من وقّعت تلك الأوراق، بعدما انتزع الرجل الذي يُعد بمثابة والدها بالتبني الفرشاة من يدها ليكتب بنفسه.

«حسنًا، أرجو أن تكون الأمور على ما يُرام. لكن الأهم من ذلك...» راقبها لاكان متفحّصًا. «...ما الذي تطلبينه أنتِ؟»

«نعم، هذا هو رهاني.» أغمضت ماوماو عينيها لحظة وقالت: «لعلّني أطلب منك أن تشتري إحدى المحظيات من دار "فردغريس"؟»

حكّ لاكان ذقنه. «أعترف، من بين كل ما توقعت أن تطلبيه، لم يخطر هذا ببالي.»ظلّ وجه ماوماو جامدًا لا يتغير.

«السيدة العجوز تنوي التخلّص من أولئك اللواتي تقدّمن في السن. ولن أُحدّد عليك من تشتري.»

«إذاً، لقد بلغ الأمر هذا الحدّ.» بدا على لاكان بعض الضيق، ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة خبيثة.

«لكن إن كان هذا مطلبك، فلا مناص لي من قبوله. هل هذا كل ما تطلبينه؟»نظرت إليه ماوماو ببرود وقالت: «لعلّني أضيف شرطين آخرين.»

«اذكريهما.»

«حسنًا.» أخرجت ماوماو قنينة خمر كانت قد طلبت من غاوشون تجهيزها. صبّت كميات متساوية في خمسة كؤوس منفصلة.

كانت الرائحة توحي بقوة المفعول.ثم أخرجت من كمّها رزمًا صغيرة من الدواء، ونثرت محتوى ثلاثٍ منها في ثلاثة كؤوس. احتوت جميعها على مسحوق متشابه في الشكل. حرّكت الكؤوس برفق لتذيب المسحوق، ثم شرعت في خلطها بسرعة حتى بات من المستحيل تمييز أيّها يحتوي على الدواء.

«بعد كل مباراة، يختار الفائز أحد هذه الكؤوس، وعلى الخاسر أن يشرب منه. لا يشترط أن يُفرغ الكأس، فمجرد رشفة تكفي.»ساور جينشي شعور سيء، سيء للغاية. تحرك من خلف ماوماو مباشرة إلى أحد الجانبين. خُيّل إليه أن وجهها قد احمرّ قليلًا. تلك التي كانت جامدة الملامح من قبل، ارتسم الآن على شفتيها طيف ابتسامة.

كان يعلم ما الذي يدفع ماوماو لاتخاذ هذا الوجه. أراد أن يسأل عن ماهية ذلك المسحوق، لكنه لم يجرؤ. وكان غاضبًا من نفسه لعجزه عن النطق بالسؤال.

فتولّى لاكان المهمة عنه، وسأل: «ما ذلك المسحوق الذي وضعته؟»

«دواء. بكميات صغيرة، يُعدّ علاجًا.»

ثم أضافت ماوماو، بابتسامة على وجهها لا تخلو من الغرابة: «لكن إن شُربت الكؤوس الثلاثة، مجتمعة، فسيكون التأثير سامًا للغاية.»

«والشرط الآخر الذي أطلبه،» قالت ماوماو، «هو أن تُعتبر المباراة خاسرة إذا انسحب أحد الطرفين لأي سبب كان. هذان هما شرطيّ.»

حرّكت الكؤوس بلطف—سواء كانت مسمومة أم لا. كانت يدها ملوّنة باللون الأحمر، وفيها إصبع خنصر مشوّه.

حدّق لاكان في ذلك الإصبع باهتمام.فكّر جينشي: "ماوماو تفكّر بأشياء مرعبة حقًّا." حتى مع علمها بأن الأمر لا يُشكل خطرًا ما لم تُشرب الكؤوس الثلاثة، بدت لا مبالية تمامًا. هل كانت تحاول كسب تفوّق نفسي؟

لا شك أن خصمًا عاديًا قد يرتبك أمام هذا الضغط الإضافي. لكن لاكان لم يكن خصمًا عاديًا—بل كان سيد الاستراتيجية، وأحد ألمع لاعبي الشوغي. لم تكن مجرد خدعة قادرة على زعزعته.

وكما كان متوقعًا، خسرت ماوماو أول مباراتين على التوالي.كان جينشي يظن أن لديها بعض الدراية باللعبة، لكن سرعان ما اتّضح أن معرفتها لا تتجاوز القواعد، دون خبرة فعلية في اللعب.

ومع ذلك، شربت الكأسين بكل حماسة تقريبًا.وتساءل جينشي للمرة الألف: "ما الذي تفكر فيه؟"بدأت المباراة الثالثة، والنتيجة بدت محسومة سلفًا.

إن شربت ماوماو الكأس الثالثة، فقد تسمّم نفسها. كانت احتمالات اختيار كأس ملوثة في المرة الأولى ثلاثة من خمسة، ثم بعد المباراة الثانية صارت اثنين من أربعة، والآن، بعد المباراة الثالثة، صارت واحدًا من ثلاثة. أي أن احتمال إصابتها بتسمم قاتل كان واحدًا من عشرة.ولم يعرف جينشي ما الذي يُفزعه أكثر: احتمال أن تسمّم ماوماو نفسها، أم إدراكه أنها قد تشرب السم وتظل بخير.

لم يكن متأكدًا إن كان لاكان يعلم مدى مقاومة ماوماو للسموم.نظر إلى غاوشون، متسائلًا عما سيفعلانه حين يُحسم الأمر. في تلك اللحظة، دوّى صوت:«كش.»

لكنه لم يكن صوت لاكان، بل صوت ماوماو.نظر جينشي وغاوشون إلى الرقعة، ليجدا الجنرال الذهبي لماوماو يزحف نحو ملك لاكان. كانت تحركاتها فوضوية، ساذجة، لكن لا جدال في أن الملك قد حوصر، ولا سبيل له إلى النجاة.«حسنًا إذًا. أُعلن استسلامي.» رفع لاكان يديه.

قالت ماوماو: «الفوز فوز، حتى لو وهبته لي، أليس كذلك؟»

«بلى هو كذلك. وربّ السماء، لا يمكنني تسميم ابنتي، حتى لو كان عن طريق الخطأ.»

لم يتغير تعبير ماوماو وهي تشرب الكأسين، لذا استحال معرفة إن كانت قد احتوت على السم أم لا. نظر لاكان إلى ابنته الصمّاء التعبير بابتسامة خفيفة يعلوها شيء من الارتباك.

«ذلك الدواء... هل له طعم؟» سألها.

«طعمه مالح جدًا. ستعرف من أول رشفة.»

«حسنًا، إذًا، أي كأس أختار؟»

«اختر ما شئت.»وهكذا اتّضح الأمر: لاكان يستطيع تحمّل خسارة مباراتين. فإذا كان أحد الكأسين اللذين شربهما مالحًا، فسيدرك أن ماوماو أصبحت في مأمن. الاحتمالات نفسها، لكن الطريقة أكثر أمانًا. لم يفُته شيء، هذا الرجل.اختار لاكان الكأس التي في المنتصف، ورفعها إلى شفتيه.«أوف... مالح.»

انحنى جينشي برأسه. بالنسبة إليه، كانت تلك الكلمات إيذانًا بأن كل شيء سينتهي في المباراة التالية. راح يتساءل عمّا عساه يفعل بعد الآن...«و... دافئ.».

رفع رأسه حين سمع ذلك. كان وجه لاكان أحمر قانيًا، يتمايل في جلسته كأن الأرض تدور به.

ثم بدأ الدم ينسحب من وجهه، وفجأة، هوى كومةً بيضاء شاحبة.أسرع غاوشون إليه، يسنده.

«ما الذي يحدث بحق الجحيم؟» صاح جينشي. «ألم تقولي إن الجرعة الواحدة آمنة؟!» لم يكن يصدق أنها قد تسمّم لاكان، مهما بلغ كرهها له.

«قلت ذلك. وهي آمنة.» أجابت ماوماو، وقد بدا عليها الانزعاج البالغ. تناولت إبريق ماء قريب، وسارعت به إلى غاوشون ولاكان. فتحت عيني لاكان لتتأكد أنه لم يُغمَ عليه، ثم أفرغت الماء في فمه عنوة. لم تكن لطيفة بالضبط.

قال غاوشون، متحيرًا: «يا سيدي، يبدو أنه... سكران.»

«الكحول هو سيد الأدوية كلها.» علّقت ماوماو، ثم أوضحت أنها أضافت القليل من الملح والسكر، فقط لمساعدة الجسد على امتصاصه. كانت تعتني بلاكان، وإن كان ذلك دون أدنى حماسة. ورغم احتقارها له، فإنها لم تتنصل من مهنتها كعشّابة

«وهذا الرجل لا يشرب.» أضافت.عندها فقط، أدرك جينشي ما كانت تخطط له منذ البداية. تذكّر فجأة أنه لم يرَ لاكان يشرب غير العصائر يومًا، لا خمرًا ولا نبيذًا.

قالت ماوماو، وهي تحكّ مؤخرة رأسها وتنظر إلى جينشي: «حسنًا، لنحمله إلى بيت المتعة، ليقطف زهرةً هناك.»كان صوتها شبه خالٍ من الاهتمام. ولم يجد جينشي ما يقوله سوى:«ح... حسنًا.»

2025/06/01 · 75 مشاهدة · 1809 كلمة
نادي الروايات - 2025