رمى دروعه لخادمه، وهم مسرعًا، حين نظر جميع الفرسان حوله نحوه بدهشة كبيرة.
- ترى ما الذي يجعل سموه على عجلة؟
أخذ البعض يتساءل، لكنهم لن يدركوا ذلك إلا حين يكون هناك من ينتظرك، فهو متلهف كل اللهفة بعد هذا اليوم الطويل الشاق إلى رؤيتها، لتنفخ في روحه الحياة من جديد، فما إن وجدها مكانها أسفل شجرة الدراق، ترسم النهر المنعكس بالوان قوس المطر، حتى عادت لقلبه السكينة، وتنهد بارتياح.
- اذًا أنتِ هنا!
علق ممازحًا:
- هل تريدين رؤيتي لتلك الدرجة؟
نظرت نحوه بصدمة، وما إن رأت وجهه الساخر، حتى أشاحت وجهها لتخفي بيدها ضحكة طفيفة، فابتسم ابتسامة عريضة لعفويتها، وجلس بقربها، حين أظهرت نحوه لوحتها، عليها صورة أرنب يجري، وخلفه خطوط ثم قلب، أخذ يحدق في اللوحة متمعنًا، في محاولة لفهم ما تقصده، فكر قليلًا، ثم آخذ يتساءل:
- هل تقصدين أنني آخذ خطوات سريعة باتجاهك؟
فأشاحت وجهها بحياء وزمت شفتيها بتوتر، فضحك بخفة، وقال بمرح:
- لا بأس، سأخفف سرعتي قليلًا.
ثم سألها بهدوء:
- هل يعجبك الأمر هكذا؟
اتجهت نظراتها نحوه ببطء، نظراتها الدائرية التي تبديها كالبلهاء، ووجنتيها التفاحتين، وهزة رأسها للإيجاب، جعله يضحك لاإراديًا. استلقى على الحشائش، وقال مشيرًا بيده:
- تابعي وكأني لست هنا، سأكون هادئًا.
ثم غطا وجهه بذراعيه، وأردف بمرح:
- هاه! أنظري! لن أرى حتى.
فابتسمت، وعادت لرسم لوحتها بهدوء، واستمرا على هذا الحال لبعض الوقت، حتى رفع نفسه بهدوء، وأخذ يتسلل خلفها لينظر إلى اللوحة، لكن أنفاسه لفحت جيدها، ما جعلها تستيقظ لوجوده، فأخفت اللوحة على صدرها، وابتعدت بجسدها عنه، لتجد وأن اللوحة لطخت ثوبها، لم يستطع أن يتمالك ضحكاته، فأخذ يضحك بلا توقف محاولًا إخفاء وجهه، وبقيت هي تنظر إلى حالها بحرج شديد.
أخذت تنظر إلى اللوحة بحزن، فسدت بعد هذه الأيام الطويلة، إلا أنها لاحظت يده تمد نحوها، فنظرت إليه، وقال بشيء من الندم:
- أنا آسف، هلا سمحتِ لي أن أعبر عن أسفي لافسادي لوحتك.
ترددت، أخذت تتنهد بعمق في محاولة لاتخاذ قرار عاجل، ثم استسلمت للأمر ووضعت يدها على يده ليساعدها على النهوض، وسحبها معه بهدوء ولا تزال يدها الصغيرة في كفه. اختبئ خلف حائط عتيق، نظر مليًا، ثم همس لها بان تسرع، عبرا الخيام المتروكة، ثم استند على حائط آخر، وهم يتفقد الطريق، بينما أخذت تتأمل الخيام بفضول شديد، استيقظت على سحبه لها، ثم توجه بها إلى مرج واسع مليء بالأزهار والأشجار المزهرة بألوان مختلفة، يتوسط تلك الجنة من الألوان طريق ترابي ضيق، أخذا يعبرا طريق الأشجار بينما تتأمل ذلك الجمال الآخاذ، تراقب العصافير الملونة التي تقفز من غصن إلى آخر، والنحل الذي يقفز من زهرة إلى زهرة، الفراشات الملونة منثورة في كل مكان، أشعة الشمس اللطيفة التي تداعب الأوراق، فتعكس على الطريق أضواء ملونة بلونها، وكأنها ستائر شفافة تحيط المكان.
سرحت نورس بجمال المكان، حتى أيقظها صوته معلنًا بأنهما وصلا المكان المنشود، كوخ كبير، يتوسط هذا المكان الملون، لوهلة تظنه بيت فاخر، إلا أن طرازه يحترم المكان الذي يقبع فيه، صعدا السلالم القلائل، ووقفا عند الشرفة الخشبية المطلة على المرج، فتح الباب، لتجد نفسها في قاعة خشبية فاخرة مؤثثة بطريقة عصرية من الخشب الفاخر.
توجه نحو منضدة في طرف الغرفة، أزاح المعدات الثقيلة عليه، حك رأسه بقلق، وقال باستحياء:
- المكان ليس مرتبًا بعد، ولكن يمكنك أن تجلسي هنا حتى أعود.
جلست في الفراغ الذي أفسح لها على المنضدة، وهي شاردة تنظر في المكان الذي تقف فيه الآن، أخذ ينظر نحو ما تنظر إليه في دهشة، ثم نظر إليها وابتسم، ثم قال:
- فلنبدل ملابسك الملطخة بالألوان أولاً.
نظرت إلى ثوبها، بالكاد تذكرت الأمر، إلا أنه وقبل أن تلاحظ صعد السلالم المتوجهة للطابق الثاني واختفى بسرعة. جلست بارتباك، وانكمشت، هواجس كثيرة تقلقها الآن، تفكر لوهلة بالهرب، حتى سمعت صوت ضحكة امرأة، لتنزل السلالم يتبعها هو.
- أوه! يا لها من فوضى عارمة.
كانت سيدة في الثلاثين من عمرها، ترتدي زي الخدم الملكي، يبدو أنها إحدى وصيفات أحد أفراد الحاشية الملكية، ما زاد انكماش نورس. اتجهت السيدة نحوها، وابتسمت:
- لا تقلقي يا عزيزتي، ساصلح لك ذلك.
ثم مدت يدها، وقالت بود:
- تعالي معي الآن لنجد لك ثوبًا آخر.
ترددت نورس كثيرًا، وأخذت الكثير من الوقت لتستوعب الأمر، حتى أتى صوته بحنان من عند السلالم، حيث يتكئ على حمايته:
- لا تقلقي، هي هنا لتساعدك.
أمسكت يدها بيد مرتجفة، وأخذتها نحو السلالم، واذا به ينزلها، حين أخذت تقول مداعبة:
- وأنت! إياك ان تتبعنا.
ابتسم، ولم يعلق، لكن وجه نورس غاص في حمرة الخجل، وطأطأت رأسها قدر المستطاع.
...
بدت السيدة منشغلة في تفحص الملابس داخل الخزانة الخشبية التي لا تختلف عن أثاث الغرفة، بينما جلست نورس على إحدى الكراسي الخشبية تتفقد المكان بصمت شديد، حين صرخت السيدة:
- آه! أعتقد أنه هذا يبدو مناسبًا.
أخذت تساعدها في خلع ثوبها الملطخ بالالوان، ومساعدتها على ارتداء الثوب الجديد، ثم سرحت لها شعرها، بينما نورس غارقة في تفكيرها.
"إن كان هذا المكان الذي يسكن فيه .. فلم يوجد ملابس امرأة؟"
هنا تكلمت السيدة:
- بالمناسبة، أنا لارا، أعمل وصيفة هنا، تعلمين المكان مليء بالعمل، ولا يجد المرء وقتًا للاهتمام بنفسه. آه يبدو أنك تعملين هنا أيضًا، لكنك لا ترتدين مثل ملابسنا، هل يا ترى أنت من الدفيئة؟
فنظرت كلتاهما في وجه الأخرى، وجرى صمت خاتق، حينها ضحكت لارا بخفة، وتابعت:
- هيه! سمعت أن الدفيئة كخلية النحل، لا أحد يعلم ما يخبؤه ذلك المكان من أسرار.
ثم شردت في خيالها، وتساءلت:
- أتطلع شوقًا لمعرفة ما يجري داخل ذلك المكان.
هنا ابتعلت نورس ريقها بتوتر، فضحكت لارا، وقالت بمرح:
- لا تهتمي كثيرًا، لن أسألك عن ذلك المكان.
ثم انتهت من تسريح شعرها، واتجهت نحو المرآة لتعطيها إياها وتنظر إلى نفسها، واستطردت:
- انظري، تبدين كأميرة.
ابتسمت نورس بشيء من الضيق، ثم أعادت لها المرآة، واتجهت نحو الباب، وما إن خرجت حتى رسمت على وجه السيدة ابتسامة رقيقة.
حين نزلت السلالم، لم تجد أحدًا، بل وجدت لوحة بيضاء نظيفة، وعدة الرسم على المنضدة، أخذت تحدق فيها بتساؤل شديد، حين وجدت ورقة بجانب إحدى الفرش، ابتسمت، بدت عدة خربشات طريفة، ثم نظرت نحو المعدات بتردد شديد.
"هل سيكون من الجيد أخذها معي؟"
ثم عادت تتساءل:
"لكنه سيكون من السيء أن أتركها هنا، أليس كذلك؟"
أغمضت عينيها، تنفست بعمق، وحملت اللوحة وعدة الرسم، وخرجت من المكان، ليخرج رأسه من خلف السلالم يتابعها بصمت وعلى محياه ابتسامة خافتة. نظرت نحو الكوخ تودعه، ثم همت مسرعة نحو الدفيئة، بالتأكيد هم يفتقدونها الآن.
...

2019/06/08 · 684 مشاهدة · 993 كلمة
بيان
نادي الروايات - 2024