- روهان!
أوقفه مناداتها وهو يسير عبر الممر المذهب، التفت اليها، وهي تركض نحوه.
- سمو الأميرة!
ما ان اقتربت منه، حتى تلفظت أنفاسها، واعترضت:
- رباه! كيف تنادني هكذا هنا؟! هل أنت أحمق؟
ابتسم، وأجاب ساخرًا:
- لا، أنا روهان!
ضربته بقبضتها، ثم ابتسمت، فسأل:
- أنت لم تأت لتسألي عنه مجددًا، أليس كذلك؟
تراجعت في استحياء، فنظر إليها في دهشة وضجر، حينها قالت:
- الواقع، أتيت لأتحدث كأختك هذه المرة.
- ما الأمر؟
- الاشاعات حول تجنبك لمجلس الفرسان الذهبي آخذ بالانتشار، لذا قلت أنه من واجبي أن أنبهك حول الأمر.
ابتسم بلطف، ثم ربت على رأسها، وقال بود:
- لا داعي للقلق يا عزيزتي، حتى يكون هناك حاجة لذلك، سأحضر بالتأكيد.
- لكنك تعلم بالأحداث الجديدة، أليس كذلك؟
بدا عليه الاستياء، لتتراجع وتقول مشجعة:
- تعرف! والدنا يعتمد عليك كثيرًا، وهذا كله لا ينبع إلا من ثقته بك.
نظر إلى عيناها البراقتين، لطالما تحدث الجميع عن عينا أخته الساحرتين، ولونهما الياقوتي الآخاذ، بدتا أمامه متلألأتين بوداعة، فابتسم لمسايرتها، إلا أن ذلك لم يغب عنها، فلطالما القلق والارتياب ما كان يحشو رأسها، وحين تحولت نظراتها إلى جادة قارصة، أخفض رأسه وهو يتنهد بالاستسلام، ثم رفع رأسه، وقال بلطف:
- هل يمكنني أن أتصرف كأخ أيضًا هذه المرة؟
فبدا على وجهها الاستفهام، وأردف:
- هلا خففت حمل رأسك قليلًا يا عزيزتي، سوف تكبرين بسرعة.
اتسعت عيناها من الصدمة، فربت على رأسها، وهم منصرفًا، تاركًا إياها في شرودها.
...
دخلت الوصيفة الشابة الغرفة، وهي تحمل قطع الملابس، واذا بها ترمي بها أرضًا، وتصرخ من الفزع:
- سيدتي!!
وتهم نحو سيدتها المخمورة على الطاولة، وجهها شاحب، ووجنتاها حمراوتان، وأمامها قارورتين فارغتين تماماً.
- رباه! سيدتي!
علقت الوصيفة متذمرة:
- عليكِ الالتزام بالجرعة المطلوبة! لم لا تستمعين إلينا؟!
لكنها أخذت تترنح كالسكارى، وتثرثر بكلمات مبهمة، ثم همت تقف إلا أن قدميها لم يستطيعا حملها، فأمسكت بها وصيفتها بسرعة.
- سيدتي!
- آه!
ثم أخذت بها إلى سريرها، وهمت تسكب لها الماء، إلا أنها نظرت إلى الكوب بعينيها شبه المفتوحتين، وأزاحت الكوب من أمامها.
- سيدتي!
أخذت تتوسل لها:
- ماذا سيحصل إن أخذت جرعة أكبر، هل تنوين الانتحار؟
- اصمتي!
خرج صوتها شبه نائم:
- أرسلي لي بابني.
- سيدتي!
عادت تتوسل لها:
- هل تريدين أن يقابلك سموه لوكاس وأنت بهذه الحالة؟
- لا يهم!
عادت تخرج صوتها الناعس بصعوبة، وهي تترنح:
- أرسلي لي به.
- آه!
تنهدت وصيفتها بنفاذ صبر وشفقة، لحسن حظها، أتى الطبيب مسرعاً وخلفه إحدى الوصيفات الأخريات.
أشرق وجه الوصيفة التي تبذل جهدها لمجاراة سيدتها، وهتفت:
- لارا، أيها الطبيب!
فأجابتها لارا:
- سمعت جلبة هنا، فقلت أن سموها فعلتها مجدداً.
- آه!
تنهد الطبيب وهو يفرد عدته:
- من حسن حظها أنها أدوية عشبية، وإلا لأصبحت في حالة يرثى لها.
- سيدي الطبيب!
أخذت تسأل الوصيفة الشابة:
- ماذا سنفعل الآن؟
بعد أن فحص نبضها، نظر إليهما، وقال:
- علينا إخبار جلالته أولاً، أقترح أن نمنعها من الدواء لفترة من الوقت.
- لكنها ستعود لحالتها السابقة!
علقت لارا، فنظر الطبيب إلى سمو الأميرة، التي تبتسم كالبلهاء، وقال برصانة:
- وهل حالتها الآن أفضل؟
فرفعت ذراعيها، وخرج صوتها ناعساً، وقالت ببلاهة:
- أحضروا لي ابني!
- مسكينة!
علقت الوصيفة الشابة تخاطب لارا:
- تظن أنه رضيع الآن!
فنظرت نحوها بدهشة وقالت بانفعال:
- أحقًا هذا؟!
- أجل، فبعد خسارته في المبارزة الأخيرة، وسحب لقبه الأخير، أصبحت تناديه كل ليلة.
بدا أن الطبيب يواجه موقفًا صعباً، فها هي تشد قميصه وتصرخ ببلاهة:
- قلت لكم أحضروه!
فهمت الوصيفة الشابة تهدئ من روعها:
- لا تقلقِ سموك، سنحضر لك إياه قريباً
- هل هذا صحيح؟
وفي ثوان، ارتمى جسدها على الفراش، وغطت في نوم عميق.
علقت لارا:
- علينا أن نحضر أنفسنا للأسوء الآن، فجلالته لن يصمت على هذا.
فبدا على ثلاثتهم الارتباك الشديد.
...
- حسناً، اصطفوا جميعاً
أخذت المسؤولة في الدفيئة تنادي:
- لدي أمرٌ مهم.
تجمعت جميع الفتيات حولها، حين أخذت تقول:
- القصر الملكي بحاجة إلى طبيبة أعشاب، لتشرف على نظام الأدوية الخاص بسمو الأميرة فينا.
حدثت جلبة كبيرة، وثرثرة من كل الاتجاهات، فأخذت تصفق ليهدأ الجميع:
- هدوء!!
فساد الصمت، فاستطردت:
- أعرف أن الجميع يتساءل حول هذا الأمر، ولكنهم بحاجة إلى فتاة ذكية تستطيع أن تساير سمو الأميرة، وفي نفس الوقت أن تعطيها أدويتها في الوقت المخصص لها بجرعاتها المطلوبة، لأن أحداً لم يستطع تنظيم ذلك لها حتى الآن، وهي خارج السيطرة.
- مسكينة!
- من هذا الذي يفعل ذلك؟
- القصر الملكي؟! هذا جنون!
- أنا لن أخاطر بنفسي لفعل ذلك!
- سمو الأميرة! هذا يعني أن الخطأ يفقدك حياتك، أليس كذلك؟
انزعجت المسؤولة من ردات فعلهن، وحاولت تمالك نفسها، حين بدأت الهمهمات تتجه نحو منحنى مختلف:
- لم لا ترسل نورس؟
- أجل صحيح؟
- ستخطئ ويقطعون رأسها. (ضحك)
- كفى!
صرخت المسؤولة!
فتنبه الجميع، حينها علقت:
- لا يمكنني إرسال نورس، فهي المسؤولة عن أدوية الفرسان، ولا أحد يمكن أن يأخذ مكانها.
فبدا على الجميع الاستياء. حينها نظرت إلى السيدة مروة، وقالت:
- ما رأيك يا سيدة مروة؟
بدا عليها الارتباك، حين قالت:
- آه! أجل أنت محقة!
رمقتها بنظرة ازدراء، ثم قالت بحزم:
- سنقيم مسابقة، والخاسرة هي من ستذهب إلى القصر.
هتف الجميع بدهشة:
- إييييييييييه!
فابتسمت بمكر وقالت بشيء من السخرية:
- لأنني أعرف بما تخططون إليه حين أقول الفائزة، سيتعمد الجميع الخسارة!
تفتحت عيون الجميع من الصدمة، حين أردفت:
- هكذا سيكون عليكن بذل جهد مضاعف لتحافظن على مكانكن في الترشيح.
أخذت أصوات الاعتراض تتعالى، حين أخذت تصفق بيديها:
- هدوووء!
فعم الصمت، وأردفت:
- لا أريد أي اعتراضات، لقد تقرر الأمر، ومع بداية الغد سأعلن اسماء المرشحات.
ثم صفقت مجددًا:
- هيا عودو جميعًا إلى أعمالكن.
وتفرق الجميع، وهالة الاستياء تعم المكان.
...
في مكتب الفارس روهان، يجلس هناك حيث يقوم بعمله، يساعده مساعده مارون، حين وقف فجأة وأخذ يسأله:
- بالمناسبة مارون!
فالتفت إليه الأخير، حيث يقوم بترتيب الكتب في مكانها، وعلى وجهه علامات الاستفهام:
- هل تعرف فتاة بكماء في خلية النحل؟
بدت عليه الدهشة، فسأل مستفسرًا:
- تقصد الدفيئة سيدي.
- أجل.
ثم تابعا عملهما، حين أخذ مارون يقول مستغربًا:
- من العجيب أن تسأل عن شخص كهذا، هل الفتاة تهمك مولاي؟
- آه! أنا فقط كنت أتسائل عن وجودها.
بدا على مارون التركيز، فقال موضحاً:
- على الأغلب هي من عائلة "لافرتين"، هذه العائلة تملك تاريخاً أسوداً، لكنها العائلة الوحيدة التي أعادت العائلة المالكة على قدميها من جديد أيام أولى خلافتها، رغم كون أفرادها يتوارثون دراسة طب الأعشاب وما شابه ذلك، إلا أنها من يحفظ سر ذلك الدواء الذي تشربه وقت الحروب.
ثم نظر مارون إلى السقف، وقال بصوت عميق:
- إنها حقًا خدمت العائلة المالكة لعدة سنوات، ولها نفوذ قوي جداً.
بدا روهان شارداً وهو منشغل بأوراق العمل، فنظر إليه مارون متعجباً، حين خرج صوت روهان غامضاً:
- أتقصد ذلك الدواء الذي يمنحنا القوة، وتشعر أنك لا تقهر!
- أجل سموك، بفضله يملك الفارس أضعاف قوته، مما يجعله لا يقهر.
- فهمت!
ثم نظر إليه، وسأل:
- إذاً ماذا بشأن تاريخهم الأسود، كيف تضع العائلة المالكة عائلة بهذه الخطورة إلى جانبها.
حك مارون رأسه ببلاهة، وقال متردداً:
- حسناً، ليس وكأنها تقوم بأعمال غير قانونية أو ما شابه.
ثم نظر إلى سيده بجدية، وقال بنبرة هادئة غامضة:
- لكن قوانين العائلة صارمة جداً في الداخل، لا يمكن لأحد أن يحيد عن مسارها.
- تقصد طب الأعشاب!
ثم خرج صوت مارون عميقًا بشكل مخيف:
- كما سمعت أنهم يسقون أطفالهم سماً يفجر حناجرهم، قبل أن يتعلموا وصفة الدواء السحري ذاك لكي يبقى قيد الكتمان.
توسعت عينا روهان من الذعر، وتجمد مكانه، شعر بشعر رأسه يرتجف من الرعب.
...
- عودة إلى الوراء -
القمر في تلك الليلة، ساطع حد الانفجار، وكأنه يتحدى الظلام الحالك، لم يكن حينها أي نجوم، سماء سوداء فارغة تمامًا، غيوم داكنة تحوم في الأرجاء، وحده ذلك الضوء القمري أدخل القليل من التفاصيل إلى تلك الغرفة المهترئة، تتمدد طفلة صغيرة، بجانبها سيدة شابة رقيقة، تمسك بكأس يحمل بداخله سائل غريب، أخضر طحلبي، تخرج منه فقاعات الهواء، تتمدد تتمدد ثم تنفجر، بينما انعكاس تلك الفقاعات في عيني الطفلة، تحشر دموعها.
ناولتها السيدة الكأس، وهمست:
- اشربيه دفعة واحدة يا صغيرتي!
ابتعلت الفتاة بملئ ريقها، ثم شعرت بحرقة تدخل حلقها، عيناها كادتا تنفجران من انتفاخها، شرايينها بدأت بالبروز، وعنقها أخذ يضمحل، لتبرز أعصابها الزرقاء. كسر الصمت صوت تمزق داخل عنقها النحيل، تبعه صراخها، شق طبقات السماء، ثم ارتمت على السرير كالجثة الهامدة، وجهها شاحب ميت، وقطرات العرق تكاد تخنقها.
طبعت السيدة قبلة رقيقة على جبهة الطفلة، لتلسع وجهها بدموعها، وهمست:
- هذا من أجل مستقبلك يا صغيرتي! ...
ثم ربتت على رأسها، وقبلتها مجددًا:
- سامحيني يا صغيرتي!
...

2019/06/09 · 515 مشاهدة · 1360 كلمة
بيان
نادي الروايات - 2024