رفعت الأعلام، ونفخت الأبواق، ورش المواطنون الزهور على الجنود الذين يسيرون بفخر واعتزاز بين الحشود، أصوات التهاليل والتبريكات، والأطفال يرقصون في الأرجاء، ورجال مهندمون يضربون الطبول خلف الركب، يعلنون قدوم فارسهم المغوار بعد تحقيقه هذا الانتصار العظيم لبلاده.
فتح باب القلعة الضخم، حشد آخر من كبار الرجال، يصطفون في صفوف منظمة، ترسم ملامحهم علامات الرضا والانتصار.
نزل الفارس عن حصانه، وتقدم نحو المنصة، حيث يقف الملك وحاشيته، تعلو وجوههم ابتسامات رقيقة. انحنى الفارس على إحدى ركبتيه، وأسدل الملك سيفه، وقام بمباركته، ثم انتهت المراسم، واعتلا تصفيق الجميع كموجات بحر هائجة.
...
دخل غرفته، وخلع وشاحه، ورماه لخادمه، ثم ارتمى على الكرسي.
- هاته يا مارون! هاته!
فانحنى مارون، وهم مسرعًا، ثم عاد بكأس مملوء بسائل غريب، وقدمه لسيده.
- آه!
تنهد بعد أن فرغ من كأسه، وأردف:
- هذه الأشياء فعالة للغاية.
فعلق الخادم:
- انه بفضل أطباء القصر يا سيدي، فالملك اختار أفضل أطباء المملكة ليخدموا سموك.
- تخاريف تخاريف!
علق بلا مبالاة، ثم أعاد الكوب للخادم، وأشار له بيده، وقال:
- فلتتركني وحدي الآن.
- أمرك مولاي.
وهم مغادرًا، حينها استلقى بثقل جسده على الكرسي.
...
في دفيئة القصر، حيث تكتسي الجدران بأوراق الأشجار، وتصطبغ لون أشعة الشمس بخضارها، تجلس نورس تحت إحدى الأشجار، تحتمي بظلها، تبرم أوراق النباتات بخفة، وتلقيها في وعاء صغير، ثم تضغط عليها برفق بواسطة المطحنة، حتى تصبح كالرمل، تلقي بها في السلة المجاورة لها، حيث أصبحت شبه ممتلئة من هذا المسحوق.
- نورس!
أتى الصوت رقيقًا قريبًا، حين همت سيدة في مقتبل الأربعين، تمد يديها لتناولها نورس السلة، وتعطيها سلة جديدة فارغة. ابتسمت وقالت:
- هذه آخر سلة.
فهزت نورس رأسها، وتابعت عملها، حين همت السيدة تتجه نحو عملها مع سيدة أخرى كانت بانتظارها.
- بالرغم من فقدها لصوتها، إلا أنها تملك ذكاءً حادًا.
علقت السيدة الأخيرة، لتجيبها:
- أنتِ محقة سيدة مروة، فهي تعلمت الطب بالأعشاب منذ نعومة أظافرها، وكانت تتشرب المعلومات كالاسفنجة.
-آه، يا للمسكينة! لو أن والدتها لم تكن تعمل في القصر، لفتح لها المستقبل.
ونظرت نحوها نظرة خاطفة مليئة بالحزن والشفقة، ثم تابعت المسير.
...
بعد انتهاءها من العمل، توجهت نحو التلة لتتنفس الهواء كأي فتاة أخرى، وجلست تحت شجرة أعلى التلة، لتراقب الصبية والفتيات الصغيرات يلعبون ويلهون بمرح وسعادة، ترسم على كراستها الصغيرة البحيرة التي خلفهم، كقطعة زجاجية انعكست عليها أشعة الشمس، فانكسرت بألوان قوس المطر، من صفاء المكان، وهدوءه، تجلس شاردة البال، براحة وسكينة.
- ياه! منذ متى كانت البحيرة بهذا الجمال!
نظرت نورس نحو مصدر الصوت بفزع شديد، فهي لم تعتد على وجود أحدٍ في هذا المكان وفي هذه الساعة، إلا أنها ازدادت ذعرًا حين تبين لها أن صاحب هذا الصوت شاب يافع أمامها.
تابع حديثه كأنه لم يلاحظها:
- أشياء كثيرة تغيرت منذ عودتي.
ثم أشار للصبية، وقال بدهشة:
- أذكر أنهم كانوا ثلاثة!
ابتسم. بينما دخلت كلماته منجم دماغها للتحلله وتفككه، فتسمع صوت الحشائش، لتراه يجلس على مقربة منها ينظر نحوها، وسأل:
- وأنتِ أيتها الشابة! ماذا تفعل فتاة جميلة وحدها هنا؟
ارتبكت، فتحت فمها لتجيب، ثم تذكرت أنها لا تتكلم، فأزاحت رأسها باستياء.
أردف بلامبالاة:
- آه! انتِ ترسمين!
وأخذ يسحب لوحتها باهتمام:
- رسمك حقًا جيد!
تورد وجهها وأشرق، فنظر نحوها مجددًا وسأل:
- اعذريني يا آنسة، ولكن ..
ثم سحب كلماته، وفي تردد أخرج دفترًا صغيرًا، تراقبه في وجل، حتى زادها رعبًا ما كتب على الورقة، وكأن وابلًا من الرصاص ضرب قلبها، فأشاحت وجهها في ألم، حين أوقف دموعها تنهيدة ارتياح، واستلقى على العشب، ليستطرد قائلًا:
- هيه! هذا أفضل! لن أضطر لسماع ثرثرة مزعجة وأنا أتأمل وجهك الجميل.
ابتسمت بحياء، ثم عاد يتساءل:
- هل تجيدين الكتابة؟
فهزت رأسها بالنفي، حينها توسعت عيناه من الدهشة، ثم قال متعجبًا:
- ولكنكِ تجيدين الرسم!
أخذ يفكر لبضع ثوانٍ ثم ابتسم بانتصار، وقال:
- لا بأس، يمكنك أن تحادثيني بالرسم، فأنا أحب أن أنظر إلى لوحاتك.
لم تستطع إخفاء دهشتها، وأخذت تفكر بكلماته في شك وريبة، حين قاطعها نهوضه، وقال متسائلًا:
- هل ستكونين غدًا هنا؟
التمس ترددها، فابتسم، وقال:
- هذا يعني أجل.
فأشاحت وجهها لتخفي ابتسامة تلقائية، حين قال مودعًا:
- لتكن كراسة الرسم معك أيضًا.
وهم مغادرًا، تتبعه نظراتها، ثم أخذت تلمس خدها، وسرحت عيناها في عالم آخر.
...
وضعت كراستها على المكتب الخشبي الصغير، شردت قليلًا، حين أيقظها صوت والدتها المستلقية على السرير، وجهها شاحب، وهالات التعب واضحة أسفل عينيها.
- ناوليني الدواء يا نورس.
فهمت نحو الطاولة في منتصف الغرفة، عليها أصناف كثيرة من النباتات والكتب، وقوارير بأحجام مختلفة، وأدوات غريبة. أمسكت إحدى القوارير الصغيرة، رشت عليها بضع بتلات من زهور وردية، وتوجهت نحو سرير والدتها، وقدمتها لها.
- آه يا عزيزتي!
تنهدت الأم:
- لو تعلمين كم سيكون والدك فخورًا جدًا بك الآن.
ابتسمت نورس بخجل، وما ان فرغت الأم من شرب دواءها، حتى أعادته لها وقالت:
- تذكري أن تشربي دواءك يا عزيزتي.
امتعض وجه نورس قليلًا، لكن سرعان ما تمالكت نفسها، وأومأت بالإيجاب، وخرجت، بينما نظرت والدتها نحوها بحزن عميق، وكأن أسرار الكون في عينيها.
ذهبت نورس إلى المخزن، حيث النباتات في قوارير مملوءة بسوائل مختلفة، تخرج فقاعات باتجاه السطح ثم تختفي، أخذت تبحث في جميع الاتجاهات، حيث تجلس إحدى القوارير على طالولة منفردة، يدخل شعاع خفيف من أشعة الشمس على زجاجها، فتحت القارورة، وأخذت بضع بتلات، وضعتها على كوبها، ثم همت تغادر المكان في هدوء تام. نظرت يمينًا ويسارًا قبل أن تتحرك باتجاه الدفيئة، كان عليها أن تحذر من أن يلحظها أحد، أغلقت الباب بالمفتاح باحكام، وتوجهت نحو الدفيئة، قابلتها السيدة ذاتها، أخذت منها الكوب بحذر، وهمست:
- هل تأكدت من أن لا يراكِ أحد؟
فهزت رأسها، فابتسمت لها بلطف، وهمت نحو المعمل، حيث تبعتها نورس. المعمل كخلية النحل، الجميع مشغول، الجميع لديه أعمال يقوم بها، من العناية بدرجة حرارة الغرفة، إلى سقي النباتات، الجميع يرتدي الثوب الأبيض، والقفازات، لبست نورس ثوبها، وقفازاتها، وبدأت العمل مع السيدة في اعداد الأعشاب.
...
المبارزة على أوج اشتعالها بين الفارسين، وسط حلبة عملاقة، يحيطها مدرجات حجرية كبيرة يجلس عليها أصحاب الشأن، وعلى منصة عالية نسبية، تغطيها قبة من الذهب، يجلس الملك وحاشيته، يراقبون المبارزة في هدوء، تجلس الأميرة بجانب والدها يعتري وجهها الملل الشديد، حتى حضر دور فارسها المنتظر، لتعدل جلستها بلهفة، ولكن سرعان ما باغتتها نظرة والدها، لتتنحنح وتغير ملاحتها بعدم مبالاة.
بعد انتهاء المبارزة، وتحديد الفارس الفائز، ليتم إعادة ترتيب الرتب لكل فارس، يذهب كل فارس إلى خيمته ليخلع عن جسده الأدرع الثقيلة. حينها أخذ مارون يسير بين الخيم ليتفقد الأمور، فتظهر الأميرة أمامه.
- سمو الأميرة!
علق مندهشًا، فاقتربت منه بحذر، وأخذت تسحبه بعيدًا عن الخيم، وهمست:
- أخبرني، هل سيتم إقصاءه؟
- من؟
أخذ يتساءل:
- الفارس لوكاس؟
فأخفضت رأسها بخجل، حينها ابتسم، وقال مهدئًا:
- ليس على سمو الأميرة أن تقلق بهذه الأمور، فكل شيء سيكون على ما يرام.
عادت تنظر نحوه بعينين متقدتين، وسألت بحزم:
- هل سيتم إقصاءه؟
ارتبك من نظرتها، وأخذ ينظر بعيدًا يحك راسه بتوتر.
- حسنًا!
قال مترددًا:
- لن يتم إقصاءه بمعنى الإقصاء، لكن الفارس ليون سيأخذ مرتبته.
تنهدت بحزن، فحاول أن يفكر في كلمات لتريح بالها، فعاد يقول بمرح:
- لكن سمو الأميرة تعرف الفارس لوكاس جيدًا، اليس كذلك؟ سيعود ليستولي على المراتب الأخرى.
- هل أنت متأكدٌ من ذلك؟
فأومأ بالايجاب مبتسمًا، ما جعل ملامحها تسترخي، وترحل مطمئنة، يشرد في رحيلها، حين قفز صوت أحدهم من خلفه:
- ماذا؟ ألا زالت تسأل عنه؟
- ليون!
علق مارون باشمئزاز، ثم نظر إلى الفارس ليون، الذي بدا سعيدًا بنصره الجديد الذي حققه اليوم، فاردف مارون:
- بالتأكيد ستقلق عليه، فهو ابنها.
- هيه! هيه! الحياة الملكية معقدة.
- بالمناسبة يا ليون، إن اردت ان تحتفظ برأسك، فلا تغضب سمو الأميرة بتهورك هذا.
فحرك ليون عينيه بلامبالاة، فعلق مارون بصرامة:
- أنا جاد بهذا!
إلا أن أحدهم تقدم، وهمس في أذن مارون، ليعتذر ويهم بالانصراف.

2019/06/08 · 793 مشاهدة · 1218 كلمة
بيان
نادي الروايات - 2024