عانقت السيدة لافرتين ابنتها بحرارة، والحزن يرسم مقلتيها، فها هي ستقتلع قطعة من فؤادها إلى مكان بعيد، آخر قطعة تبقت لها، وها هي ترحل بعيداُ، فماذا بقي لها كي تعيش؟ عانقتها ولهب الشوق يضمر في صدرها، هي قلقة أكثر من كونها مرتابة، فكيف ستسير حيات ابنتها الصامتة بدونها، وهي من كان يتكفل بالحديث عنها، أما بشأن الاكسير فليذهب للجحيم، لا يشغل حيزاً في بالها. كل ما يخالجها، الهواجس التي رسمتها عن حياة ابنتها هناك، وما يمكن أن تواجهه.
واجهت الرئيسة إليزابيل أخيراً، بدت شاحبة، ذابلة، نظرت إليها وكأنها تودع طفلاً عزيزاً على قلبها، كيف لا وهي من رعتها طوال طفولتها، وتعلمت منها طوال هذه السنين، وإذ بها ترحل لذنب ليس لها يد فيه.
"ذلك الحاكم الجشع!"
همست في نفسها وهي تنظر إلى عينا نورس اللوزية:
"من يتنبأ بما يفكر فيه"
أمسكت كتفها بقوة، ونظرت إليها بحدة، وقالت مشجعة:
- عليكِ أن تكوني قوية، راسليني من حين إلى آخر...
ثم شدت نبرتها:
- أخبريني بكل شيء !!
هزت نورس رأسها بينما عيناها جاحظتان من الدهشة، أي نوع من الأماكن ينتظرها، بدأت تفكر!
ركبت العربة التي تنتظرها أمام البوابة، حارسين ملكيين برفقتها، والأمتعة في مكان ما خلف العربة الصغيرة المزخرفة بالذهب، نظرت إلى والدتها والرئيسة مودعة، ثم سارت العربة تاركة السيدتان في حزن عميق، بينما يرقب رحيل العربة من أعلى السور، فلم يجرؤ روهان على الاقتراب، إلا أنه بدا مكتئباً.
- هل تراها ذهبت وهي تكرهني الآن؟!
همس بحزن، لكن مارون الواقف خلفه في صمت، لم يجد ما يستطيع قوله ليواسي سيده.
...
شاردةً في ضبابية الطريق التي تتحرك بتحرك العربة، ضبابية لا تفاصيل فيها من شدة السرعة، وكأنها تنتظر رحيلها بفارغ الصبر، حتى هذه العربة لا تبدو كما لو يمكنها تحملها، لكنها في قرارة نفسها تشعر بالانتصار، ها هي تتخلص من ازعاج فتيات الدفيئة ومكرهن، وتقرب السيدة مروة الامتناهي، ها هي الآن حرة متفرغة للعمل التي تفرغت لأجله، ألا وهو الاكسير، في قرارة نفسها تعلم جيداً أن حياة عائلتها على المحك، وأن صمود العائلة المالكة ليس الا لصمود عائلتها، لذلك ستثبت للجميع من هي ابنتة لافرتين!
في أعماق تفكيرها، حين أيقظها صوته منادياً:
- توقف! توقف!
أصوات صهيل وأقدام لأحصنة مهرولة، وصوت يخرج بصعوبة من بين اللهاث:
- توقف!
بدأت العربة بالخفوت، تدريجياً تدريجياً حتى توقفت.
"يا له من صوت آمر، حتى انه استطاع ايقاف العربة بكلمة واحدة!"
فكرت وهي تهم بالنظر من النافذة، إلا أن صاحب العربة ترجل على عجل، ووقف في وجه النافذة ليحجب الرؤية.
- سموك! أرجو أن تتفهم ذلك، لكن صاحب الجلالة منعني من سماحي لك برؤيتها.
- اذا كان الأمر كذلك، فلمَ توقفت؟
- احترامي لسموك منعني من عصيان أوامرك!
- كفاك مجاملة!
صرخ بحنق:
- دعني أراها!
- سيدي!
حافظ على هدوءه:
- لا أعتقد أنها تريد رؤيتك أيضاً.
- أيها الـ ...!
فأمسك مارون سيده مسرعاً، كي لا ينقض على السائق بغضبه، وهتف في محاولة لتهدئته:
- سيدي ... لا يجب ... عليك .... القيام ... سيدي!
صدح صوت باب العربة في الأرجاء، وخرجت نورس اثر دهشة الجميع.
- سيدتي!
خرج صوت السائق راجياً بتلقائية، حين اقتربت من روهان الذي ينتشله مارون في مواجهة لهستيريته، ما ان هدأ في حضرتها حتى أفلته، كانت تنظر إلى الأرض، نظرت إليه بعينين تشعان غضباً، وقبل أن يدرك ما حوله، دوت صوت صفعة على وجهه جعلته متحجراً كالتمثال. تابع مارون والسائق وجهتها نحو العربة عيناهما لا ترمشان من الصدمة، صفعت الباب، فهم السائق مسرعاً، وطار بالعربة على عجل، إلا أن روهان بقي ممتثلاً في مكانه.
- سيدي!
رمشت عيناه أخيراً في أسى، ذبلت ملاحته بحزن شديد، وارتخى كتفيه، ثم هم عائداً أدراجه وسط دهشة مارون وقلقه، ركب روهان حصانه بصمت وأخذ يسير بهدوء، ما إن ركب مارون حصانه وهم نحو سيده القلق:
- سيدي!
حتى ضرب لجام الحصان وهرول مسرعاً كالريح.
...
- سيدتي! لقد وصلنا.
فتح باب العربة وخرج صوته هادئاً بشكل ينم على الشفقة، مضت بضع دقائق قبل أن تخرج أخيراً، وجهها شاحب وعيناها اللوزيتين ذابلتين، أخرج أمتعتها ووضها بجانبها، ثم انحنى مستأذناً، فهزت رأسها بلا اكتراث وهم مغادراً تاركاً إياها تفتح عينيها على البوابة العملاقة المصقولة بالذهب، تطرق نسمات الهواء العليل أجنحة العصافير ثم تلعب بثوبها وشعرها، لتفتح البوابة ببطئ، فتحمل نورس أمتعتها وتدلف، تستوقفها تلك القلعة بفخامتها، شامخة تصل سحابات السماء، بأحجارها الكبيرة العتيقة، ونوافذها العملاقة، نسمة أخرى تضرب وجنتها وثوبها، تعبث بخصلات شعرها بعيداً، بينما تتسمر مكانها بلا حراك، تسري في جسدها قشعريرة فاضحة لسكون المكان ورعبه.
عبرت الطريق الترابي الوحيد المؤدي إلى البوابة، سلالم من الحجر العتيق، مملوءة بنتؤات تخبر بما مضى على هذا المكان من زمن طويل، نسمات الهواء التي تداعب الشجيرات المنتشرة بعبثية على أطراف السلالم تبعث شعوراً من الجلال والوقار، طحالب وبعض النباتات وجدت مستقرها بين السلالم، ما جعلها تسير بحذر شديد من الانزلاق.
وصلت المدخل، بضع دقائق لكنها بدت كدهر، تلفظ أنفاسها بصعوبة، تمسك حلقها من شدة ألم حنجرتها لمفعول الشهيق والزفير، تعود لوعيها بعد بضع دقائق؛ لترى بوابة حديدية أكلها الصدأ بين تلك الجدران التي تنمو عليها الطحالب، وبعض النباتات الممتدة على طولها. أزاحت بعض الأوراق الشائكة، وفتحت الباب، لكنها لم تفلح، فاضطرت لتترك أمتعتها وتدفعه بكل قوتها، حين فتح الباب بكل سلاسة مع صوت صفير خفيف، فتدلف بسرعة البرق وتسقط أرضاً، ليتابعها الحارس بنظراته.
- كان من الأسهل أن تطرقي الباب آنستي!
ثم أشار إلى مزلاق بجانب البوابة يستند على دائرة حديدية بدت حديثة. هم بمساعدتها على النهوض:
- هل أنت على ما يرام؟
هزت رأسها، وهي تلملم شتات نفسها، تتحاشى النظر نحوه من فرط خجلها لشدة غباءها، أدخل أمتعتها نحو العتبة، وقال:
- ان كنت تبحين عن رئيسة مجلس الطلبة فهي في الطابق الأول على اليسار.
فهزت رأسها، وجرت أغراضها على عجل، بينما تابع الحارس النظر في أثرها باستغراب.
...
صعدت السلالم المواجهة لها، سلالم عريضة على متسع الغرفة، وبساط قرمزي على طول السلالم، ثم تصعد سلالم أخرى على جهة اليمين، لتصل إلى دهليزي غارقٍ بالمخمل القرمزي الذي ما ينكفئ يبعث في روحها الدفء. أبواب خشبية من الزان العتيق، ورائحة عطرة من نباتات ليلة القدر، التي تنشر رائحتها مع غروب الشمس، تنتشر على أصصها البيضاء المزخرفة بجانب كل باب.
اقتربت شيئاً فشيئاً، تتقفد الباب تلو الآخر، على كل باب صفحية مذهبة محفورة بكلمات، تنبؤ عن كل غرفة وما فيها، المختبر .. غرفة التجارب ... الحديقة ... ثم رئيسة المجلس! اقتربت من الباب، بدت زهرات التوليب على صفيحتها شيئاً مثيراً للعجب، أخذت تحدق بالزهور لبضع دقائق، لا يوجد حس فني على الاطلاق! طرقت الباب بهدوء، لم يستجب أحد، فطرقته مرة أخرى، لكن ما من مجيب، فهمت تفتح الباب بهدوء، ليطير رذاذ وردي وبخار داكن، يدفعها بعيداً نحو الحائط.
لوهلة شعرت بأنها تفقد وعيها، لكن سرعان ما أخذت تسعل وتستعيد وعيها شيئاً فشيئاً، حين خرج صوت من بين الدخان:
- يا الهي! هل فتح أحدهم الباب؟
خرج صوت آخر:
- هذه التجربة الخامسة على التوالي نتالي!
أخذت تقترب أصواتهما منها، خطواتهما على البساط المخملي تصبح أكثر ثقلاً، حين شعرت بيدٍ رقيقة تقترب منها، تصرخ بذعر:
- رباه نتالي! إنها طالبة!
- يا للمصيبة! هذا آخر ما كنت أخشاه!
أخذت تنادي عليها:
- أيتها الفتاة! أيتها الفتاة! هل أنت بخير؟
- رباه!
أخذت نتالي تحاول سحب الرذاذ بشفاط يدوي، وهي تستنجد، حتى سحب الدخان بالكامل، وعادت نورس إلى وعيها، لتجد فتاة شقراء عيناها كبيرتان زرقاوتان كبحيرة راكدة، لا يفصل بين وجهما بضع انشات، يديها تمسك وجنتيها فتضيع على شفتيها، وصرخت:
- يا فتاة! هل أنت بخير؟
- نتالي!
أبعدت الفتاة الأخرى نتالي عن نورس بقوة، حينها أخذت نورس تتنفس، ثم فتحت شفتيها مبتسمة لتتكلم، إلا أنها سرعان ما تذكرت عدم قدرتها على الكلام، فأمسكت حنجرتها بحزن، حينها صرخت نتالي:
- آآآآه! يا لها من مصيبة كاثرين!
- رباه نتالي، لقد جعلت الفتاة خرساء!
- يا الهي! يا الهي!
ثم مضت تلف حول نفسها وتلوم نفسها، ثم همت نحوها وأخذت تحرك يديها بحركات آلية أشبه بالرقص الآلي، وهي تتمتم ببطئ:
- هل ... أنتِ .. على ... ما!
قاطعتها صفعة كاثرين على رأسها، وصرخت:
- أيتها الغبية، هي فقدت صوتها فقط.
- لكنها لغة البكم أيضاً!
فضربت كاثرين جبهتها بحسرة:
- هل تظنين حقاً أن هذا التهريج هي لغة الصم والبكم!
فهمت نتالي نحو كاثرين بفزع، وهي تهزها بانفعال:
- الأهم من ذلك كاثرين! ... أنقذيـــــــــــــــــني!
- حسناً، حسناً! هذا ما أفعله دائماً.
ثم نظروا كلاهما إلى الفتاة كأنهما لاحظاها لأول مرة، فقزت عليها نتالي، وصرخت متوسلة:
- الأهم من ذلك أن لا تخبري أحداً اتفقنا؟ ها؟ سأفعل أي شيء، سأعيد لك صوتك فلا تقلقي؟ ها؟ الأهم من ذلك أن لا يعرف أحد بذلك!
سحبتها كاثرين بعنف، بينما بدت نورس كالبلهاء لا تفقه شيئاً مما يحدث، حين قالت كاثرين باقتضاب:
- ما دام لديك الوقت لتقلقي على مكانتك أمام الطالبات، فجدي حلاً لتلك الفتاة المسكينة!
- اعرف، أعرف، ها أنا أفكر!
تقلب نورس نظرها بين الفتاتين، لا تعرف ماذا تفعل، حين بدت لها فكرة، بينما بدتا منهمكتان في حل لمشكلتهما، بدأت باخراج أمتعتها، نظرن نحوها بدهشة، أخرجت كراستها، ورسمت عليها، ثم أرتهما إياها. اقتربتا من اللوحة، قالت نتالي باعجاب:
- رباه! رسمها متقن للغاية!
فضربتها كاثرين على رأسها، وتقول:
- إنها تحاول أن تقول شيئاً أيتها الغبية.
لتجحظا من شدة الفزع، نظرتا نحو بعضهما وصرخن بصوت واحد:
- إنها بكماء من الأساس!
صفعت كاثرين وجنتها في حسرة قاتلة، ثم نظرن إلى الفتاة مجدداً، بينما بدت نورس مصعوقة مصدومة مجمدة لا حول لها ولا قوة. علقت كاثرين:
- لا تخبرينني ..
أردفت نتالي:
- أنها الفتاة الجديدة!
فقزن من مكانهما، وأخذت يلتففن حول بعضهما بجنون وهما يصرخن كان جناً لبسهما، اصطدما ببعضهما فتوقفتا نظرتا إلى بعضهما ثم أختا يصرخان، أمسكت كاثرين بنتالي في محاولة لتهدأتها، ثم قالت:
- الأهم من ذلك أن نهدأ!
حاولت نتالي ضبط أنفاسها، أمسكت بكاثرين وهي تلهث، وخرج صوتهاا بصعوبة:
- أجل، أجل!
ثم همتا في مساعدة نورس على النهوض، وجمع أمتعتها، في حين أن وجه نورس المصدوم لم يتغير.
...

2019/07/04 · 421 مشاهدة · 1545 كلمة
بيان
نادي الروايات - 2024