عم الدفيئة توتر كبير، وفوضى عارمة، حين دخل ذلك الرجل الوسيم إلى المكان، بدا أنه يبحث عن شخص ما، إلا أن الفتيات ارتمين عليه كأنهن يرون رجلًا لأول مرة، ومنهن من اكتفى بالنظر إليه من بعيد، حتى أتت السيدة المسؤولة، كانت تبدو غاضبة جدًا، وأخذت تصرخ في العاملات بقسوة، حتى قابلت الشاب وجهًا لوجه، فأخذ يوجه نظراته بعيدًا، يصفر بلامبالاة وكأنه لم يفعل شيئًا.
- ما الذي يحضر أحد فرسان القصر إلى الدفيئة؟
سالته بلهجة صارمة، فتردد، وأخذ يحك رأسه، حينها تجرأت فتاة وقالت:
- بالتأكيد إنه امر مهم سيدتي.
- أنتِ اصمتي!
فتراجعت الفتاة بحرج، وخرجت ضحكات ساخرة طفيفة.
- عفوًا سيدتي.
علق بهدوء واحترام، لينقذ الموقف:
- أنا ابحث عن شخص ما، كان من المخطط أن أقابله اليوم.
نظرت نحوه بدهشة، ثم نظرت حولها وزمت شفتيها بقلق، ثم قالت بحزم وجدية:
- حسنًا اتبعني!
خرجت أصوات تشير إلى خيبة الأمل، وتبعها الفارس إلى خارج الدفيئة حيث تنفرد بغرفة زجاجية مزينة بالكثير من الأصص المزروعة. جلست على كرسي خشبي أمامه مكتب كبير من الخشب، وعليه معدات كثيرة، عدلت نظاراتها، وعقدت ذراعيها على المكتب، نظرت إليه ثم قالت:
- والآن، كيف اساعدك؟
كان الفارس في تلك الاثناء يتأمل المكان العجيب بإعجاب شديد، حتى ايقظه صوتها، فاعتدل في وقفته، وقال محاولًا إخراج حجة سريعة:
- همم! لا أعرف، خطط أن آخذ شيئًا من سيدة تعمل هنا، ولكن ... يبدو
قاطعته متنبهة:
- آه تقصد الدواء.
فابتسم ابتسامة بلهاء، وقال:
- أجل بالضبط.
بدا عليها القلق، ثم أخذت تبحث بين معداتها، وقالت:
- لكنه أمر غريب، لمَ يطلب صاحب الجلالة ارسال الدواء من فارس مباشرة.
فتنبه لشارته، حينها نزعها بسرعة دون أن تنتبه، واخفاها خلف ظهره، حينها نظرت نحوه من أسفل نظاراتها، فاستمر بالابتسام، وعلق بلامبالاة:
- من يدري كيف يفكر صاحب السمو؟
فزمت شفتيها وهزت رأسها، ثم قالت:
- ربما أنت محق.
ثم نهضت، واستطردت:
- على أية حال، ما دمت أتيت هنا من أجل الدواء بأمر من صاحب الجلالة، فليس باليد حيلة، سأطلب من .. آه
ثم ضربت جبهتها برقة مستذكرة، وأردفت:
- رباه! كلتاهما مريضتان اليوم.
ارتسمت على وجهه علامات القلق، حينها سأل بعفوية:
- مريضتان؟
فأجابت بلاوعي:
- أجل كلاهما، هذا الصباح علقت الابنة في الغرفة المثلجة الخاصة بتجميد الدواء .. آه يا لها من ورطة! هما الوحيدتان اللتان يملكان مفاتيح المخزن.
زادت كلماتها من قلقه، وشعر بقلبه يخرج من مكانه، لكنه تنفس بعمق يسيطر على مشاعره، ثم سال:
- وأين يمكن أن أجدها من فضلك؟
فكرت، ثم وكأن فكرة أتت ببالها، قالت:
- لا بأس ساذهب إليها بنفسي.
- آه ارجوك!
وجد نفسه يصرخ مستنجدًا بلاوعي، فنظرت نحوه بدهشة، حينها تنحنح، وعاد يقول:
- أعني أن لديك أعمال كثيرة اظن، لمَ لا أذهب إليهما بمفردي.
فابتسمت، وقالت بسعادة:
- أنت محق سيدي، أجل كيف لم تخطر ببالي هذه الفكرة.
فابتسم بانتصار، حينها أرشدته لغرفتها، وأعطته ورقة بتوقيعها لتسمح له بأخذ الدواء. حينها خرج محاولًا إبطاء سرعة مشيه حتى لا يبدو عليه التلهف والحماس. وحين وصل غرفتها، شعر بقلق شديد، خاصة حين استذكر كلام السيدة عن الفتاة التي حبست في الغرفة المثلجة، نظر من خلال النافذة، فلم يجد سوا منتضدة ممتلئة بالمعدات وهناك فتحة لباب، ثم جثة ما مغطى بوشاح من الصوف.
"رباه! اذًا هذا حقيقي!"
طرق الباب، ثم عض شفتيه بندم.
"ربما ليس علي أن أطرق الباب بهذه السرعة .. ماذا لو لم تكن هي؟"
وبعد دقائق، فتح الباب، طرق قلبه لدى رؤيتها، وتجمدت مكانها إثر رؤيته، كادت تغلق الباب في وجهه، لكنه وقف عائقًا على إغلاقها، وصرخ:
- انتظري!
مضى الوقت سريعًا، وهما واقفان يحدقان في بعضهما البعض في صمت تام، حينها نظرت نحو الممر، لتسحبه نحو الداخل وتغلق الباب بسرعة، تتكئ على الباب وتتنهد بارتياح، ينظر نحوها ويبتسم، ثم تحدق في الورقة التي يرفرف بها، فتتوسع عيناها الدائرتين أكثر، وتغطي شفتيها لتمنع شهقة دهشة كبيرة، ابتسم بانتصار واقترب منها، حاصرها بوضعه كفيه يستند على الباب، فأخفضت رأسها بخجل، ليهمس:
- اشتاقت لك شجرة الدراق، فقلت آتي إليكِ بنفسي.
فانكمشت، ثم اقترب برأسه ليلمس بجبهته جبهتها، فأحس بها باردة كالثلج، وأردف الهمس:
- سمعت أيضًا أنك مريضة، فأتيت لأعالجك.
ثم ابتسم حين شعر بجبهتها وقد أصبحت ساخنة كالنار، فابعد نفسه عنها وضحك، ثم التفت بعيدًا محاولًا تمالك نفسه، ثم نظر نحوها، وجدها منكمشة بالغطاء الصوفي، وجهها أحمر كالتفاح، بجانب الباب، تفتحه بيد مرتجفة، فابتسم، ثم قال بمرح:
- حاضر، حاضر.
وهم منصرفًا، لتترك يدها المرتجفة الباب، يطرقه الهواء، ثم رفعت يديها على وجنتيها المشتعلتين، وابتسمت ابتسامة عريضة تكشف عن أسنانها.
...

2019/06/08 · 518 مشاهدة · 705 كلمة
بيان
نادي الروايات - 2024