69 - المجلد الثاني : الفصل التاسع و العشرين : الخاتمة .

بعد عدّة أيام من عودة ماوماو إلى القصر الخلفي، وصلت رسالة من ميمي، مرفقةً بصندوق صغير.كانت الرسالة واضحة، تبيّن بالتفصيل من هي صاحبة العقد الذي تم شراؤه، ومن الذي قام بشرائه.

لابد أن الجو كان ممطرًا حين كتبتها، إذ كانت الورقة مبللة ببقع متناثرة من قطرات الماء.أما العلبة الصغيرة المرافقة، فقد احتوت على وشاحٍ جميل، من النوع الذي ترتديه الغواني في المناسبات الاحتفالية.كادت ماوماو أن تغلق الصندوق، ثم ترددت. بدلًا من ذلك، اتجهت نحو صندوق الملابس الموضوع في غرفتها الضيقة، وأخذت تبحث في قاعه عن شيء ما.

كانت أنوار حي المتعة تتلألأ في البعيد.رأتها ماوماو أكثر سطوعًا من المعتاد، وكأنها قد تضاعفت.ومن مكانها فوق سور القصر الخلفي، استطاعت سماع رنين الأجراس — لا بد أن الغواني يرقصن بأوشحتهن هناك.يرتدين أجمل أثوابهن، ويحركن أقمشةً طويلةً متطايرة، وينثرن بتلات الزهور.

أن يُشترى عقد الغانية كان حدثًا جديرًا بالاحتفال.

حين تتفتح المدينة بأكملها من أجل امرأة واحدة، ترقص الزهور الأخرى مودعةً إياها.يُسكب الخمر، وتُقام الولائم، ويعلو الغناء والرقص.

وحي المتعة لا ينام، لذا تدوم الصخب والبهجة طوال الليل.أما ماوماو، فقد لفت الوشاح الحريريّ الذي أرسلته لها ميمي حول كتفيها.أمسكته بأصابعها برفق.رجلها اليسرى لم تكن قد تعافت تمامًا بعد، لكنها شعرت أنها تستطيع احتمال هذا الليلة.

نزعت رداءها الخارجي، ومسحت لمسةً خفيفة من أحمر الشفاه على فمها — ذلك أيضًا كانت قد تلقّته من ميمي.

كأنّما هو نوعٌ من المزاح... تذكّرت ماوماو الأميرة فويُو، التي زُوّجت العام الماضي لأحد الضباط العسكريين — كانت صديقة قديمة لها.ترى، هل نسيت الأميرة كل شيء عن أيامها في القصر الخلفي؟أم هل تذكر أحيانًا كيف كانت ترقص على هذه الأسوار، ليلةً بعد ليلة؟الليلة، كانت ماوماو على وشك أن تفعل الأمر ذاته.مرتديةً ثوبًا أنيقًا كانت شقيقاتها قد ألبسنها إيّاه قسرًا، استحضرت في ذهنها الخطوات الأولى للرقصة التي كانت قد تعلمتها منذ زمن بعيد.

أحمر الشفاه من ميمي زين شفتيها.وكانت هناك أجراس صغيرة مربوطة بأكمامها، فتُرنّ مع كل حركة.وفي تنورتها، خيطت أحجار صغيرة تجعل القماش ينتفش ويتطاير كلما دارت بجسدها.دارت تنورتها حولها، وارتسم قوسٌ في الهواء خلفه الوشاح، وراحت أكمامها تتماوج في الفضاء.أسدلت شعرها هذه الليلة، وزينته بوردة واحدة، زهرة صغيرة مصبوغة باللون الأزرق. الوشاح يرقص، التنورة ترتفع مع الإيقاع، الأكمام والشعر يتطايران سويًا.

لم أظن أن الرقصة ستعود إليّ بهذه السهولة.

فكرت بدهشة، حين أدركت أن الحركات التي لقّنتها لها العجوز لا تزال حيّة في ذاكرتها.رفرف الوشاح مجددًا — وعندها لمحت ماوماو شخصًا غير مرغوب فيه على الإطلاق.ثم، تعثرت بتنورتها.سقطت على وجهها، وحين حاولت أن تحمي أنفها من الاصطدام، انقلبت — مباشرةً نحو حافة السور.

بصعوبة شديدة أوقفت نفسها، ثم جاء أحدهم وجذبها إلى الأعلى.

"م-ما الذي تفعلينه هنا؟"

سأل الزائر المفاجئ، يلهث وقد بدا شعره — الذي كان مربوطًا بعناية — منكوشًا وفوضويًا.

قالت ماوماو، وهي تنفض ثوبها:

"بل يجب أن أطرح عليك السؤال نفسه، يا سيد جينشي. ما الذي جاء بك؟"

رمقها بنظرة ممتعضة.كانت قد ابتعدت عن حافة السور بأمان، لكنه كان لا يزال متمسكًا بيدها، لسبب ما.قال:

"وأين كان ينبغي لي أن أكون؟ حين وصلني خبرٌ عن امرأة غريبة ترقص فوق السور مجددًا، كان لابد لي أن أتحقق من الأمر بنفسي."

هه، وظننت أنني كنت متخفية جيدًا... لكن حين فكرت في الأمر، ربما لم يكن غريبًا أن تُكتشف.مع ذلك، هل يعني هذا أن الحراس لا يزالون يؤمنون بالأشباح؟

قال جينشي، واضعًا يده على رأس ماوماو:

"سأكون ممتنًا لو لم تُضيفي إلى أعباء عملي."

فأزاحت رأسها بعيدًا عن كفه وقالت:

"ألم يكن بوسعك إرسال أحدٍ غيرك، يا سيد جينشي؟ لم يكن من الضروري أن تأتي بنفسك."

أجابها:

"أحد الحراس الطيبين تعرّف إلى وجهك، فاتصل بي مباشرةً."

رفعت ماوماو يدها إلى وجهها تتحسسه.قال:

"ربما ترين ما تفعلينه أمرًا بسيطًا، لكن تذكّري أنه لن يبدو كذلك لمن يراك."

قالت ماوماو بخجل، تحك خدّها بأطراف أصابعها:

"كما تقول..."لقد كانت هذه المحاولة أصعب مما ظنّت."هذه قصتي"

، قال جينشي، ثم أردف، "والآن، دورك. ما الذي تفعلينه هنا؟"

وبعد لحظة صمت، أجابت ماوماو:

"في حي المتعة، نرقص لتوديع الغانية التي اشترى أحدهم عقدها. وقد وصلتني ملابس الاحتفال هذا اليوم بالذات."

في الحقيقة، كانت تتمنى أن تودّع الغانية التي أهدتها هذه الملابس.ميمي، أختها، كانت قد وقفت إلى جانبها دومًا وهي تكافح لتتعلّم الرقص.كانت تقول دائمًا:

"أريدك أن تتقني الرقص حين يحين وقت رحيلي."

راح جينشي يتأملها بصمت، بنظرة مركّزة.سألته:

"ما الأمر، سيدي؟"

أجاب:"لم أكن أعلم أنك تجيدين الرقص."

قالت ماوماو:"كان من أساسيات التعليم حيث نشأت، لم يكن خيارًا.لكنني لم أبلغ يومًا من المهارة ما يجعلني أرقص لقاء أجر."

ومع ذلك، أخبرته، ففي احتفالات وداع الغانية، كان عدد الراقصات أهم أحيانًا من براعتهن.عندما قالت ذلك، التفت جينشي نحو أضواء حي المتعة البعيدة، وقال:

"الشائعات بدأت تنتشر خلف هذه الجدران. الجميع يتحدث عن ذاك الغريب الأطوار الذي اشترى عقد غانية."

"أتوقع ذلك.

"قالتها ماوماو بهدوء."

بل ويقال إنه تقدّم بطلب إجازة. ينوي أن يغيب لعشرة أيام كاملة."

"يعرف كيف يثير المشاكل، بلا شك."

ماوماو كانت تتوقّع أن تبدأ شائعة جديدة غدًا.لم تكن تعلم كم أنفق ذلك العجوز على هذا الاحتفال، لكن عدد الفوانيس التي تلمع من موضعها على السور، دلّ على أن المبلغ تجاوز ما يُدفع عادةً في وداع أي غانية.

في رسالة ميمي، كانت هناك إشارات إلى أسبوعٍ كامل من الولائم والاحتفالات.وستبدأ الألسن بالهمس: من كان يتصور أن بيت روكشان لم يكن يضم الأميرات الثلاث فقط؟

أكان هناك غانية أخرى، تخفى وجودها عن الأنظار؟ كنتُ لأُفضّل أن يختار ميمي، فكرت ماوماو.تلك المريضة، التي فتكت بها العلّة، لم يكن في عمرها الكثير مما يُنتظر.

لم تعد تتذكّر شيئًا من الأيام القديمة؛ لم يبقَ لها سوى أناشيد الأطفال، وترتيب أحجار الـ"غو" جنبًا إلى جنب.لكن ذلك الرجل وجدها، بعد أن أخفتها السيدة العجوز كل تلك السنين. ليته لم يفعل، فكّرت ماوماو.لو لم يعثر عليها، لكان بوسعه أن يختار أختها الرائعة.ميمي، الموهوبة حتى الفيض، الجميلة كما كانت دومًا؛ كانت لتكون زوجةً مثالية.

وإنْ كانت غريبة الأطوار بطريقتها.هي أول من سمح لذلك الرجل — الذي كانت السيدة تحقد عليه — بالدخول إلى غرفتها.ربما ظنت أن لا سبيل آخر للتعامل مع ذاك الغريب الذي كان يلاحق ماوماو بلا كلل.وحين أصبح في غرفة ميمي، لم يفعل شيئًا، سوى الحديث المتواصل عن ماوماو، وعن المرأة التي أنجبتها.أحيانًا كان يجلس أمام رقعة "غو"، لكن لم تُلعب مباراة واحدة بينهما.بل كان يعيد تمثيل مباريات قديمة من ذاكرته.هكذا روت ميمي.وماوماو لا تدري إن كان ذلك صحيحًا، أم أن أختها كانت فقط تُراعي مشاعرها.لكن في النهاية، لم يكن يهم.كانت ماوماو ستسعد لو أن ميمي ذهبت معه.مهما كانت شخصيته، فقد كان ثريًا بما يكفي، ولن تُحرم أختها من شيء ما دامت معه.

ماوماو لم تفهم، حتى الآن، ما الذي قد يُؤخذ على أختها.

قال جينشي:"لا يسعني إلا أن أتساءل، من في العالم هي الغانية التي اشتراها؟"

كان يعرف بأمر الرهان، لكنه لم يتوقع أن تكون الاحتفالات بهذا الحجم.

لقد تفاجأ أن الرجل كان أكثر غرابةً مما ظن.

فأجابته ماوماو، بابتسامة خفيفة:"نعم، أتساءل من قد تكون...

"هل تعلمين؟"

أغمضت ماوماو عينيها دون أن تجيب."أنتِ تعلمين، أليس كذلك؟"

قالت، متهرّبة:"لا توجد امرأة يمكن أن يختارها، تكون أجمل منك يا سيدي جينشي."

"لم يكن ذلك سؤالي."

لكنه لم يُنكر، فكرت ماوماو.كانت تشك أن جينشي ليس الوحيد الذي يتساءل.القصر بأسره، وربما العاصمة كلها، ستتساءل عن هوية الغانية التي أُقيم هذا الضجيج من أجلها.لا شك أنها متألقة في زيّها، لكن أحدًا لن يراها علنًا.ستبقى مجرد شائعات، تتضخم يومًا بعد يوم.الناس سيتساءلون:

من هي المرأة التي سحرت رجلاً مثله؟ كم من الجمال تحمل؟ والعجوز تلك لا بد أنها تبتهج الآن، فكرت ماوماو.

سيظل الناس يتحدثون عن بيت روكشان مدةً طويلة.ولن يتردد بعض المسؤولين من القدوم، من باب الفضول…

طبعًا.شعرت ماوماو بحرارة تتصاعد في جسدها، ربما لأنها لم ترقص منذ زمن بعيد.قدماها كانتا تنملان، وعندما نظرت إلى أسفل، رأت أن تنورتها تلطخت بالأحمر.

"تبًا!"

تمتمت وهي ترفع تنورتها بسرعة.

"م-ما الذي تفعلينه؟!" صرخ جينشي، وقد خُدش صوته بالدهشة.نظرت ماوماو إلى ساقها، وعبست.الحرارة تحوّلت إلى ألم.

تجاربها مع الأدوية خفّضت حساسيتها للألم.كانت تظن أن جرح ساقها قد شُفي تمامًا، لكن الرقص أعاد فتحه من جديد."هاه، يبدو أنه انفتح مجددًا..."

"تتحدثين وكأن الجرح فعلها بنفسه!"

"لا تقلق، سأخيطه في الحال."

بدأت تبحث بين ثيابها المرمية، فأخرجت كحولًا معقّمًا، وإبرةً وخيطًا.

."لماذا أنتِ مستعدة لهذا النوع من الحالات تحديدًا؟!"

"الاحتياط واجب."

وكانت على وشك أن تغرز الإبرة، حين خطفها جينشي من يدها.

"سيدي، لا تجيد الخياطة."

"لكن لا تفعليها هنا!"

وما إن قالها، حتى حمل ماوماو بين ذراعيه وقفز من على السور برشاقة دون أن يستخدم سلّمًا أو شيء.كانت ماوماو مذهولة إلى حد أنها لم تحاول المقاومة.

وحين بلغا الأرض، ظنّت أنه سيُنزلها… لكنه واصل حملها، مع تغيير بسيط في وضعها بين ذراعيه.

"ما الذي تفعله؟" سألته."

صار من الصعب حملك بهذه الوضعية."

"فأنزلني إذًا."

"ولتُفسديه أكثر؟"كان يضمها إليه، ووجهها قريب منه على نحوٍ مزعج.

كيف ينتهي بي الحال دومًا هكذا؟ تساءلت، لكنها قالت:

"ماذا لو رآنا أحد، سيدي؟""لن يرانا أحد. الظلام كثيف. ثم إن—"رفعها قليلًا وعدّل قبضته حتى لا تنزلق.".—هذه هي المرة الثانية التي أحملك فيها هكذا.

" المرة الثانية؟ فكرت.آه!لا بد أنه في اليوم الذي أُصيبت فيه ساقها.كانت فاقدة للوعي، وقد حملها أحدهم بعيدًا.وسيكون من المنطقي أن يكون هو…مما يعني أنه حملها أمام جمع كامل من الناس في الاحتفال...

لكن كان هناك ما هو أهم.أمرٌ كانت تنوي قوله منذ زمن، وندمت على عدم البوح به في حينه.

ضغطت بمنديل على الدم الذي تسلل إلى أسفل ساقها.

"سيدي جينشي"، بدأت. "أعلم أن الوقت غير مناسب، لكن ثمة أمر أردت قوله لك منذ مدة طويلة."

"لم كل هذه الرسمية فجأة؟" سأل جينشي، وقد بدا عليه الحرج."لابد أن أقوله، سيدي."."حسنًا، قولي ما عندك!"

فنظرت إليه مباشرة وقالت بجدّ:

"سيدي... أرجوك، أعد إليّ حصاة الثور."

اصطدم رأس جينشي برأسها فجأة، حتى رأت النجوم تدور حولها. نطحة رأس! هكذا بلا مقدمات!

وخطر لها أن كل ما فعله ربما لم يكن سوى عبث.

"سيدي، لا تقل لي... أنك لا تملكها؟"

"رجاءً. أظن أن لديك من الاحترام لي ما يكفي حتى لا تظنيني هكذا."وحين نظرت إليه، شابكًا حاجبيها، لاحظت ابتسامة خفيفة تلوح على شفتيه.

ذاك التحوّل السريع في ملامحه — من انزعاج إلى مرح — ذكرها كم يبدو صبيانيًّا أحيانًا.لكنها فكّرت أن ذلك يجعله أسهل في الحديث، وهي تتمايل في حضنه.

لم يُعرف من أين بدأت الشائعة،لكن قيل إن نبيلًا مسرفًا من بلاد الوسط الكبرى كان يشتري كل دواء نادر وغريب يجده.وخلال إحدى حفلات الشاي، سمعت ماوماو أن مكتب جينشي قد امتلأ بزهور "الشفاء العاجل" حتى بات يجد صعوبة في الدخول إليه.فاكتفت بقضم قطعة من فطيرة الخوخ، وقالت ببساطة:"هممم."

2025/06/05 · 291 مشاهدة · 1626 كلمة
نادي الروايات - 2025