الغرفة التي تجلس فيها نورس مقلوبة رأساً على عقب، وكأن زلزالاً هم بها ودمرها، إضاءتها معتمدة على النور الداخل من النافذة الكبيرة الوحيدة خلف المكتب التي تجلس عليه فتاة عشرينية لا تنكفئ تنظر إلى نورس، تمشي خلفها نتالي ذهاباً وإياباً كبندول الساعة، وتقف كاثرين على طرف المكتب منكمشة في نفسها.
- أنت الفتاة الجديدة اذاً!
سألتها الفتاة الجالسة على المكتب، فهزت نورس رأسها بالايجاب.
- أنت لا تتكلمين؟
بدا سؤالها جازماً أكثر منه استفهماً، فهزت نورس رأسها بالايجاب.
- لم تجبرك نتالي على قول ذلك، أليس كذلك؟
صرخت فيها نتالي:
- صدقاً، لم سأفعل هذا؟
- رباه!
تذمرت:
- كم مرة أخبرتك ألا تقاطعيني وأنا أكلم الفتاة.
امتعض وجه نتالي وعادت تجيء المكان ذهاباً وإياباً في قلق واضح.
- هل لديك أي شيء يمكننا أن نعرف من خلاله من أنت على الأقل؟
بدت كأنها أشعلت في دماغها فكرة، ففتحت حقيبتها الصغيرة، والفتيات ينظرن إلى حركاتها بترقب شديد، بينما أخرجت لفافة بشبرة قرمزية، لتشهق كلا من نتالي وكاثرين بفزع. تناولت الفتاة الهادئة اللفافة، بينما صرخت نتالي:
- رباه كاثرين، جولييت! إنها فتاة من القصر الملكي!
- أجل!
علقت جولييت بعدم اكتراث:
- أنا أرى ذلك!
ليوقظها قفز نتالي باتجاه نورس بغتة، وهمت تمسك يديها، وتهتف:
- رباه! إذاً أنت تعرفين كيف يبدو القصر أليس كذلك؟
لم تستطع نورس أن تخفي نظرة الدهشة التي ارتسمت على وجهها، بينما أردفت نتالي بلا اكتراث:
- لابد أنك ذكية جداً، كيف تكون حياة الطبيب الملكي؟ هل يمكنك أن تعرفيني على أحدهم! آآه بالتأكيد تملكين مكانة مرموقة لتشاركي في الحفلات الملكية! هل قابلت الملك شخصياً!!
واذا بكاثرين تسحبها بسرعة، فصرخت نتالي بانزعاج:
- رباه كاثرين، لم أنهي حديثي معها.
لتذكرها جولييت:
- إنها بكماء نتالي، حتى لو سألتها لن تجيبك!
- آه!
تأوهت نتالي بشيء من خيبة الأمل، ثم نظرت نحو نورس بحزن، حينها تساءلت كاثرين:
- هل هناك هدف بارسال فتاة بكماء إلى أكادميتنا؟
خرج صوت جولييت عميقاً بينما غرق وجهها في اللفافة:
- لا أعتقد ذلك!
نظرتا كلا من كاثرين ونتالي نحوها باستفهام، لتنظر نحوهما بكل ثقة وقالت:
- الفتاة تبدو ذو قيمة كبيرة للقصر، ليعرض الملك شخصياً هذا العرض المغري على الأكاديمية!
- ماذا؟!
هرولن نحوها ليقرأن اللفافة، بينما لسعت في جسد نورس لسعة من السرور تبعث بالقشعريرة.أخذن يتهافتهن:
- رباه! انظرن!
- يبدو أنها أذكى مما كنا نتصور.
- أنت حقاً فتاة سيئة نتالي.
- ماذا! أنا!
- أجل، كيف أمكنك التصرف معها هكذا.
- آه!
ثم هرولت نحوها وأمسكت بيديها مجدداً:
- أنا أعتذر مما بدر مني، هل يمكننا أن نكون صديقتين!
- إيـــــــــه!
هتفتا كلا من كاثرين وجولييت باستنكار، بينما تجمدت نورس مكانها اثر الصدمة التي فطرت قلبها، لتتلعثم جولييت بتوتر:
- نتالي! هل أنت مدركة لما تفعلينه؟
ضحكت كاثرين، وقالت مخاطبة جولييت:
- هذه نتالي كما تعلمين، لا تعرف الحدود على الاطلاق!
صفعت جولييت جبهتها وهي تتحسر، بينما نظرت كاثرين نحو نتالي التي تحادث نورس بكل براءة وهي تمسك يديها، ابتسمت ثم اقتربت منهما لتشاركهما الحديث.
...
سارت نورس عبر الدهليز المؤدي إلى غرف الطالبات، قرأت قصاصة الورق التي معها، خربشات ترسم من خلالها خارطة صغيرة، ثم لمعت في ذهنها صورة نتالي، وهي تهتف بمرح:
- دعينا نلتقي غداً في مختبر الأعشاب، اتفقنا؟!
ابتسمت ابتسامة عذبة، لوهلة شعرت بأنها في مكان مخيف، لكنها حتى الآن استقبلت ثلاث فتيات لطيفات، وها هي تحمل قصاصة ورق تشير بها إلى غرفتها. أبرقت في ذهنها نتالي مرة أخرى:
- بعد أص زهرة الكولونيا، باب من الخشب الأحمر.
لم يكن من الصعب العثور على الغرفة، كونها الوحيدة بباب ذو خشب أحمر، إلا أن ما لفت انتباهها أنها الغرفة الوحيدة التي لا يقابلها باب غرفة أخرى، وإلا فإن ما يقابلها شرفة ذات قبة يسطع منها نور بهيج.
وضعت حاجياتها قبالة الباب، وعبرت الشرفة، النور أعمى بصرها لوهلة، شاشة بيضاء ناصعة، أخذت تتلاشى شيئاً فشيئاً، لتظهر حديقة ساحرة بهية، تتوسطها نافورة من الحجر العتيق حولها ترقص أشجار التفاح وأزهار التوليب على نسمات الهواء العليل، بينما تحيطها مبنى الأكاديمية بحجارته العتيقة، استقرت بعد النباتات الممتدة على جدرانه، في أحد أطراف الحديقة ممر مفتوح ذو أقواس ضخمة، تبعث الشعور بعظمة المكان.
- المعذرة!
أتى الصوت متردداً من خلفها، خافتاً لكنه كفيل بجعلها تقفز من مكانها اثر شرودها، لتجد فتاة ذو شعر كستنائي مموج، قسمات وجهها اللطيفة جعلت منها تبدو كدمية حقيقية تتحرك على أرض الواقع.
- آه! كنت اعتقدت أنك نسيتي أمتعتك قبالة باب غرفتي!
نظرت نورس نحوها بشيء من الارتباك، يدهشها الجمال الذي امامها، لتعود الفتاة وتخاطبها بتردد:
- هل أنت شريكتي في الغرفة؟ سمعت أن هناك طالبة جديدة آتية اليوم ستشاركني الغرفة!
تنبهت إلى القصاصة التي بيدها، وناولتها للفتاة، إلا أن الفتاة بدت مرتبكة لتصرفات نورس، نظرت إلى القصاصة، وابتسمت:
- حركات رئيسة المجلس ليس لها حل!
ثم نظرت إلى الفتاة وقالت:
- أدعى كريستينا! وأنا أدرس في مجال الطب البيطري، تشرفت بمعرفتك!
ومضت نورس عدة ومضات لا تصدق ما التقطته أذناها، ثم أردفت كريستسنا:
- يبدو أنك الوافدة الجديدة!
فهزت راسها بالايجاب بشيء من التردد، لتخرج من الفتاة ضحكة لطيفة خافتة، وقالت بمرح:
- ليس عليك أن تبدي هذه الرسمية، فنحن سنتشارك الكثير من الاشياء من الآن فصاعداً.
ثم همت نحو حقائب نورس المتروكة أمام الباب، وقالت:
- يبدو أنك متعبة من رحلة طويلة إلى هنا، سأساعدك في ترتيب حاجياتك.
بدت نورس تريد أن تصرخ وترفض لطفها هذا، إلا أن صوتها خذلها مرة أخرى، فركضت نحوها لتبتسم كريستسنا في وجهها ابتسامة ودودة،لتجد نفسها منصاعة، تساعدها في حمل الحقائب الأخرى.
دخلتا الغرفة، واسعة، مبهجة بأثاث من خشب ذو لون فاتح، وبعض الألوان المشرقة، نافذتين كبيرتين تدخلان ضوء أشعة الشمس ما يجعلها مشبعة بنورها، سريران وخزانة، ورف لأشياء أخرى، مرآة ومنتضدة كبيرة وبعض الجوارير.
وضعت حقائبها بهدوء على السرير ذو الفرش الوردي، وقالت:
- هذا سيكون سريرك، ثم همت تشرح لها أقسام الغرفة، وأين تضع أشياءها، كما وساعدتها في فرد حاجيتاها في أماكنها، وهي لا تنكفئ عن الحديث المرح، وطرح الطرائف، ثم تساءلت:
- هل أنتِ قليلة الكلام هكذا؟ كم أبغضك، أتمنى أن أتمالك نفسي عن الكلام!
زمت نورس شفتيها بقلق، ثم عزمت أن تمتلك الشجاعة، فنظرت كريستينا إليها بدهشة حين أشارت بكلتا يديها بقوة وكانها تستعد لمواجهة خصم ذو قوة خارقة. ضحكت، حاولت تمالك نفسها، بينما نظرت نورس نحوها بدهشة:
- آسفة، آسفة، هذه وقاحة مني! لكن حركاتك لطيفة!
ومضت نورس عدة ومضات بدهشة شديدة، بينما أخذت كريستينا تمسح دموعها اثر الضحك، ثم أخذت تتساءل:
- ولكن كيف يمكنني مخاطبتك؟ هل ستكتبين؟
شردت نورس في الغرفة، ثم أخرجت كراستها، ورسمت بضع خربشات، ورفعتها نحو بصر كريستسنا لتراها، فهتفت:
- آه! هذا يبدو مثيراً للاهتمام! يبدو أنك تحبين الرسم كثيراً.
فعانقت نورس كراستها وهي تهز رأسها بالايجاب بكل ثقة، فضحكت كريستينا مجدداً، وهتفت مداعبة:
- لكن من يظن أنك ستخاطبنني بالرسم، هل ستخاطبين حبيبك بالرسم أيضاً؟!
أخفضت رأسها بضيق، حينها هتفت كريستينا:
- آه، لا عليكِ، كنت أمازحك فقط!
شعرت أنها جعلت الأمور تبدو أكثر تعيقداً، فقالت بمرح:
- على أية حال، أتطلع لأرى رسوماتك! هل يمكنك أن تخبريني باسمك!
فرجت أساريرها، وهمت ترسم طائر النورس، حينها هتفت كريستينا بمرح:
- رباه! رسمك متقن للغاية!
ثم أخذت تنظر إلى الكراسة باعجاب، متناسية الموضوع الرئيسي، وما إن تنبهت للأمر، حتى هزت راسها، وقالت:
- نورس!
فهزت نورس رأسها بالايجاب بسعادة، حينها ابتسمت كريستينا، وهتفت:
- اسمك جميل حقاً، لنعتمد على بعضنا البعض من الآن فصاعداً.
ومدت يدها مصافحة، لتنظر نحوها نورس بدهشة، ثم مدت يدها بدورها.
...
القاعة فسيحة، مليئة بالأرفف الضخمة، مفتوحة على طبقة أخرى، تبدو كمدرجات لولبية من الأعلى، قمة من الرخام، مزخرفة بنقوشات متقنة، والبلاط الذي زخرف على شكر دائري يحيط القاعة باتساعها، يتمزكز عن بؤرة التقائها مع قمة القبة، أطياف من النور المتراقصة تطفو المكان كسلاسل ذهبية علقت من أعلى القمة حتى الأرض.
نظرت نورس نحوها باعجاب، الجميع منهمك بتجاربه في استخلاص الزيوت من بعض الأعشاب، فهذه تستخلص الزيت من بذور الكتان، وهذه تستخلص العطور من الكولونيا، ابتسمت، حين أيقظها من شرودها قفز مفاجئ على كلتا كتفيها.
- مفاجئة!
هتفت نتالي، نظرت نحوها بدهشة ثم اذا بكاثرين وجولييت يتبعنها.
- رباه!
علقت جولييت بخيبة أمل:
- لا يوجد حل مع هذه الفتاة الطفولية!
توجهت نتالي قبالة نورس، وأخذت تسير تواجه طريقها بظهرها، وهتفت:
- اذا سندرس معاً من الآن فصاعداً.
- هي لم تقل ذلك!
علقت جولييت بلا اكتراث، فقزت نحوها نتالي، وهتفت:
- كفاكي عناداً جولييت، ألست من استقيظ قبل الجميع لتقابلين عزيزتنا نورس.
- تباً لك!
امتعض وجهها، واحمرت وجنتيها، فأخذت نتالي تداعب وجنتيها، بينما وضعت كاثرين كلتا يديها على ثغرها في محاولة لتمالك نفسها. ابتسمت نورس بحياء، هي فعلاً لم تكن تتصور أن حياتها هنا ستتغير للأفضل. حتى قطع مرحهم صراخ احدى الفتيات.
- يا الهي!
نظر جميع من في القاعة باتجاه الصوت، الفتاة ترتجف بينما تضع خلاصة عملية استخلاص الزيوت على الطاولة، الجميع ينظر نحوها بدهشة. صرخت:
- لقد نجحت! حصلنا على الريسين.
صدح صوت الهتاف كموج متلاطم، تصفيق حار، بينما قفزت واحدة من صديقاتها تداعبها بمرح، يظهر على وجوه الجميع الرضا والاعجاب.
- الأهم من ذلك!
صمت الجميع لدى سماعه صوت نتالي الحازم، التي أخذت تقترب من الطاولة، أمسكت العبوة، وقالت:
- أن لا تخرج هذه الأخبار إلى مكان آخر.
ونظرت نحو الجميع بنظرات حادة جلدة، بينما أخذ البعض ينكمش في نفسه، والبعض يعود إلى عمله بهدوء، حين همست كاثرين في أذن نورس:
- نتالي فتاة حازمة بأمور كهذه.
نظرت نورس نحو كاثرين، هزت رأسها وابتسمت، فابتسمت كاثرين بدورها.
- كاثرين!
عادت نتالي نحوهما، بدا على ملامحها الرقيقة القلق:
- علينا أن نعلن عن الأمر حالاً!
- اجل!
وهمتا على عجل، لتجد جولييت نفسها وحيدة مع نورس، نظرت نورس باستفهام نحو جولييت، التي أشاحت وجهها في محاولة لتجنب استفهاماتها، ثم تهربت:
- آه، علي أن أساعدهما.
ثم تركت نورس وحدها، فأخذت تجول المكان، تنظر إلى طاولة تلك الفتاة التي يبدو عليها السعادة الشديدة وهي تحادث صديقاتها، تفكر في نفسها:
"يا لتلك المسكينة! لا تعرف أنهم سيستخدمون تجربتها لأغراض عسكرية شريرة!"
تابعت طريقها، وأخذت تتصفح الكتب في أحد الرفوف، عليها الآن أن تركز على مهمتها، يجب أن تطور الاكسير ليصبح جاهزاُ في وقت قصير. تذكرت والدتها، الدموع التي جعلت عيناها ذابلتين، المرض الذي أنهك جسدها في محاولة لحمايتها، كل ذلك ستضعه نصب أعينها.
...

مرحبا يا جماعة ... اول مرة اكتب شي بعد الفصل هههه
لكن هل يحب القراء الثرثرة التي يكتبها الكاتب بعد الفصول؟

اذا كنتم تفضلون أن أكتي بعض الأسئلة أن تشويقا للفصل القادم

وشكراً ^_^

2019/07/07 · 403 مشاهدة · 1628 كلمة
بيان
نادي الروايات - 2024