جميع من في الأكاديمية على أهبة الاستعداد لاستقبال ولي العهد، بدا ذلك معتادةً، فما يظهر على الفتيات من حماس أنه معتاد على زيارة هذا المكان بين الحين والآخر. لمع كل حجر من أحجار الأكاديمية، وفرش سجاد جديد، بدا أنه السجاد المستخدم لاستقباله، وتأهبت مجموعة من الفتيات ومجموعة من الشبان بزي موحد أنيق على بوابة الأكاديمية، حين توقفت العربة، وفتح بابها لتخرج هالة مرعبة بينما يظهر الرجل شيئاً فشيئاً، ليقف شاب لا يضاهي جماله شاب آخر، جعلته ملابسه الرسمية المذهبة أكثر شموخاً، ناهيك عن نظرته الحادة الثاقبة التي تشع دهاءً غارقتان في ماضٍ حزين. انحنى الجميع لاستقباله، ورحبت به رئيسة مجلس الطلبة بكل وقار، لم يستطع أحد تمييزها بتلك الملابس الرسمية اللائقة، وتلك الحركات الأرسقراطية المدروسة.
- وصلني تقريرك آنسة نتالي، يبدو أنكم تبلون بلاء حسناً، لذا أردت التأكد بنفسي.
خاطبها بنبرته الهادئة، فأجابته:
- بالتأكيد صاحب السمو، ما زال هناك الكثير لتتفقده.
بينما وقفت كلا من كاثرين وجولييت خلفها بصمت متوتر، ليوجه نظراته نحوهما، فينحينا انحناءة خفيفة.
- يبدو أنكما تعملان بجد أيضاً.
وانحنى برأسه شاكراً، فأشرق وجه كاثرين، وما هم بالانصراف بصحبة نتالي، حتى أمسكت يدا كاثرين وهتفت:
- هل رايتِ ذلك؟
ثم أمسكت وجهها، وأخذت تتأرجح كالولهانة، وهمست:
- كم هذا لطيـــــــــــف!
لم تستطع جولييت أن تمسك ابتسامتها التي ارسمت على وجهها لأول مرة منذ دخول نورس إلى الأكاديمية، ما جعلها تبدو لطيفة هي الأخرى. صفعتها بخفة على مؤخرتها، فقفزت كاثرين من مكانها.
- هيا يا كسولة! لا وقت للسرحان.
- إييه!
صرخت بانزعاج:
- أنت عديمة الرحمة جولييت!!
لكن جولييت سبقتها، رفعت يدها وقالت:
- لن أنتظرك إن لم تلحقي بي.
- جولييت!
صرخت متوسلة وهي تركض لتتبعها.
...
خرجا من آخر معمل، وبهذا انتهت جولته حول الأكاديمية، فخاطبته نتالي بابتسامة لطيفة:
- هل يسمح سموه بكوب شاي في ضيافة مجلس الطلبة؟
ابتسم ابتسامة خافتة، وقال ممازحاً:
- أتمنى فقط أن لا يكون كما كان آخر مرة.
زمت شفتيها بخجل، وتراجعت خطواتها، فاتسعت ابتسامته لتزيده وسامة، وقال بمرح:
- كنت أمازحك!
ثم عاد لجديته:
- بالتأكيد لديكِ ما تطلعينني عليه.
فهزت رأسها بالايجاب، تعلو وجهها ابتسامة خجلة، ثم هما يسيران بينما تصرخ نتالي في نفسها:
"تبا لتينك الكسولتين!! أتمنى أنهما نظفن المكان"
إلا أن سموه توقف عن المسير فجأة وبدا هادئاً، ما جعلها مندهشة، سرعان ما تلاشى هذا الاندهاش لدى رؤيتها نورس وهي في الجهة الأخرى من الممر، يبدو أنها أنهت دراستها في المكتبة وها هي متوجهة نحو المعمل. تجمد مكانه، عيناه مشدودتان نحوها وكأنه لا يرى سواها، ثوان صغيرة وهرع نحوها، أمسك كتفيها بقوة، بينما تجمدت كتمثال حجري، هتف:
- نورس! هذه أنتِ نورس!
إلا أنها سرعان ما فقدت وعيها، وأخذت تسقط من بين يديه كورقة في مهب الريح، فعاد يمسك بها، يناديها بكل قوته:
- نورس! نورس!
...
مستلقية على السرير كأميرة نائمة، وجهها مكفهر مصفر، وشفتيها خالتين من أي لون، وضعت كريستينا على جبهتها قطعة قماش من الماء الدافئ، ثم تنظر نحوها بحزن، حين طرق الباب، فهمت تفتحه، لتدلف منه نتالي:
- كيف حالها؟
فهزت رأسها بالنفي، لتنظر نتالي نحوها، ثم نظرت نحو كريستينا، وخاطبتها:
- أعرف أن ذلك ليس تخصصك، لكن أرجو أن تعتني بها في الوقت الراهن.
- ما الذي تقصدينه؟
فأتى صوت جولييت:
- نتالي، هذا ليس وقت المزاح!
فهمت كريستينا ما ترمي إليه فوراً، فتوترت، إلا أن نتالي ابتسمت برفق وربتت على كتفها وقالت بحنان:
- لا تكترثي لصراخ تلك الفتاة.
نظرت نحوها بدهشة، فهمت نتالي بالانصراف حين قالت:
- ربما يأتي سموه لرؤيتها في المساء، أرجو أن تخبرينا حين تستيقظ.
أغلقت الباب، حين عادت كريستينا إلى فراش نورس، ضربت وجهها برفق، وأخذت تنادي:
- نورس! نورس! عليكِ أن تستيقظي!
لكن عدم استجابتها زادت من قلقها، أبقتها معها طوال النهار.
...
حل المساء، كانت كريستينا منهمكة بقراءة أحد كتب موادها، حين سمعت حركة في فراش نورس، لتهم نحوها، وتنادي:
- نورس!
فتحت عيناها شيئاً فشيئاً، فتحت شفتيها بصعوبة، طرق الباب، ودخلت نتالي يتبعها الأمير، فابتعدت كريستينا عن الفراش، ليتجه الامير نحوها.
- كيف حالها؟
- لقد استيقظت للتو سموك.
إلا أن صوت أنينها جعل الجميع ينظر نحوها بدهشة، كانت تخرج أصواتاً ليست مفهومة، وكانها تحاول باقصى قوتها أن تنادي باسمه:
- نيس ... نيس!
حركت قلوب الجميع، تلألأت عيناه بالدموع وهم نحوها يمسك يديها المرتجفتان المتجهتان نحوه.
- أنا هنا يا عزيزتي! أنا هنا!
أجهشت ببكاء مرير، تخرج أصواتاً وكانها تحاول أن تشرح له معاناتها، فأخذت دموعه تسيل على وجنتيه، شفتيه ترتجفان، قلبه ينبض بقوة، بينما تحرك شفتيها في محاولة لاخراج الكلمات، إلا أنها استسلمت لبكاءها وأخذت تصرخ كطفل صغير، ضمها إليه، وأخذ يربت على راسها، يديها تمسكان معطفه لكنهما أضعف من أن تتمسك به، ترتجفان، وجسدها يبدو هزيلاً لا قوة له إلا أن تستسلم على كتفه تصرخ من شدة الألم.
- نيس ... نيس!
- أجل يا صغيرتي أنا هنا الآن! لم يعد هناك ما تقلقين لأجله.
خرج صوته ضعيفاً، يحشر دموعه في محاولة يائسة ليبدو على ما يرام، طوقها بكل قوته، وكأنها ستكون هذه للحظة الأخيرة التي سيراها مجدداً. بينما غطت كريستينا وجهها بكفيها في محاولة بائسة في إمساك دموعها، و استسلمت كاثرين على كتف جولييت تبكي بحرقة تربت جولييت على ظهرها بحنان.
...
بدت الأجواء في غرفة مجلس الطلبة كئيبة بائسة، يرصعها الحزن، نظرت نتالي نحو جولييت بحذر، توقعت أن توبخها، لكنها هادئة للغاية على غير العادة، وكاثرين في غرفة صغيرة داخل غرفة المجلس مغلقة على نفسها، بينما تنام كريستينا ملقاة على إحدى الأرائك كجثة هامدة.
- من يصدق أنها نامت من البكاء.
علقت جولييت بنبرة خافتة، تنظر نحو كريستينا نظرة عطوفة، فعلقت نتالي:
- إنها هكذا ...
قاطع حديثهما دخول سموه، عيناه محمرتان، لكن وجهه مشرق، وقفتا بتلقائية، فابتسم، أغلق الباب، فسألت:
- هل كل شيء على ما يرام؟
- أجل، لقد غطت في نوم عميق.
ابتسمت نتالي بشيء من العطف والمرح، ثم قال بهدوء:
- أنا ممتن لذلك.
فأخفضت رأسها بخجل، ثم ابتسم وهو شارد في النافذة:
- لم أتصور يوماً أنني سأقابلها مجدداً.
ونظر نحو نتالي، وابتسم لها بامتنان، فابتسمت بلطف وقالت:
- هذا لهو شرف عظيم لي سموك، هذا أقل ما يمكنني فعله لشكرك على انقاذك عائلتي.
فهز رأسه، ثم نظر نحو كريستينا، فقالت نتالي:
- يبدو أن لدينا طفلة آخرى هنا.
فابتسم بحياء، ثم قال:
- هذا لأنكِ أرهقتها.
هم نحوه كريستينا يحملها، ثم نظر نحو نتالي وقال بهدوء:
- أخبرتكِ ألا تورطيها في ذلك.
فابتسمت ابتسامة عريضة ماكرة، وقالت بمرح:
- المعذرة سموك.
- ساستعيرها لبعض الوقت.
وهم منصرفاً، فابتسمت نتالي بمكر، لتتساءل جولييت:
- لا تخبرينني أنك خططت لذلك أيضاً!
- ما الذي تقصدينه؟
نظرت جولييت نحو نتالي بنظرات مؤنبة، فأخذت نتالي تحاول الابتعاد عن نظراتها وكانها لا تعي ما تقوله حقاً، فتنهدت جولييت بخيبة أمل:
- آه! كلاكما ماكر حقاً، أشفق على كريستينا المسكينة!
فلوت نتالي شفتيها بشيء من الاستنكار، وهتفت:
- ماذا؟ ألن تشعر بالفخر لكوني أختها؟!
- آه! فعلاً!
فجلست نتالي على كرسيها مغتاظة، وقالت بدلال:
- ما بال هذه النبرة الجافة!
...

2019/07/25 · 318 مشاهدة · 1086 كلمة
بيان
نادي الروايات - 2024