الساحة مبهجة بألوان الزهور، من أقحوان وأكاليل، ونباتات مختلفة من كازوارينا وجاكارندا وبومباكس، ناهيك عن الشجيرات المتناثرة هنا وهناك من دوديانا وأكاليفا، تستطيع أن تشم رائحة الميرسين من البوابة، تستقبلك خادمة برائحة الكولونيا، ترتسم على وجهها ابتسامة مشرقة كشقائق النعمان.
- تفضل سيدي، يمكنك أن تستريح هنا.
وأشارت له بالجلوس على إحدى المقاعد الحجرية، تكللها الرياحين، قدمت له شاي برائحة التوت الشهية، وتركته شارداً في هدوء المكان، وهواءه الذي يفتح الصدر، وكأنك دخلت إلى غرفة تطهير، يعطي شعوراً قوياً بالانتعاش. لمح لوهلة جثة متكئةً على أحد الاصص، فاقترب بدافع الفضول، حينها وجدها نائمة كملاك صغير على منضدة حجرية، تتناثر الكتب عليها، بينما تتوسد كتاباً، تظهر عليه صور ملونة لنباتات مختلفة.
بدا بهدوء ملاحتها أن تتنفس بهدوء وكأنها في حلم جميل، فأخذه فضوله ليختلس النظر إلى جيدها، بدا وكأنه يبحث عن جرح ما أو إشارة، حين استوقفه صوت السيدة لافرتين:
- سموك!
اعتل في وقفته مسرعاً يعلو وجهه ملامح الجدية، رفعت إحدى حاجبيها في دهشة، ليظهر عليه التوتر، حك راسه وتمتم:
- أعتذر عن وقاحتي!
- لا عليك، إنه خطأها أنها مستلقية هنا.
بدت السيدة غاضبة جداً، وكأن عراكاً حصل بينهما سابقاً، اختلس نظرة أخيرة نحو الملاك النائم مندهشاً من نومها العميق هذا، ثم تبع السيدة حيث أشارت له بالجلوس. بدا روهان قلقاً، فهو لم يرى السيدة لافرتين غاضبة بهذا الشكل من قبل، جلست قبالته على مقعد حجري صغير، وسكبت من الشاي الموضوع على المنتضدة.
- إذاً كيف يمكنني أن أساعد سموك؟
- الحقيقة !
ثم توقف من شدة الارتباك، لتنظر نحوه تنتظر أنه يكمل جملته، ليتنحنح ويتابع:
- أود أن أسأل إن كان ممكنا إضافة ذلك السم إلى سيوف الجيش ورماحه في معركتنا القادمة مع رامون بدلا من استخدام الإكسير، فكما حذرتنا آنفاً، أن استخدامه بشكل متهور لن يكون له نتائج جيدة.
لانت ملامح السيدة، ما جلعه أكثر ارتياحاً، ثم ابتسمت بشيء من خيبة الأمل وتساءلت:
- وهل سيسمح القادة بذلك؟ هل هو أمر من الحاكم؟
- الحقيقة! انني أود القيام به بشكل سري.
أمالت رأسها، ففهم من خلال ذلك أنها لن توافق على ذلك بسهولة، إلا أنها سهلت عليه الأمر وقالت:
- على الحاكم واللوردات معرفة ذلك على الأقل، على سموك أخذ موافقتهم، فهذا الأمر في غاية الخطورة.
- أتفهم ذلك جلياً أيتها الدوقة، هذا تصرف حكيم.
ابتسمت له، حين تساءل بشيء من التردد:
- لكن ...
ثم حك رأسه:
- هل تظنين أن تلك خطة جيدة؟ ماذا عن الاكسير، ألن يفقد من قيمته؟
توسعت ابتسامتها بشيء من الثقة، أو أن سؤاله البريء أودج في نفسها بعضاً من حنان الأمومة:
- هل تريد معرفة رأيي صاحب السمو؟
- أجل، بكل تأكيد.
فظهرت على وجهها علامات الجدية، حين استطردت:
- حقيقة أن هذه المملكة لا تستطيع الاستغناء عن الاكسير تجعل من خطتك سموك بين النجاح أو الفشل، فإن علم الجنود بعدم تجرعهم للاكسير، أعتقد أن ذلك سيثبت من عزيمتهم، ثم ... سينتهي أمرنا!
ابتسمت ابتسامة تنم عن الحزن، وكأن الكلمة الأخيرة معروفاً بالنسبة إليها، ليبدو الشرود، توقظه بصوتها الهادئ المريح:
- سموك!
فنظر نحوها وكأنه ينتظر خيطاً من الأمل:
- أقدر اهتمامك لصحة الجنود، وأقدر حكمتك في عدم استخدام الاكسير لهذه المعركة، لكن هناك مشكلة أخرى، وهو لأي مدى يمكن للسر أن يبقى قيد الكتمان؟
ازاد ذعراً، حين أردفت:
- فإن انتصر الجنود، وعرفوا بعدم تجرعهم للاكسير فيزيد من ثقتهم بأنفسهم، وينتهي أمرنا مجدداً!
- لكن!
صرخ منفعلاً:
- ان لم يفعلوا المرة التالية سنهزم بالتأكيد!
ابتسمت بلطف وقالت بهدوء:
- هذا غير وارد، فطبيعة البشر المتغطرسة تحتم الامر.
تراجع على الكرسي بقلة حيلة، قالت بشيء من محاولة لتخفيف الأمر:
- أعتذر سموك، لكن كما تود حماية جنودك، أود أيضاً حماية عائلتي.
- أتفهم أبعاد ذلك.
- كما أود أن أنصحك أن لا تخبر الحاكم عن هذه الخطة، لأنه سيفعل بك كما فعل للأمير أنيس سابقاً.
- هل فعل أنيس ذلك؟
بدت أنها تحاول عدم التطرق للأمر، فهو تاريخ حزين، تمتمت:
- أجل، لقد فعل.
نمت فكرة في رأسه، لطالما كان أنيس متمرداً عاصياً لأوامر الحاكم، لكنه حتماً لم يكن يعلم وجهة نظره، هل مر أنيس في وقت مشابه اضطر فيه للاستغناء عن الاكسير السحري؟
أراد أن يسأل الكثير من الأسئلة، لكنه لا يمتلك الجرأة، حينها وقف مستأذناً، وقال بوقار:
- اذاً شكرا لك أيتها الدوقة على استقبالي، سأعلمك بآخر القرارات قريباً.
فهزت رأسها تعلو وجهها ابتسامة رزينة، لتأتي الخادمة وترشده إلى طريق الخروج، ليسمع حديث إحدى الخادمات في الممر:
- هل انتهى مفعول المنوم؟
- أعتقد أنه كذلك.
- اذاً هاتي جرعة أخرى.
استوقفه الحديث، لتلاحظ الخادمة خلوفه عنها، يوقظه صوتها:
- هل من مشكلة صاحب السمو؟
- آه!
حك رأسه بارتباك:
- لا.. لا شيء!
وتابع مسيره.
...
دخل روهان القاعة، حين فوجأ بالهدوء الذي يسيطر المكان، شرارات من التوتر تبرق وترعد، وبدا على والده الغضب الشديد.
- لن أكرر كلامي.
علقت فينا بحزم:
- إن لم يكن أنا من سيعتلي العرش فتركه لابني، لن أتزوج على الاطلاق.
تسلل روهان بهدوء ووقف بجانب مارون، وهمس:
- ما الذي يحصل؟
- يبدو أن سمو الأميرة ترفض عرض الزواج التاسع الذي يقدمه لها صاحب الجلالة.
نظر روهان ملياً نحو الحشود، اللوردات والقادة، الأمير رمسيس يبدو في حالة يرثى لها، والحاكم يقبض على كلتا يديه في محاولة في كبت غضبه.
- سمو الأميرة.
أتى اللورد جود في محاولة للتفاهم معها:
- أعطنا سبباً مقنعاً لرفضك لسمو الأمير، فكما تعلمين رجل من النخبة لا يأتي كل يوم.
- لا يمكنك أن تجبرني على شخص فقط لأنه من النخبة!
- كفى!
وقف الحاكم يعلو الغضب قسماته شبراً شبراً:
- إن كان الأمر كذلك، فستتزوجين بالاجبار.
- أنا أرفض!
صيحات الاندهاش علت بينما تقف هي وسط الجمهور شامخاً لا تهزها ريح، يبدو أن مشهداً تاريخياً يعيد نفسه، ليعلن الحاكم بحزم:
- اذاً سأرسـ ...
قاطعه ظهور روهان:
- مهلاً، مهلاً!
بدا مارون مذعوراً من تصور سيده اللاعقلاني، كما أن مجموعة من الرجال شاركوه الرأي.
- لم لا تترك سمو الأميرة في غرفتها لبعض الوقت، أعتقد أن مسألة الزواج بحاجة للتفكير، أليس كذلك؟
ونظر إلى لارا ليأخذ بعض الدعم، فقالت مشجعة:
- أجل يا صاحبة الفخامة، دعني أتحدث معها امرأة لامرأة، سيسهل بذلك اقناعها.
بدت فينا تود الدفاع عن نفسها، إلا أن روهان دحجها، ففهمت أن عليها الصمت، ليعود الحاكم على كرسيه وكانه أخذ الأمر بمنتهى الجدية، حينها تنهد الجميع بارتياح.
- تبدو فكرة سديدة.
أشرق وجه روهان، ليكمل صاحب الجلالة في مخاطبة للسيدة لارا:
- سأعطيك مهلة ثلاثة أيام فقط لتغيري رأيها.
بدت فينا منزعجة، حيث اصطحبتها لارا إلى غرفتها ورفعت الجلسة، ليعود الجميع إلى عمله المعتاد. حينها تقابل روهان مع اللورد جون في الممر، يبدو على جون الضيق والانزعاج، قال:
- لا تثق بنفسك كثيراً سمو الأمير، فذلك لن يغير من أمر نقلها إلى البلاد الشمالية.
ثم انصرف، ليصك مارون أسنانه بغضب:
- ذلك المتعجرف!
لكن روهان بدا شارداً، فما قاله عين الصواب، ليهمس بيأس:
- هو محق، ذلك لن يغير شيئاً.
نظر مارون نحو سيده متعاطفاً، فقال في محاولة لتشجيعه:
- ومن يهمه ان كان على حق، ستتأثر الأميرة بما فعلته لأجلها ..
قاطعه مارون بحزم:
- ذلك لن يغير شيئاً.
وهم منصرفاً، تبدو على خطواته الغضب الشديد.
...
بعد أن انتهى تدريب الفرسان، توجه روهان إلى الردهة، حين علق أحد الفرسان الشبان لأحد أصدقاءه:
- ألا يبدو السيد على غير طبيعته؟
- كيف لك معرفة ذلك؟
- في العادة يذهب كمن ينتظره أحد، اليوم بقي حتى آخر لحظة من التدريب.
- آه فهمتك، كما أنه لا يزال هنا يراقبنا!
- هل تظن أنهما تشاجران؟
- هل لا زلت تعتقد أنه يذهب ليقابل فتاةً ما.
- لا يوجد خيار آخر، ألا يبدو مشتت الذهن. كما أنه ليس عصبياً ككل مرة!
- أنت فظيع يا ألفين، لديك عينان مخيفتان.
- الأمر ليس كذلك، لكن سيدي سهل القراءة!
ثم غادر جميع الفرسان كل إلى عمله، حين جلس روهان على إحدى السلالم، ينظف سيفه في الهواء الطلق، ليأتي صوت رمسيس قادماً من الخلف:
- يبدو أن لسموك مكانة عظيمة تجاه الملك.
فنظر روهان نحوه، حين أخذ الأخير يجلس بجانبه على السلالم، ثم عاد إلى سيفه وضغط عليه بشدة قائلاً:
- ليس تماماً.
- لكن ..
علق رمسيس موضحاً:
- أن يستمع إلى اقتراحك بعد تدخلك الذي لم يفعله أحد في تاريخ المملكة، أليس هذا جديراً بالاعجاب؟
- أنا فقط لم أرد أن أخسر فرداً آخر من العائلة.
صمت رمسيس لبرهة، يحاول إعادة الكلمات، ليتساءل:
- هل يبدو الملك صارماً هكذا؟
زم شفتيه في محاولة لضبط ابتسامة ارتسمت على وجهه، ثم قال:
- الأمر أنه لا يريد للأميرة أن تترك وحيدةً بعد رحيله.
- فهمت!
ثم نظر إليه وسأله:
- لكنك لا تبدو معترضاً على قراراته!
توقف عن مسح السيف بقطعة القماش، ليبتسم مجدداً، ثم نظر إلى رمسيس، وقال:
- لا يوجد شيء أعترض عليه.
- لكن أنيس كان معترضاً على كثير من الأمور.
حدق في السيف يتأمل انعكاس صورته عليه، لمح رمسيس صمته، وعدم تمكنه من الاجابة، أو ربما هو لا يريده مصارحته بالأمر، حينها قال محاولاً مداعبته:
- اذاً أنت هو الطفل المطيع الذي يتحدثون عنه!
وضحك بخفة، فنظر نحوه بدهشة وتساءل:
- أحقاً هذا ما يقال عني؟
- أجل، الجميع يعتقد أن الملك يحبك لطاعتك.
- لكن هذا غير صحيح!
بدت على رمسيس الدهشة حين رأى علامات الجدية على وجه روهان، فتساءل:
- أحقاً!
- الأمر أنني أعرف أبعاد ما يفكر به الحاكم، لذلك أنا أحترم قرارته!
ابتسم رمسيس ابتسامة إعجاب، وقال:
- هذا مثير للإعجاب!
- هل تظن ذلك؟
- بالتأكيد.
ثم عقد رمسيس يديه على ركبتيه، وشرد في السماء، وهمس:
- تذكرني بالأيام التي كنت فيها أعترض لمجرد الاعتراض، الاقرار بالصواب أمر صعب، أليس كذلك؟
ابتسم روهان، وعاد لينظف سيفه، حين أخذ يقول:
- كانت والدتي تخبرني دائماً أن الاقرار بالصواب ليس ضعفاً، وأنه إن أقررت بالصواب في الوقت المناسب فسينعكس ذلك عليك في المستقبل.
- والدتك سيدة حكيمة، أظن أن الملك أحبها حقاً.
- لا أعرف! كان زواجاً مدبراً.
جرى صمت خانق، حين كسره روهان متسائلاً:
- هل تعتقد أن فينا ستعدل عن رأيها؟
ذلك السؤال هو ما يشغل باله على ذكر ذلك، ولم يجد أحداً مناسباً يطرحه عليه، ثم نظر روهان نحو رمسيس، وسأل مباشرة:
- رمسيس هل أنت تحبها؟
اشتعل وجهه بحمرة الخجل، وتلعثم:
- ما بال هذا السؤال فجأة؟!
- لأنك بدوت مستاءً من رفضها لك.
- آه!
فطأطأ رأسه بخجل:
- اي رجل سيصاب بالمثل حين يوضع في هكذا موقف.
- اذاً هل أحببت من قبل؟
فنظر إليه رمسيس مندهشاً، ليكمل روهان موضحاً:
- تبدو لي شخصاً جرب الحب من قبل.
- كيف لك معرفة ذلك؟
- حديثك معها جعلني موقناً بذلك.
ابتسم مستسلماً، حك رأسه، وقال:
- أنتم حقاً عائلة مرعبة!
ابتسم روهان ابتسامة طفيفة، حين قال رمسيس بنبرة هادئة لا يخلوها الحزن:
- الحقيقة أنني أحببت شخصاً، لكنه أحب شخصاً آخر وتزوجا، وحين توفي زوجها شعرت بالسعادة، لكنني أشعر بالندم حين عرفت مقدار حبها له.
بدا روهان مسمتعاً لكل حرف وهو يتأمل عينا رمسيس تتلألأ مع كل كلمة يقولها، مغادراً إلى عالمه الخاص، ليتساءل:
- لذلك قبلت بالزواج المدبر الذي اقترحه والدي؟
نظر رمسيس نحو روهان بدهشة، ثم ابتسم لسؤاله البريء، طرق جبينه بأنملته، وقال ضاحكاً:
- أنت عديم الفائدة في هذه الأمور.
وضع روهان كفيه على جبينه، ونظر نحو رمسيس بدهشة، ليبتسم رمسيس ابتسامة عريضة، ثم سأله:
- وأنت؟ ماذا عن الفتاة التي تأخرت عن موعد العشاء من أجلها؟
- لم أفعل!
ضحك رمسيس، فقال:
- بلى فعلت، لا يمكنك انكار ذلك.
أشاح وجهه بانزعاج، فضحك رمسيس مجدداً، وقال:
- يا رجل، أنت حقاً سهل القراءة!
ابتسم روهان، لم يستطع أن يمنع نفسه، بدت عيناه تلمعان أيضاً، وكأنه شرد في عالمه الخاص، ثم همس:
- لكنني لست متيقناً من تجاهها.
- هل هي معجبة بشخص آخر؟
- أظن ذلك.
- تظن ذلك؟!
- رأيت كراسة الرسم الخاص بها.
تحولت نبرته إلى همس:
- رأيت رسمة لشاب ما.
- ربما والدها!
فنظر روهان نحو رمسيس الذي جحظ عيناه من الدهشة، رأى عينا روهان متلألأ بالدموع:
- لا، إنه شخص أعرفه جيداً!
...

2019/06/24 · 430 مشاهدة · 1878 كلمة
بيان
نادي الروايات - 2024