جلس اللاعبون حول الطاولة وبدأ الحكم بتوزيع الأوراق عليهم فوق الطاولة بشكل مقلوب، وبعد أن انتهى ظل الجميع يحدق في ورقته وملامح اليأس قد استوطنت وجوههم، لم يسحب أي أحد منهم ورقته لبرهة حتى مد الرجل العصبي ذو العينين الحادتين يده ببطء، ولا مست أنامله أطراف الورقة ليرى محتواها، والعرق يتصبب من جبهته.. ففي تلك بدأت أفكار تراوده في مخيلته، أحداث ظهرت في عقله محتواها كانت أفعاله خلال حياته!!

منذ ولادتي وأنا أعيش في ظل المجتمع الطبقي اللعين، لدرجة أن الأمر وصل الى التمييز بين أفراد اسرتي، كون والدي يعمل في وظيفة متواضعة لم يجعله يكسب احترام بقية اخوته، العنصرية الطبقية مؤلمة، ولا سيما حينما تكون من أقرب الناس اليك، حينما تكون ناتجة عن أشخاص تشاركهم الدم والنسب، والدي وزوجته وابنه كانوا مجرد فشل وعار بالنسبة لبقية أمامي الناجحين والمشهورين، كونه لم يقبل بحياة الترف الشهرة جعلت منه البطة السوداء بين بقية البط، لدرجة حينما مات جدي منع والدي من الميراث، حينما تعيش في بيئة كهذه ليس هناك شيء سيشعرك بالسخط اتجاهه لأنك بالفعل وصلت لأعلى درجاته، كبرت تحت تعاليم وتربية والدي اللذين كبحا الكراهية بداخلي، وعلماني أن أحترم العائلة بغض النظر عن تصرفاتهم نحونا، لم أقبل بذلك يوم قط، لكن احتراما لرغبتهما وحبا لهما عشت ثلاثين سنة أتظاهر أنني بخير، حينما بلغت الثلاثين من العمر أصيب والدي بسكتة قلبية ومات، لم يأت أحد لتعزيتنا من أخوة ابي، كان ذلك أحقر شيء يمكن أن تراه في حياتك، وفاة والدي أثرت في والدتي كثيرا وساءت حالتها الصحية، حتى تم تشخيصها بالسرطان، تكاليف العلاج كانت باهظة جدا ولم استطع تحملها، اضطررت أن أعمل لمدة خمسة عشر ساعة في اليوم من أجل المال، وفي احدى المرات طلبت مني والدتي ان اذهب لأحد اخوة ابي من أجل المال لعله يشفق علينا، لم أكن أرغب بذلك لكن ليس باليد حيلة، فهم يقدرون على تكاليف العلاج، ذهبت اليهم وتذللت أمامهم ولكن كان الرد أشد ألما من جمرة على صدري، قالوا لي بصريح العبارة أن الشيء الوحيد الذي كان يربطني بهم هو والدي وأن وفاته كانت خاتمة العلاقة معهم، تمنيت لو أن الأرض تنشق وتبلعني على أن أتعرض لمثل هذه الاهانة، لم أشعر في حياتي بغضب يجتاح جسدي وروحي، تمنيت في تلك اللحظة لو أن لدي القدرة لأقتلهم جميعا، لكن لم يكن بوسعي سوى الالتفاف والرحيل وأنا أجر أذناب الخيبة والحسرة، ركبت سيارة أجرة من أجل العودة لكن فقدت وعيي بعد برهة من صعودي للسيارة واستيقظت وأنا في هذه القاعة، ورجل غريب يعرض فرصة الحصول على مبلغ سيمكنني من علاج والدتي ومن ثم الانتقام من الحمقى الذين داسوا على كرامتي وأهانوني، لذا يجب أن اتوقف عن الارتجاف، سواء كانت الورقة تظهرني من الصالحين أو المافيا أو حتى الزعيم، كل ما علي فعله هو الفوز، ولسوف أحققه!

رفع ورقته، ورفع الجميع ليكتشفوا أدوارهم في هذه اللعبة، وحان الآن بدء الجولة الأولى..

الجولة الأولى بدأت ورفع الجميع أوراقهم ليتعرفوا عليها بدون أن يظهروا أي رد على وجوههم فعل بقدر الامكان محافظين على وجه المقامر والذي يعتبر السلاح الأول في هذه اللعبة، حينها طلب الحكم من الجميع أن يناموا، فأغمضوا أعينهم، ثم طلب من المافيا أن تصحى لتتعارف فيما بينها، وهنا كانت المفاجأة، بينما كان من المفترض أن يفتح اربعة أعضاء فقط أعينهم ليتعارفوا فيما بينهم فقد استيقظ تسعة أعضاء، ذهل الحكم ومن معه من هذا التصرف، فهذا لم يكن واردا في شرح اللعبة، ولم يتم ذكر مثل هذه الحالة أنها مخالفة للقوانين لذا لم يتفوه الحكم بشيء واستمرت اللعبة، وفي وسط دهشة اللاعبين المستيقظين أيقنوا في نفس اللحظة أن الأمور ستزداد صعوبة وخصوصا اللاعبين أصحاب بطاقات المافيا..

طلب الحكم من الجميع أن يناموا فأغمض الجميع أعينهم ثم طلب من الجميع أن يستيقظوا، وهنا تبدأ اللعبة في الاتجاه للخطوة التالية وهي الاتهام والتبرير، وكانت البداية من نصيب رجل أصلع في منتصف عمرهـ تبدو عليه ملامح جادة بشكل دائم، مميز بين اللعبين ببدلته الرسمية ومعطفه الأسود وكأنه أحد رجال الأعمال، قال له الحكم: لديك ثلاث دقائق من أجل الاتهام والتبرير وتبدأ من الآن!!

بدأت الثواني الأولى من الدقائق الثلاث تجري ومازال الرجل الأصلع صامتا ومحدقا نحو ورقته المقلوبة التي على الطاولة، ما جعل هذا الرجل ينتهي به المطاف على هذه الشاكلة قصة لو يتم تصنيفها ستكون من ضمن الكوميديا السوداء، هو رجل بنكي، وهو ذكي ومحنك واستخدم ذكاءه في ابتكار العديد من عمليات النصب والاحتيال، ودائما ما يستهدف الأشخاص قليلي الحيلة من أجل مخططاته الخبيثة، أقيمت عليه العديد من القضايا من قبل ضحاياه ولكن دائما ما يفوز فيها عبر الاستعانة بالهفوات في العقود والتي لا يفهمها المساكين من ضحاياه، وفي يوم من الأيام تم احضار متدربة جديدة في البنك الذي يعمل فيه، وطلبوا منه الادارة أن يتكفل بأمر تدريبها، ولسوء حظه أنها كانت تتصف بصفاته أيضا وقد سمعت بعض من قصص النصب خاصته، غروره أعماه عن رؤية نواياها الشيطانية فقد قامت بعملية نصب عليه كلفته كل فلس من أمواله المخزنة في حسابه البنكي، بل وأنها أظهرت ديون ضخمة عليه مما أدى الى فصله من عمله ومطاردته من قبل أصحاب الديون وظل يهرب منهم حتى ركب السيارة التي أوصلته الى هنا، وهذه الفرصة أتاحت له خططا للانتقام من الفتاة التي مرغت كبرياءه في الوحل وداست عليه أيضا..

مرت دقيقة من الوقت ولم ينطق الرجل الأصلع بكلمة بعد، حتى انتهت الدقيقة الثانية رفع أنظاره نحو اللاعبين وقال لهم بنبرة جادة تماما: أنا زعيم المافيا!!

وسكت بعدها والجميع ينظر نحوه بنظرة استغراب وبعضها كانت نظرات سخرية، فمن الطبيعي أن الشخص الذي سيقول أنه هو الزعيم سيكون كاذبا، ثم قال: ولم استطع التعرف على بقية أعضاء المافيا لأن الأشخاص الذين استيقظوا كانوا تسعة ومن المفترض أن يكونوا أربعة فقط، لذا أريد من رجال المافيا الحقيقيون أن يعرفوا أنني الزعيم ويثقوا بأحكامي تماما.

وانتهت الثلاث الدقائق الخاصة بنهاية كلماته التي سببت الحيرة لبعض اللاعبين، وهنا انتقل الدور الى اللاعب الآخر وهو الشاب الوسيم الذي يشبه المغنيين، فبدأ الدقائق الثلاث فقال:

في الحقيقة انصدمت كثيرا حينما رأيت أن عدد الذين استيقظوا تسعة أشخاص لهذا لم أتعرف على أعضاء المافيا، لكن أريد أن أطمئنكم أنني لست من المافيا وأنا رجل صالح لكني لم أتمالك نفسي من الاستيقاظ والتعرف على أعضاء المافيا، وكم أسلفت أنني متفاجئ بما رأيته، وفي الأخير أريد أن أقول أن الرجل الأصلع ليس الزعيم ولكنه أحد رجال المافيا أرجو من الجميع أن يدعم اتهامي له والتصويت عليه!!

انتهت الدقائق الثلاث وانتهت معها دور الفتى الوسيم في الاتهام و التبرير، وملامح الرجل الأصلع تملؤها الدهشة وقد كسى العرق جبهته مما جعل لها لمعانا مميزا، ونفس الملامح كانت على وجه الحكم أيضا، وقال الحكم في نفسه: من الطبيعي أن يتفاجأ الرجل الأصلع هكذا من كلام هذا الفتى لأنه لم يكن من ضمن الأشخاص الذين استيقظوا، يا له من شخص ماكر، سيكون خصما صعبا لبقية اللاعبين!!



انتقل الدور للاعب التالي، وقد كان رجلا تغلب على ملامح الهم، يتعرق كثيرا ودائما ما يمسك بمنديل قماشي بيده ليمسح بها العرق الذي على وجهه، وقال بنبرة مترددة: ااهه.. ليكن في علمكم أني لا أكن الضغينة لأي أحد منك ولكن يجب علي فعل ذلك، أظن أنه لا يمكنني الحكم على أي أحد منكم أنه مافيا او رجل صالح، لذا سوف أؤجل اتهامي، وليكن في علم الجميع أنني رجل صالح لذا لا تضيعوا وقتكم وفرصكم في اتهامي أبدا.

انتهى كلام اللاعب الثالث قبل أن ينتهي الوقت المخصص، ونظرات السخرية تعلو الجميع، فهذا الكلام أشبه بكلام الأطفال ولا يصلح لمثل هذا المكان والزمان تحديدا..

دور اللاعب الرابع، رجل ذو بشرة سمراء وعيون حادة وملامح باردة، طويل البنية وعريض المنكبين، جالسا على كرسه بهدوء تام، مربع ذراعيه على صدره، فقال: أتجاوز عن دوري!!

لينتقل الدور الى اللاعب الخامس فالسادس حتى وصل الى اللاعب الثاني عشر والأخير، وهو رجل عجوز في السبعينات من العمر قد غزا الشيب شعره وشقت التجاعيد مسارها على وجهه، ثم قال: ان كان هناك شيء يميزني عنكم جميعا فهي الحكمة التي اكتسبتها خلال السنوات التي قضيتها، لقد وصلت لآخر عمري ولست أبغي بهذه الحياة شيئا، لكن يبدو أن الحكاية لم تنتهي بعد، أما بالنسبة للاتهام فأنا أضعه ضد الرجل المتعرق ذاك أنه مافيا، كلام الأطفال ذاك قد كشف حقيقتك منذ البداية ولهذا أطلب من جميع اللاعبين الأفاضل أن يتفقوا معي ويضعوا تصويتهم ضده!!

اتسعت عينا الرجل المتعرق، وازداد تعرقه حتى بدا أنه لا يتوقف، ولم يستطع منديله مواكبة العرق المنسدل على وجهه من التوتر، وحاول أن يتكلم ويبرر موقفه لكن الحكم منعه من ذلك وطلب منه أن يصمت وينتظر دوره في التبرير الأخير، حيث أنه هناك فرصة بعد التصويت وقبل التثبيت على التصويت، بينما كان الرجل العجوز يجلس بهدوء تام وابتسامة خفيفة مرسومة على وجهه..

أشار الحكم للاعب الأول بالتصويت ضد أحد اللاعبين، فاختار التصويت ضد اللاعب الثاني –الشاب الوسيم-، أما اللاعب الثاني فقد اتبع نصيحة العجوز وصوت ضد الرجل المتعرق، وجاء دو المتهم لكي يصوت أيضا، فاختار التصويت ضد الفتى الوسيم كنوع من الرد، فقد كان تصويت من دون تفكير، وهذا الفعل أثار الشك في نفوس اللاعبين وازدادت رغبتهم في التصويت ضده ففعلوا، حينها قال الحكم: بما أن غالبية الأصوات ضدك، يمكنك التبرير لنفسك الآن!!

قال الرجل المتهم بصوت يملأه القلق والتوتر: كون تصرفاتي ناتجة عن رد فعل دون تفكير لا يبرر كوني مافيا، لذا أرجوكم اسحبوا اصواتكم مني ووجهوها الى هذا الفتى لأنه كاذب فيما قاله، لقد كنت ضمن الأشخاص الذين استيقظوا ولم يكن هذا الفتى منهم، وبإمكان اللاعب الاول دعم ما أقوله..

قال الرجل العجوز موجها سؤاله للاعب الأول: هل ما قاله صحيح، ان كنت حقا من الاشخاص المستيقظين؟!

ظل اللاعب الاول محدقا في ناحية العجوز وذلك الشعور الغريب الذي لا يمكنه تفسيره قد غزاه، ثم قال: لا، ليس صحيح..!!

صدم المتهم بقول اللاعب الأول، لأنه بالفعل من ضمن الأشخاص المستيقظين لكن اللاعب الأول نفى ذلك تماما، فقال: ولكن..

فقاطعه الحكم مباشرة: لا يمكنك التبرير فلقد انتهت فرصتك، والآن ننتقل الى التثبيت، فمن يريد أن يسحب صوته فليفعل الآن والا فإنه يعتبر صوت مثبت ضد المتهم!!

ظل الغالبية مثبتين بينما سحب بعضهم أصواتهم واحتفظوا بها ولم يصوتوا لتنتهي النتيجة صوتين ضد الفتى الوسيم لخمسة أصوات ضد الرجل المتعرق، وهنا أتت اللحظة الحاسمة للجولة الأولى من اللعبة، فتقدم الحكم نحو المتهم ومد يده ناحية بطاقة اللاعب المتهم ليكشفها، وما أن أظهرها الا ودهش الجميع، البطاقة أشارت الى أن المتهم رجل صالح وليس مافيا، فقال الحكم: من الواضح أن الاتهام باطل، وأن اللاعب رقم ثلاثة يعتبر أول الفائزين لدينا، وعلى صاحب الاتهام أن يقصى من هذه اللعبة ...

قاطع اللاعب الثالث الحكم بصوت باكي: أرجوك أيها الحكم، لا تقتل العجوز بسبب خطأ ارتكبه في لعبة أرجوك!!

فجأة قام الرجل العجوز يضحك والجميع ينظر نحوه باستغراب، ثم قال: لا يمكنك ايقافه، لقد قلت لكم أن الفرق بيني وبينكم هي الحكمة التي اكتسبتها خلال السنوات هي ما ميزتني عنكم، ومن خلالها اكتشفت كم أنك الشخص الوحيد بيننا من يملك قلبا صادقا لدرجة أنه لا يستطيع أن يكذب كذبة يواري بها عن حقيقته، لذا قررت أن أهديك الفوز وأعطيك طريق النجاة من هذا الوضع الكئيب بأسرع ما يمكن.

فقال له الرجل المتعرق: لكن.. لماذا فعلت ذلك؟ انت لم تعرفني من قبل ومع ذلك خططت لفوزي على حساب حياتك، كان بإمكانك استخدام حكمتك هذه من أجل الفوز!!

رد عليه العجوز: لقد قلتها سابقا، لم أعد أبغي من هذه الحياة شيئا!!

حينها تقدم رجل آخر من رجال اللعبة الذين يبدون كالحرس الشخصيين وقال للرجل المتعرق: بما أنك الفائز الأول، أرجو منك أن تتبعني الى الغرفة الأخرى لانتظار بقية الفائزين.

فرد عليه: حسنا..

وفور قيامه من أجل الذهاب للغرفة الأخرى، قال له الرجل العجوز: تعلم أن تستخدم الجائزة بحكمة كي لا تقع بمثل هذه المواقف مرة أخرى!!

انهمرت عيناه بالبكاء وشعر بالذنب الشديد اتجاه مصير الرجل العجوز، الحكيم الذي أهداه أعظم جائزة قد يتلقاها شخص ما، وهي الإيثار!!

وفور خروج الفائز الأول من تلك القاعة توجه الحكم ناحية الرجل العجوز وقال: انه لمن الخسارة أن يموت رجل بمثل حكمتك!!

رد عليه العجوز بسخرية: وانه لمن العار أن يقتل رجل بمثل حكمتي من رجل مثلك!!

قال له الحكم: ربما تكون على حق، ولكن من يأبه؟! (صوت طلق ناري)

ارتطم جسد العجوز على الأرض بعد صوت الطلقة مباشرة واستقرار الرصاصة في رأسه، وبقيت جثته تسبح في دماءه أمام أنظار بقية اللاعبين، حيث دب الرعب في قلوبهم، فرغم أنهم يعرفون هذا الامر الا أن رؤيته بهذا الشكل شيء آخر تماما..

وجه الحكم نظراته نحو اللاعبين، ثم قال: ليستأنف اللعب، ولتبدأ الجولة الثانية!!

2020/09/14 · 165 مشاهدة · 1922 كلمة
ykh_1997
نادي الروايات - 2024