『المجلد الأول 《الطموح》 : ليلة أبدية I 』
▪︎
▪︎
في اللحظة التي دخل فيها نقيب الجيش الإمبراطوري سيغفريد كيرشيس مقطورة الجسر، توقف لبرهة متأملًا الفراغ المهول المرصع بالنجوم فوقه، ونتابه إحساس طاغي بصغر حجمه..
"..."
لبرهة أحس بجسده يطفو في ظلمات الفضاء الا متناهي، لكن هذا الوهم إنقطع سريعًا.
يأخذ جسر سفينة برينهيلد الرئيسي شكل نصف كرة ضخمة، النصف العلوي عبارة عن شاشة تبدو مثل الزجاج الشفاف، مما يسمح لك برؤية الفضاء خارجًا بوضوح.
بعد أن استقرت مشاعره العابرة، نظر كيرشيس إلى القمرة الوسيعة التي هو فيها، يضبط نظام الإضاءة النور وسط الظلام الدامس. تجمعت أعداد لا تحصى من الشاشات الكبيرة والصغيرة التي تعرض وحدات التحكم والإحصائيات والاتصال في أشكال هندسية منظمة، ركض الجنود ذهابًا وإيابًا بين هذه الشاشات، النظر إلى حركتهم من الأعلى يذكر المرء بسرب أسماك يسبح في نهر.
في مثل هذه الأجواء، شم كيرشيس عبقًا مألوفًا، حيث امتزجت أنفاس الأدرينالين التي يفرزها الرجال المتوترين قبل المعركة بالرائحة الباهتة المنبعثة من مكائن تنقية الأكسجين، هذا المزيج صنع رائحة يألفها الجنود.
سار كيرشيس الشاب ذو الشعر الأحمر نحو وسط الجسر، على الرغم من ترقيته إلى رتبة نقيب مؤخرًا، إلا أنه لم يبلغ الحادية والعشرين من عمره بعد. وإذا لم يكن ذلك لإرتدائه زيه العسكري، سيبدو للناظر محض شاب حسنِ المظهر، وغالبًا ما لا يستطيع الضباط الآخرون التصالح مع رتبته العسكرية التي لا تتناسب مع عمره، خاصة مع كونه ولد من عامة الناس.
كان الكونت راينهارد فون لوهينجرام مستلقيًا على كرسي القيادة يحملق في بحر النجوم الشاسع الذي تعرضه الشاشة العملاقة، حين إقترب منه كيرشيس شعر بضغط الهواء يتغير بشكل طفيف حوله، وذلك لأنه دخل مجال عزل الصوت، ما يجعل أي محادثة تدور بينه وبين راينهارد في دائرة قطرها خمسة أمتار غير مسموعة تمامًا للأشخاص الموجودين حولهم.
"هل تتأمل النجوم ثانية يا صاحب السعادة؟".
بعد برهة دامت في الصمت بعد تحية كيرشيس، أشاح راينهارد نظره إليه وعادت زاوية الكرسي إلى الإستقامة. على الرغم من جلوسه، إلا أن زيه العسكري الأسود المكمل باللون الفضي لا زال منظمًا ولا يحوي على أي تجعدات ظاهرة.
يعد راينهارد شابًا وسيمًا، فجمال مظهره لا جدال فيه. بشعره الأشقر، ووجهه البيضاوي المثالي، وأنفه المستقيم وشفاهه الرفيعة، قد يبدو أشبه بتحفة فنية لنحات مشهور.
كانت عيناه الزرقاء شاحبة، طغت حدتهم المشابهة للنسر على نعومة لونهم، وأشرقتا مثل الشفرة، عادة ما تعلق النساء في البلاط على عينيه بأنهم "عيون جميلة وطموحة"، بينما يرى فيها الذكور "عيون مهيمنة قاسية". بغض النظر عن الأصدق منهما لوصف المشاعر التي تفيض بها عيناه، يظل المؤكد هو أن عينيه بالتأكيد ليستا كعيون تمثال هامد.
"كيف لا! فكم هي آسرة هذه النجوم".
"نعم، مقارنة بهذه النجوم... قد تكون حربنا محض تفاهة".
"نعم، مقارنة بالنجوم التي تراقبنا في صمت تعد حربنا ضئيلة جدًا".
أضاف راينهارد وهو ينظر إلى الأعلى نحو صديقه المقرب الذي كان مقاربًا له في العمر :"يبدو أنك قد زدت طولا ثانية يا كيرشيس".
"كلا يا صاحب السعادة، لا يزال طولي 190 سم كما كان قبل شهرين، ولا أعتقد أنه سيزيد أكثر".
"إن كونك أطول مني بسبعة سنتيمترات يجعل منك طويلًا بما فيه الكفاية" قالها راينهارد مازحًا مع لمحة من التنافسية الصبيانية، وقد تبسم كيرشيس ردًا على ذلك.
قبل ست سنوات، كانا بالطول ذاته تقريبًا. ومع الوقت بدأ أن كيرشيس ينمو أطول مقارنة بزميله الأشقر، احتج راينهارد له بجدية ذلك الحين، وبدأ أنه قد شعر بشيء من الأذى مس كبريائه.
لربما كان كيرشيس الوحيد الذي يعرف هذا الطبع الطفولي في راينهارد، فهو الوحيد الذي أرى له هذا الجانب، ومن المرجح ألا يلاحظ الآخرون إمتلاك الكونت لوهنجرام البارد لمثل هذه الطبيعة.
"ماذا جاء بك؟"
"يتعلق الأمر بأسطول المتمردين. بحسب التقارير التي وردتنا عن قوات الإستطلاع هم يقتربون منا من ثلاثة جهات كما كان متوقعًا، هل تأذن لي بإستخدام الشاشة؟"
أومأ الأدميرال الأشقر معربًا عن موافقته، فتحركت يدا كيرشيس بمهارة على شاشة العرض التي تشغل النصف الأيسر من المنصة، ظهرت أربعة رموز أسهم تشير من الأعلى والأسفل واليسار واليمين وسط الشاشة. السهم أدناه أحمر، والآخرون خضر.
"السهم الأحمر لأسطولنا، وما أمام جيشنا هو الأسطول الرابع للمتمردين. وبحسب تقديراتنا الأولية، الأسطول الرابع مؤلف من 12 ألف سفينة. المسافة 2200 ثانية ضوئية، بالنظر للسرعة الحالية، سنشتبك بهم في غضون ستة ساعات".
واصل إصبع كيرشيس الإشارة إلى الشاشة بينما أردف قوله :"على اليسار هناك الأسطول الثاني للعدو، يقدر عددهم بحوالي 15000 سفينة، وهم على بعد 2400 ثانية ضوئية. وعلى اليمين يوجد الأسطول السادس للعدو، وقوامه حوالي 13000 سفينة، يبعد 2050 ثانية ضوئية".
بسبب البحث المستمر والتحسينات المختلف لأجهزة اختراق الرادار وتقنيات الموجات المتداخلة، وخاصة أنظمة المجال المغناطيسي المضاد للديناميكية، و ظهور مواد يمكن أن تسبب خللاً كاملا تقريبا لأنظمة الرادار. أصبحت قدرات الرادار في اكتشاف العدو أقل نفعًا تدريجيًا، ولإكتشاف العدو لم يعد من الممكن إلا إستخدام الأساليب التقليدية مثل سفن الاستطلاع المأهولة أو الأقمار الصناعية للمراقبة. واستناداً إلى المعلومات الاستخبارية التي تم جمعها في هذه الجوانب، بالإضافة إلى الفارق الزمني والمسافة المحسوبة وعوامل أخرى، يمكن معرفة موقع العدو بإستخدام مستشعرات الحرارة والكتلة، على الرغم من أنها ليست دقيقة بنسبة 100%، يمكنها على الأقل العثور على العدو بسلاسة.
قال راينهارد بهدوء :"إذا، فإن للعدو إجمالي 40 ألف سفينة؟ هذا العدد يبلغ ضعف عددنا".
"إنهم كما هو بادي يحاولن تطويقنا".
"لابد أن وجوه أولئك العجائز من جيشنا شحوبة الآن...": إرتسمت إبتسامة خبيثة على وجه راينهارد، لقد علم أن العدو يحاصره، بيد أنه لم يظهر خشية مقدار أملة.
"إنهم بالفعل شحوب سعادتك، لقد طلب الأدميرالات الخمسة أن تأذن لهم بإجتماع طارئ لبحث الوضع الراهن".
"أوه؟ ألم يقولو إنهم لا يريدون رؤيتي بعد الآن؟".
"أهذا يعني أنك ترفض؟".
"كلا، أقبل.. فثمت بعض الرجال في حاجة إلى الأرشاد".
...
وقف خمسة أدميرالات أمام راينهارد. وهم الأدميرال ميركاتز، نائب الأدميرال شتادين، نائب الأدميرال فهرنهايت، نائب الأدميرال فوجل وإرلاخ.
هؤلاء هم الرجال الذين أشار لهم راينهارد بسم العجائز سابقًا، رغم أن هذه كانت مبالغة منه. فأكبرهم ميركاتز، لم يتخطى الستين بعد، وأصغرهم فهرنهايت كان في الحادية والثلاثين فقط. على الرغم من أنه لا يمكن مقارنتهم براينهارد وكريشيس، إلا أنهم لم يكونو كبارًا في السن إلى ذلك الحد.
تقدم ممثل المجموعة الإدمرال ميركاتز : "فخامة القائد، أشكرك جزيل الشكر على السماح لي بالإعراب عن رأيي المتواضع".
الإدمرال ميركاتز رجل متوسط القامة قوي البنية مستقيم الظهر، ولا تظهر عليه علامات واضحة لتقدم السن، بدت عيناه متعبة ونعسة، وللوهلة الأولى يبدو كمجرد رجل في منتصف العمر، لكن هذا لا يغير حقيقة كونه جنديًا محنكًا، فقد إنضم إلى الجيش قبل ولادة راينهارد، ويتمتع بثروة من المعرفة والخبرة في كل من القتال الفعلي والإدارة العسكرية، وشهرته في المجال العسكري تفوق راينهارد بمراحل.
"أعرف ما أنت مقبل على قوله". رد راينهارد تحية مركاتز العسكرية، وقال مستبقًا : "إنك راغب في لفت نظري إلى أن جيشنا في وضع غير مؤات، هل أنا مصيب في قولي؟"
"نعم يا صاحب السعادة!": في هذا اللحظة إتخذ نائب الأدميرال شتادين خطوة إلى الأمام وأجاب قبل مركاتز.
شتادين رجل طويل ونحيل في الأربعينيات من عمره، ذو وجه صلب وماكر. ويعد محللا سياسيًا قديرًا وهو ضليع بالنظرية العسكرية.
وقف شتادين بإستقامة وأعرب عن مخاوفه :"جيش العدو يفوقنا عدد ويحاصرنا من الجهات الثلاث، أخشى أن لا تكون لنا طاقة بهم".
ومضت عيون راينهارد ذات اللون الأزرق الشاحب وهو ينظر إلى شتادين بإهتمام :"هل تقصد أن جيش الإمبراطورية سينتكس ذليلا أمام المتمردين؟ لم أعهدك جبانًا يا نائب الإدمرال شتادين".
"لم يكن ذلك ما نويت قوله يا صاحب السعادة! إنما أردت أن أعرب لك عن مخاوفي بشأن وضع جيشنا الحالي. وإن نظرت إليه ستفهم ذلك بنفسك..."
نظر الرجال السبعة إلى شاشة.
عرض كيرشيس تشكيل قوات العدو ثانية غلى الشاشة أمام الإدمرالات.
نظر صغار الضبابط خارج نطاق العزل الصوتي إلى ما ينقشه قادتهم بفضول، لكنهم سرعان ما أبعدو أنظارهم بحذر تحت نظرات شتادين المهددة.
بعد الحنحنة قليلا، تقدم نائب الإدمرال شتادين مرة أخرى وهو يشير إلى تشكيل العدو على الشاشة:"أحسبك تعرف يا صاحب السعادة أن الأسطول الإمبراطوري المجيد عانا ذات مرة من هزيمة مريرة على يد المتمردين الذين يطلقون على أنفسهم إسم اتحاد الكواكب الحرة، وكان التشكيل الذي أستخدموه حينها هو ذاته كالذي نواجهه الآن".
"أنت تتحدث عن معركة الإبادة؟": أسند راينهارد يده على مسند الكرسي ولم يبدو مباليًا.
"نعم، كانت هزيمة مخيبة للآمال ذلك الحين!" تنهد نائب الأدميرال شتادين وأردف قوله: "العدالة في هذه الحرب تقف إلى جانب قيصرنا العظيم، ونحن خدمه المخلصين لا يجب علينا أن نهن. لكن المتمردين الخسيسين لا يأفكون يعاودون حيلهم الخسيسة، ونتيجة لذلك فقدنا الملايين من جندنا وضباطنا البواسل وأصبح فراغ الفضاء البارد لهم قبرًا، ودورنا نحن هو تجنب تكرار المأسات. ولذلك فإني أرى أنه لا ينبغي لنا أن نسمح للجشع والطموح بإعماء بصائرنا، علينا التراجع حتى تكون لنا اليد العليا فنعاود الهجوم ونحفظ شرفنا".
'هذا بالفعل رأي سفيه! يا له من رجل يجيد الحديث لا التفكير!' كان هذا ما أسره راينهارد في نفسه، ولم يهرب عن إدراكه أن شتادين كان يقصده هو 'بالجشع'، لكنه قال على الملئ :"أنت بليغ حقًا، ومع ذلك، فأنا لا أتفق مع رأيك ولا أمتلك أي نية للتراجع".
كان عدم رضا شتادين باديًا على وجهه :"ما سبب ذلك سعادتك؟ أرجو منك أن توضح لنا الأمر!".
أجاب راينهارد ببساطة :"لأن لنا اليد العليا".
"كيف ذلك؟": رفع شتادين حواجبه وبدا مستنكرًا.
أما ميركاتز فقد بدا عليه إدراكه لشيء ما وسرح في التفكير، بينما نظر فوجل وإيرلاخ إلى القائد الشاب بدهشة متسائلين عن ما إذا كان قوله لهذا محض مزحة منه.
وحده فهرنهايت الذي هو أصغرهم، بدا مستمتعًا بالوضع، وأظهرت عيناه ذات الألوان الأزرق الرمادي الترقب.
يرى الكثيرون أن أدالبرت فون فهرنهايت الذي ولد في عائلة نبيلة من الطبقة الدنيا أصبح جنديًا فقط لكسب لقمة العيش. لكن هذا لا يغطي موهبته في الهجمات السريعة وقدراته القيادية، لكن حين يتعلق الأمر بالدفاع، كثيرًا ما يفتقر للصبر والمثابرة.
"أنا لست على ذلك القدر من الموهبة، ولا أستطيع فهم أفكار سعادتك، هلا تفضلت علي بالشرح؟..." رغم أن نائب الإدمرال شتادين بدأ مهذبًا في قوله، إلا أن كلماته لم تخلو من الحدة.
مدركًا أنه سيقتنع عاجلا أم أجلا، أجاب راينهارد على سؤاله بفتور :"إن ما يجعل لنا ميزة عليهم يتلخص في نقطيتن، أولهم، إذا نظرنا إلى إمتلاك العدو ل40 ألف سفينة وجيشنا ل20 ألفًا قد تبدو للعدو الأفضلية، لكن مقارنة بالعدو الذي شتت قواته إلى ثلاث أقسام، قواتنا موحدة، إذا ركزنا قوتنا على إحدى قوات العدو المشتتة، يصبح جيشنا أكثر عددا من أي جيش من من جيوش العدو الثلاث من ما يمكننا من استغلال عنصر الوقت!".
"وثانيا، طبقًا لمسار العدو إذا تمكنا من مهاجمة أسطولهم الرابع قبل أن يتمكنوا من توحيد القواتهم ثم الإنقضاض سواءً على الأسطول الثاني الموجود في الميسرة أو السادس بالميننة. سنكون قد مزقنا الرابط بينهم، وسيتعذر على الأساطيل المتبقية للعدو دعم أي هدف آخر نختار مهاجمته، وحتى لو حاولو فعل ذلك، سيجدون أن الأوان قد فات لفعل أي شيء".
"في ساحة المعركة هذه، أصبح الزمن والمسافة أسلحة حادة لجيشنا".
إختتم رينهارد قوله بثقة "لجيشنا الأفضلية في تركيز القوات والمناورة، إن لم يكفل لنا هذا النصر، فماذا نكون نحن كقادة لم يتمكنو من إدارة القوات بما يتماشا مع حجم الفرص؟".
أحس كيرشيس بعدم الثقة التي شعر بها الأدميرالات الخمسة من وجوههم، ولم يستعجب ذلك إذ يميل راينهارد إلى التخطيط العسكري المرن، الأمر الذي لن يستحسنه هؤلاء الجنود الأكبر سناً الذين خاضو مئات المعارك بالإعتماد على تجربتهم أكثر من النظرية المتأرجحة.
أقام راينهارد ظهره ونظر ببرود نحو الإدمرالات المشككين وبدا أن أفكارهم لم تفته أيضا، فقال: "نحن لسنا في وضع سيئ، علينا أن نستفيد من نقاط تفوقنا وأن نضرب العدو في مأتم! أيها السادة، هل ترضون أن نضيع هذه فرصة عبثا؟ القيام بذلك ضياع لشرفنا! مالمهمة التي ساقتنا إلى هنا اليوم؟ ألم تكن مهتنا هي إبادة قوات المتمردين؟" إستقرت أنظاره على شتادين ثم تابع :"أستعجب من إقتراحك الإنسحب لحفظ شرفنا، فأي شرف هذا الذي سنحتفظ به ونحن لم نكمل مهمة القيصر؟ هل كنت تحاول تبرير إنكسارك؟".
عندما ذكر كلمة القيصر، أظهر الإدمرالات الوقار، لم يأبه رينهارد بسلوكهم هذا.
"على الرغم من أنك يا صاحب السعادة صادق في قولك..." لم يبدو شتادين رضيًا بعد :"إن هذه الفرصة عظيمة حقًا لكنها تظل مجرد فرضية. جميعنا نعرف أنه في مسألة الحرب الحكم بالمبدء وحده لا يمكن أن يكون مجزيًا..."
لم يعجب راينهارد بشتادين أكثر فأكثر، فقد رأى أنه لا يفتقر للكفائة فحسب، بل هو متحذلق أيضًا.
"غدًا ستتمكن من رؤية الواقع بعينيك إن لم تكن محبًا للمبدئ كما تزعم، فأنا ماضي في قراري على أي حال، هل هذا واضح؟".
"هل أنت متأكد حقًا؟"..
"نعم، لكن ذلك مرهون بقدرتك على تطبيق خطتي كما يجب!"
"هل لك أن تحدثنا عن تفاصيل هذه الخطة؟": سأل شتادين بإرتياب.
نظر راينهارد إلى كيرشيس وبدأ في شرح خطة المعركة للإدمرالات.
※※※
بعد خمس دقائق، ارتفعت صوة شتادن داخل مجال عزل الصوت :"هذه مخاطرة كبير! محال أن ينجح ذلك! لا أحسبك جاهلا بعواقب إتخاذ مخاطرة كهذه يا صاحب السعادة..."
ضرب راينهارد منصة القيادة بيده: "سأعد إتهامك هذا تطاولا على السلطة التي منحني أيها جلالة القيصر!"
"..."
"لا تنسى أن قيادة هذه الحملة في يدي! إذا كنت تجرؤ على الإستمرار في المكابرة وخيانة إرادة جلالته التي أمثلها، فأني لن أقوم بتسريحك من مناصبك فحصب، بل سأحرص على أن أنزل بك أشد العقاب بتهمة العصيان! هل هذا واضح؟".
رغم أنها كان يقصد شتادين بكلامه، إلا أن راينهارد نظر. إلى الرجال الخمسة أمامه، ونظراتك تحمل قدرًا من الوعيد.
لم يتلفظ الإدمرالات الخمسة بكلمة، حيوه وغادرو.
لم يكن ذلك لأنهم فهمو أو إقتنعو بخطة الشاب الأشقر، بل في الأساس لخوف في نفوسهم من السلطة التي تشكلها المراتب العسكرية في الإمبراطورية، وما يثبة قوانين الإنضباط الحديدة لأسطول الفضاء الإمراطوري هو تاج القيص المصون.
لكن الاستثناء الوحيد كان فهرنهايت، إذا بدا عليه طوال الوقت الإتفاق مع مفاهيم راينهارد الجريئة وكان يستمع إلى شرحه بإسهاب، في حين أعتقد زميلائه الأربعة بشكل أو بآخر أن راينهارد كان مجرد صبي تويق للنصر لا يفقه الكثير.
شعر كيرشيس أنه لم يعد بإمكانه الوقوف ساكنا بعد الآن، وإلا فإن راينهارد سيكسب أعداء أسرع من صعوده، في نظر الإدمرالات القدمى راينهارد مجرد صبي لا حيلة له، يستنفع من علاقة أخته آنيروز بجلالة القيصر.
هذه ليست المعركة الأولى التي يخوضها راينهارد، فمنذ انضمامه إلى الجيش، حقق إنجازات لا تعد ولا تحصى، ومع ذلك في كل مرة يظفر فيها بالنصر يدعي هؤلاء الإدمرالات الأكبر سنًا أنه ماهو إلا "صبي محظوظ!" أو أن "الظروف كانت في صالحه"!.
علاوة على ذلك، لم يكلف راينهارد نفسه أبدًا جهد مجاملة أي أحد، وكثيرًا ما كان حاد الطباع لذلك إزدادت أعداد كارهيه في الجيش أكثر فأكثر، حتى أن لقب "الغر الأشقر" أصبح أكثر شيوعًا من أسمه.
"أحقًا لا بأس بقول ذلك لهم؟": سأل الشاب ذو الشعر الأحمر رينهارد مع قلق بادي في عينيه ذات اللون الأزرق الداكن.
"لا تشغل بالك بهم يا كيرشيس" بدا راينهارد هادئًا إلى درجة عدمِ المبلاة :"بربك مالذي قد يفعله هؤلاء الرجال؟ هم محض جبناء، لا يمتلكون الشجاعة حتى لمعارضة من يفوقهم رتبة".
"ربما سيضمرون لك الضغينة".
نظر راينهارد إلى مساعده وقهقه :"أنت تكبر الموضوع، فلا أرى داعي لكل هذه الجدية! بالطبع سوف يذمونني خلف ظهري، لكن رأيهم سيتغير بمجرد أن يرو النتيجة بأعينهم، أريد أن أسمع مالذي سيقوله شتادين في ذلك الحين، على كل حال دعك من ذلك!"
وقف راينهارد وأشار إلى كيرشيس ليتبعه :"لنحتسي شرابًا معًا، صادف أن لدي نبيذًا جيدًا!".
"حسنًا..".
"ثم دعنا لا نضيع مزيدًا من الوقت، بالمناسبة، كيرشيس..."
"نعم يا صاحب السعادة؟".
"من الذي تدعوه بصاحب السعادة الآن؟ أخبرتك مرارًا ألا تناديني بصاحب السعادة عندما لا يكون هناك أشخاص آخرون معنا".
"نعم أتذكر ذلك..."
"إذا فمن الأجدر بك أن تفعل، بعد أن نعود إلى العاصمة وتنتهي هذه المعركة ستصبح صاحب السعادة بدورك".
"..."
"ستصبح عميدًا يا كيرشيس، آن أوان الإحتفال".
※※※
بعد إنفصاله عن القبطان راينهارد ذهب العقيد سغفريد كيرشيس إلى غرفة الإستراحة وهو يفكر فيما قيل له.
"بعد أن نعود إلى العاصمة وتنتهي هذه المعركة ستصبح عميدًا" يبدو أن الأدميرال الشاب الأشقر لم يفكر أصلا في إحتمال أن يهزم في هذه المعركة. قد يظن أي شخص آخر أنه كان متعجرفًا، لكن كيرشيس ليس كأي شخص آخر، وهو يعرف أن هذه الثقة لم تأتي من فراغ.
يتذكر كيرشيس أنه كان يعرف راينهارد منذ عشر سنوات الآن... قبل عشر سنوات، كان لقائه براينهارد وشقيقته آنيروز بمثابة قطة تحول في حياته.
كان والد سيغفريد كيرشيس موظفاً متدنيًا الشأن في وزارة العدل، وكان يتنقل ذهاباً وإياباً بين الملفات وأجهزة الكمبيوتر كل يوم مقابل راتب سنوي قدره 40 ألف مارك، وبدا أن البهجة الوحيدة في حياته هي حبه لزراعة الأزهار، خاصة نوع فريد الأوركيد من بالدير في فناء منزله الصغير. كما أحب شرب البيرة الداكنة، وقد كان في العموم رجلاً بسيطًا و لطيفًا.
إبنه الأصغر ذو الشعر الأحمر هو الأول في صفه على الدوام، وهو طالب مجتهد، وقد كان مصدر إعتزاز لوالديه البسطين.
في يوم بدا كسائر الأيام، انتقلت عائلة مكونة من ثلاثة أفراد وهم أب وبنت وصبي في عمره إلى المنزل المجاور لهم.
صُدم كيرشيس الصغير حين علم من أبيه أن الرجل الهزيل الذي إنتقل مع أبنائه إلى المنزل المجاور كان في الواقع نبيلًا فقيرًا، فهو طوال حياته كعامي لم يرى أي نبلاء، وقد كان تصوره عنهم يتناقض مع ما رأه في هذا الرجل من سوء حاله.
ومع ذلك، عندما رأى الأشقاء الشقر للمرة الأولى، أكن لهما حبًا صادقًا من أعماق قلبه.
في اليوم الأول الذي انتقل فيه جيرانهم الجدد، أصبح هو والصبي صديقين حميمين. هذا الصبي هو راينهارد، وهو في نفس عمره، من الناحية التقنية كان هو أكبر من راينهارد بشهرين فقط. عندما قدم نفسه للمرة الأولى بين ساج منزليهم رفع الصبي الأشقر حاجبيه وصرخ: "سيغفريد؟ يا له من اسم شائع!"
بعد أن تعرض للإنتقاد بسبب هذا الأمر في أول محادثة بينهم، شعر الصبي أحمر الشعر بالخجل والإرتباك عاجزًا عن الرد، لكن راينهارد إستمر وقال :"كيرشيس.. من الجانب الأخر إسمك العائلي جميل وشاعري! حسم الأمر، سأناديك به من الآن فصاعدًا".
في حين أطلقت عليه أخت راينهارد آنيروز "سيج" إختصارًا لإسمه الأول سغفريد.
آنيروز ذات جمال باهر، رغم أن مظهرها بدا مشابه جدا لشقيقها، إلا أن آنيروز بدت أكثر رشاقة وملامحها أكثر نعومة، ومتلكت إحدا أكثر الإبتسامات عذوبة التي رأها في حياته، بعد أن قدمها راينهارد له، ونظرت إليه ونظر إليها، كان سحرها مثل ضوء الشمس الذي يخترق أوراق الشجر، وقد أسرت قلبه الصغير.
"سيج، من فضلك كن صديقًا جيدًا لشقيقي الصغير".
حتى يومنا هذا، لا يزال كيرشيس غير قادر على نسيان كلماتها تلك.
مضت الأيام، إستمر كيرشيس بزيارة جيرانهم الجدد للعب مع راينهارد، وفي بغض الأحيان يحضر معه زهرة أوركيد من حقل والده لآنيروز. بدأ راينهارد الدراسة بنفس المدرسة التي يرتادها كيرشيس، وغالبا ما كان يتعرض للتنمر والمضايقات من قبل الأطفال الأخرين بسبب شخصيته العنيدة و"فون"[1] في إسمه التي لا تتوافق مع مكانته، لكن كيرشيس لم يتركه قط، وحين ينتهيان من محاربة "الأعداء" الذين يفوقونهم عددا، كانا يلقيان بنفسيهما في نافورة الحديقة ليغتسلا خشية أن تلاحظ عليهم آنيروز أثار العراك، وكان أكثر شيء يتطلعون إليه كل يوم هو العودة إلى المنزل أخيرًا، حيث يمكنهم تناول الكعك الذي تعده آنيروز بنفسها.
كانت أيام تمنى كيرشيس لو تدوم، لكن دوام الحال من المحال، ذات يوم عندما كان الصبيان يطاردان بعضهما البعض ويمزحان في طريقهما إلى المنزل من المدرسة، وجدا سيارة فارهة لم يريها من قبل متوقفة أمام منزل راينهارد، رجل في منتصف العمر يرتدي ملابس رسمية بدت مثل كبار الخدم في البلاط كان خارج من سور المنزل. وكان على وشك ركوب السيارة. وقد إستوقفته رؤية راينهارد، فلوح له وقال: "هل أنت المدعو راينهارد؟ يال العجب كم تشبه أختك كثيرًا، على كل حال آن الأوان لتفرح! سيتم أستدعاء أختك إلى القصر فقد أختيرت لخدمة جلالة القيصر!"
كانت هذه الكلمات بمثابة صاعقة على الصبيين، تسببت في إنهيار عالمهما الصغير، عاد كيرشيس إلى منزله ذلك المساء وهو لا يتذكر تعبير راينهارد، كما لم يذق طعما للعشاء الذي تناوله تلك الليلة، وحين ذهب إلى غرفته، سماع بكاء وصراخ راينهارد طوال الليل من نافذته.
"لقد بعت أختي! لقد بعت آنيروز!" بدا أنه كان يصرخ على والده.
وفي صباح اليوم التالي، تظاهر كيرشيس، الذي ظل مستيقظًا طوال الليل، بأنه أتي ليطلب من راينهارد الذهاب معه إلى المدرسة كما العادة. ونتيجة لذلك، قابل آنيروز التي كانت خارجة، ويبدا من إنتفاخ عينيها أنها بكت طويلا الليلة الماضية. توقفت ومسدت شعر كيرشيس الأحمر وابتسمت له بود: "قد لا يرافقك أخي إلى المدرسة لبعض الوقت، لكني أشكرك حقًا على صحبتك له، فغالبا ما يكون صبيًا عنيدًا ولا يحصل على أصدقاء مثلك".
قبلته الفتاة الجميلة بلطف على جبينه وأعطته صندوق به كعكة شوكولاتة من صنعها.
ذلك اليوم، لم يذهب الصبي أحمر الشعر إلى المدرسة هو أيضا، بل حمل كعكته بعناية إلى الحديقة واختبأ تحت جذع الشجرة خوفًا من أن تكتشفه الدورية الإلية، واستغرق وقتًا لإنهاء الكعكة ببطئ. أثناذ ذلك جعله حزن فراق تلك الفتاة يجهش بالبكاء والفواق مع كل قضمة، ومد يده ليمسح دموعه مرارا وتكرارا، وتحول وجهه الصغير إلى اللون الأحمر.
عندما حل الظلام عاد إلى المنزل معتقدًا أنه سيتم توبيخه لعدم ذهبه إلى المدرسة، لكن والديه لم يقولا له كلمة واحدة. كما تم إطفاء أضواء المنزل المجاور.
بعد شهر، زاره راينهارد فجأة، ولم يكن يرتدي الزي المدرسي المعتاد، بل كان يرتدي زي المدرسة العسكرية التابعة للجيش الإمبراطوري.
في مواجهة كيرشيس المتفاجئ، قال الصبي الأشقر بنبرة حازمة مليئة بالثقة :"سأصبح جنديًا! إن كوني جنديا يمكن أن يساعدني على الإرتقاء مبكرا! سيمكنني ذلك من إرجاع أختي، هل أنت قادم معي يا كيرشيس؟".
...لم يعترض والدا كيرشيس على إلتحاقه بالمدرسة العسكرية. ربما كانا متشوقين حقًا لنجاح ابنهما غير راغبين في أن تفوته مثل هذه الفرصة، أو ربما كانا قادرين على فهم العلاقته العميقة بينه وبين الشقيقين من المنزل المجاور. بغض النظر عن السبب، فإن كيرشيس مثله مثل راينهارت، أقدم على خطوة كبيرة في سن مبكرة.
معظم طلاب المدرسة العسكرية الداخلية هم من أبناء النبلاء، بينما الآخرون هم من أبناء الطبقة العليا. وغني عن القول أن كيرشيس لم يكن لا هذا ولا ذاك، وما كان ليحصل على هذه الفرصة لولا إقتراح راينهارد، وتوفير آنيروز لها.
كانت نتائج راينهارد دائمًا في الصدارة، وكيرشيس يليه دائما. لم يتقاعس كيرشيس أبدا، سواء كان ذلك من أجل صديقه أو لنفسه، سعى للحصول على نتائج جيدة بإستمرار.
في بعض الأحيان يأتي أولياء أمور الطلبة لزيارة المدرسة. على الرغم من أن مكانتهم عالية، إلا أنهم لم يحركا أي إحترام في صدور الصبيين، خاصة راينهارد الذي بدا أنه حمل غلا عميقًا تجاههم، فنظراتهم المتعالية وسلوكهم المتفوق كانا الانطباع الأكثر وضوح عنهم.
"انظر إلى هذه الأفات"..
في كل مرة رأى فيها راينهارد هؤلاء النبلاء، كان يشعر فقط بالاشمئزاز الشديد والازدراء.
"لم يصلو إلى ما هم عليه بجهودهم أو بالإعتماد على جدارتهم.. لقد ورثوا السلطة والممتلكات بسبب دمائهم فقط، ونقلوها من جيل إلى جيل. بأي شيء يفخرون إذا وقد كان لهم أن يولدو لفلاح ولا شيء سيتغير في نفوسهم، الكون لم يخلق ليهيمن عليه مثل هؤلاء الرجال".
"راينهارد..."
"هذا صحيح يا كيرشيس، لا يوجد سبب يفرض علينا أن نقهقر رؤسنا لهؤلاء الرجال".
إمتلك راينهارد عزة نفس من حديد، وروح متمردة منذ الصغر، ويطرح بإستمرار مفايهم كانت غير معهودة بالنسبة لكيرشيس، وقد خشي عليه دائما من مغبتها.
غالبا ما تحدث صبيان في مثل هذه المواضيع، ومع الوقت صدم كريشيس حين أدرك أنه بدأ يشارك راينهارد في وجهة نظره هذه.
توجد تماثيل عملاقة للقيصر الأول رودولف تقف شامخة في جميع أنحاء العاصمة، ومن الواجب المقدس على رعايا الإمبراطورية تحية هذه التمثال البرونزية، ومن أجل مراقبة العناصر الشاذة التي تحتقر رموز الإمبراطورية، قامت وزارة الداخلية بتثبيت عيون مراقبة متطورة في عيون التمثيل البرونزية للقيصر، ذات مساء وحين كانا أمام تمثال موضوع في باحة المدرسة العسكرية، وبعد أن تظاهر راينهارد بتحية التمثال البرونزي مثبتًا عينيه على التمثال :"هل فكرت في الأمر من قبل يا كيرشيس؟ سلالة جولدنباوم لم تحكم البشر منذ خلقهم، بل أسسها رودولف المتغطرس قبل خمس مائة عام، وقبل أن ينصب نفسه قيصرا، كان رجلًا عاديًا ضئيل القدر في اتحاد المجرة. كان رودولف مجرد رجل عرف كيف يتعامل مع الفرصة. لقد استغل فوضوية عصره لإعلان نفسه قيصرا، وقد جعل من نغسه بعدها مصونًا ومخلصا مقدسًا لا يمكن انتهاك حرمته!"
بعدها صمت راينهارد.
خفق قل كيرشيس بحدة لم يعودا أصبياء بعد الآن، لقد عرف خطورة ما يتفوه به راينهارد، لكنه أيضا لم يستطع منع نفسه من الإنجذاب إلى كلماته.
تابع راينهارد: "هل تعتقد أن ما نجح فيه رودولف مستحيل بالنسبة لي؟".
كانت عيون راينهارد تتألق تلك الليلة مثل حجر الزركون ال أزرق ، وفي عمقها شعلة من الطموح بدت قادرة على إحراق صاحبها، زوج العيون هذا قادر على جلب عصر من الفوضى إلى الفضاء، وقد كانتا الآن مستقرتين على كيرشيس.
كانت أفكار كيرشيس تدور بعنف في ذهنه، وتكاد تجعله يلهث. نظر مرة أخرى إلى راينهارد. كان هذا الشتاء الأخير قبل إنضمامهما إلى أسطول الفضاء الإمبراطوري.
【نهاية الفصل】
جو: هل هذا الطول للفصل معقول لكم؟
ملاحظات وردة أثناء الفصل :
[1] : لن أتفلسف في شرح معنى "فون" لكنه لقب يوضع بين أسماء النبلاء الألمان، وهو بمثابة "ال" بالعربية، و "De" بالفرنسية.
...
يمكنك دعمنا من خلال ترك تعليق مشجع أو ملاحظة تخص الترجمة أدناه!