في عالم غريبٍ حيث كل المفاهيم مختلفة عن المألوف، يعيش الناس حياة مليئة بالنشاط والحيوية وفي سباق دائم لِصناعة الأمجاد وكسب الثروات، لكن الأمجاد لا يُمكن حصدها بدون مُقوّمات، وكل شخص يعتمد على حظه الذي قد يمنحه المجد أو الموت على حد سواء.

اجتمع مجموعة من طلاب الفنون القتالية في مدينة تاريخية عُمرها أكثر من مائة ألف عام، هدفُهم السعي لاكتساب الخِبرة تحت رعاية معلّمتهم الجميلة والتي تُُعتبر مِن أقوى شيوخ عشيرتهم، ومع أن عُمرها يتجاوز خمسمائة سنة إلا أنها تبدو في منتصف الثلاثينات من عمرها، وذلك لأن فنون القتال تساعد على الحفاظ على الشباب كلما زاد تدريب الشخص، لكن هذا يعتمد أيضا على نوع التقنيات التي يمارسها المتدرّب ومدى خِبرته بأسرار الجسد البشري.

رافقت المعلّمة الجميلة ثلاثين من طلابها والذين تتراوح أعمارهم بين عشر سنوات وثلاثين سنة أغلبهم من الذكور، لكن البارز فيهم كان شاباً في الخامسة عشر من عمره، ويبدو أقوى الطلاب الحاضرين بسبب موهبته الخارقة مقارنة بأقرانه، وهذا جعلَه لا يكاد يُخفي غروره وغطرسته وهو يحتكر جانب الإناث لوحده تحت نظرات الحسد من زملائه الطلاب الآخرين.

"بالطبع.. أستطيع هزيمة أي يافع في خطوة واحدة فقط، لا.. بل في نصف خطوة، ألم تكوني حاضرة أثناء النزال قبل شهرين ؟"

قال الشاب المغرور بنبرة مليئة بالاستكبار، احمرّ وجه الفتاة الصغيرة وهي تنظر إليه ولا تدري إن كان هذا تبجحاً أم أنه فقط يريد التقرّب إليها رغم أن عمرها لا يزال في العاشرة، فهي وافدة جديدة على العشيرة ولم تحضر النزالات التي تحدث كل نصف سنة.

مهما نظرَت في الشاب المغرور تجد أن نواياه ليست سليمة، خاصة أنه موهوب من حيث الشكل أيضاً ويكاد يُعتبر من أوسم الرجال الذين شاهدتهم في فترة حياتها القصيرة، له شعر ذهبي طويل وعينين واسعتين باللون الذهبي مع رموش طويلة، حتى أنه يكاد ينافس النساء في الجمال، لذلك كانت حريصة منه بغريزتها لأنها هي أيضاً جميلة رغم صِغر سنّها حيث لديها شعر ناعم باللون الأحمر القاني مع شفتين عسليّتين وجسم رشيقٍ مع نهدين بارزين نسبياً بالنظر إلى عمرها.

أجابت الفتاة الصغيرة بتردّد "أنـ.. سـ.. سيد شوفين، أنـ.. أنا وافدة جديدة، لقـ.. لقد وُلِدت قبل شهر فقط ولا أعلم الكثير"

يولد الناس في هذا العالم وعمرهم عشر سنوات، منهم من يولد عبر طلب مسبق يتمّ تقديمه من زوجين أو عشيرة أو أي مؤسسة ترغب بالحصول على أبناء، بينما هناك من يولدون بطريقة عشوائية دون طلب، وهؤلاء ستكون مسيرتهم أكثر شقاء لأنهم سيعيشون حياة التشرّد ولن يجدوا من يهتمّ بهم ما لم يُُظهروا مواهب تجذب الأنظار.

في هذا العالم.. تُعتبر الممارسات الجنسية مجرد نشاط ترفيهي أو تدريبي ولا يمكن أن ينتج عنه أي شكل من أشكال الحياة، أما مَن يريد الحصول على طفل فعليه أن يقدّم طلبا لـ "الآلهة" التي ترعى هذا العالم مع كمية كبيرة من الموارد، وكلما زادت كمية الموارد زادت فرص الحصول على طفل بجسدٍ موهوب وقوي، لكنّ العملية تأخذ وقتا طويلاً وأحيانا لا يتم تسليم الطفل نهائياً، لذلك تُعتبر المسألة مقامرة بدون ضمانات، خاصةً أن كثيراً من المولودين الجدد لا يتقبّلون حياتهم ويتعرّضون للإصابات النفسية والجسدية، ما يجعل حياتهم صعبة في مثل هذا العالم التنافسي.

بسبب ما سبق.. صار من المألوف السماع عن المقاتلين المجانين والذين يعيثون في الأرض فساداً ويعيشون حياة التشرّد، وهؤلاء يُسمّون في الغالب بالمقاتلين الشيطانيّين، أتباع الطريق الشيطاني أو الشياطين، حيث لا هَمّ لهم سوى إشباع رغباتهم الشيطانية والتي تختلف من شخص لآخر حسب طريقة تفكيرهم الشاذّة.

ضحكت المعلّمة على الفتاة الصغيرة ثم نظرت إلى شوفين بنظرة حازمة قبل أن تقول "لا تكن مغرورا يا شوفين، عشيرتنا في المراتب الأخيرة من بين العشائر الخمسين في دولة روسكيا، ودولتنا في المراتب الأخيرة في تحالف جزر سمهريا، وتحالف جزر سمهريا لا يستطيع حتى أن يطأ اليابسة من القارة العظمى"

صمتت قليلاً ثم أكملت "أنت لا تستطيع حتى التغلّب على بعض عباقرة عشيرتنا، فهل تعتقد حقاً أنك قوي إلى درجة مقارنتِك بِمولود حديث في القارة العظمى ؟"

طأطأ شوفين رأسَه لبعض الوقت قبل أن يرفعه ويقول بحماس "أنا عازم على اكتساح باقي العشائر في أقل من مائة عام، وحينها سأبدأ العمل على اكتساح باقي الدول في أقل من ألف سنة هاهاهاهاهاها"

وأكمل حديثه بضحكة طويلة جعلت الجميع يشمئزّون منه، ولولا أنه فخر معلّمتهم لأبرحوه ضرباً، فعلى الرغم من أنه قد تجاوز بالفعل مستوى بناء العظام ووصل إلى مستوى توفير الدم، إلا أنهم يستطيعون التغلّب عليه إذا جمعوا قواتهم معاًً.

ينقسم عالم التدريب إلى العديد من المراحل الكبرى والصغرى، حيث المراحل الكبرى هي: تعزيز الجسد، تقوية الروح، تهئية الوعاء، وكل مرحلة كبرى تحتوي مراحل صغرى مثل مرحلة تعزيز الجسد التي تتكون من تقوية اللحم، بناء العظم وتوفير الدم، وفي عشيرةٍ مثل عشيرة القمر الأحمر والتي تُعتبر الأضعف بين العشائر الخمسين في دولة روسكيا.. لا تكاد تجد فيها من يتجاوز مرحلة تقوية الروح، إلا الرئيس وبعض الشيوخ الذين يُعتبرون في المراحل الأولى من تهئية الوعاء ومنهم المعلّمة التي رافقت طلابها اليوم في هذه الرحلة الميدانية حيث بدأت تهئية الوعاء قبل أقل من سنة.

شعر شوفين بنظرة باردة من المعلّمة فتوقّف عن الضحك وطأطأ رأسه ثم قال بصوتٍ محترم "بالتأكيد، سأحتاج إلى إرشاداتك، معلّمة راموليا"

حصلت المعلّمة راموليا على شوفين بالصدفة أثناء إحدى جولاتِها حيث كان مجرّد طفل مشرّد، أعادَته معها إلى العشيرة ثم اتّخذته تلميذاًً واعتنت بِه جيداً، لكنها لم تُفلِح في تعليمه التواضع لأنه كان موهوباً وقوياً أكثر من أي يافع آخر، لذلك أخذَته اليوم في هذه الرحلة لعلّه يتعلّم بعض الأمور وأن الحياة ليست سهلة مثلما يعتقِد، وهدفُهم من الرحلة هو أرض المؤسسين حيث يقال أن مؤسسي هذا العالم هُم من بنوا تلك المدن القديمة والتي لا تزال آثارها مبهرة للعالم الحديث.

كانت المعلّمة راموليا تجري بسرعة بطيئة حتى يلحق بها طلابها الجدد الذين لا يملكون الكثير من القدرات، وممّا يبدو فهي تعرف الطريق جيداً وكأنها كانت هنا لمرّات لا تُحصى، أومأت لطالبها -شوفين- الذي تصنّع التواضع ثم أكملت طريقها وهي تنظر إلى الطفلة الصغيرة التي التحقت بهم قبل شهر واحد فقط ومع ذلك أظهرت قدرة تحمّلٍ غير مألوفة، وهذا جعلها سعيدة لحصولها على تلميذة موهوبة أخرى مع أنها حصلت عليها بالقُرعة عند استلام العشيرة للمولودين الجُدد الذين كانوا قد طلبوهم من "الآلهة" قبل أكثر من عشرين سنة.

تزيد فترة استلام المولودين حسب الموارد المدفوعة، وكلما دفعت أكثر كلما زادت الفترة، وذلك لأن بناء جسد موهوب باستخدام الموارد المدفوعة قد يأخذ الكثير من الوقت، ناهيك عن مشكلة أخرى وهي مكان التسليم حيث يكون - في الغالب- مكاناً عشوائياً قريبا من المكان المحدّد في الطلب، وهذا قد يجعل قواتٍ أخرى تستولي على المولود الجديد قبل أن يصل إليه أصحابه، كما أن المواليد عُمرهم عشر سنوات ويستطيعون التفكير، لذلك قد يتصرّفون لوحدهم بمجرد ولادتهم، خاصة إذا كانوا من ذوي المهارات والمواهب والذين يستطيعون الاعتماد على أنفسهم، لذلك يضيع المواليد في كثير من الأحيان ولا يصلون إلى مَن طلبهم.

استمرّت الرحلة لأكثر من نصف يومٍ قبل أن تتوقّف المعلّمة راموليا وتقول "نحن على مشارف أكبر مدن المؤسسين، وهي منطقة لا تنتمي لأحد، ما يعني أننا قد نلتقي بطلاب العشائر الأخرى أو حتى ببعض المشرّدين، لذلك أريدكم أن تنتبهوا إلى تصرّفاتكم جيداًً ولا تفعلوا أي شيءٍ بدون إذني"

نظرت إلى شوفين وهي تقول هذا وكأنها تُحذّره من التصرّف، لكن.. وقبل أن يردّ عليها.. تغيّرت ملامِحها وصرخت على الجميع "احذروا !!"

ارتجف الطلاب والتفوا حول بعضهم البعض قبل أن تبدأ شخصيات بالأسود بالظهور من العدم وتُحيطَهم من كل جانب، ومِن حركاتهم.. عرفت المعلمة راموليا بأنهم أقوياء جداً وفي الغالب أنهم ليسوا من دولة روسكيا، بل ربما لا يكونون أصلاً من جزر سمهريا، وبرؤية أنهم مُحاطين.. صرخت عليهم بقوّة "نحن من عشيرة القمر الأحمر وتحت حماية دولة روسكيا، من أنتم وماذا تريدون منا ؟"

تقدّم يافع من الرجال السود وتبدوا ملابسه مختلفة عن الآخرين قليلاً، ومع أنه يخفي ملامحه إلا أن عُمره في الغالب لا يتجاوز العشرين، ما يعني بأنه أحد العباقرة الموهوبين لأن هالته كانت توحي بأنه في المرحلة المتوسطة من تهئية الوعاء، أي أنه أقوى من المعلمة راموليا التي عاشت عشرات الأضعاف مِما عاشه هو، تقدّم الشاب وقال بنبرة مُتعالية "نحن لا نهتمّ بالقمامة، تعالوا معنا إذا كُنتم تريدون الحياة"

عبس الجمع عند سماع هذا وتصاعدت هالة شوفين واستعدّ للقتال، إلا أن المعلمة راموليا وضعت يدها على كتفه وأثقلَته حتى صار لا يستطيع الحركة، وعندما نظر إليها رأى على وجهِها نظرة الخوف لأول مرة، حينها فقط علِم بأن عدوّهم أقوى منهم وليس أمامهم غير الطاعة.

أومأ الشاب بالأسود نحو بعض رجاله فرافقوا المعلمة راموليا وطلابها بينما انصرف هو مع باقي رجاله، ومع أن مرافقيهم كانوا أربعة فقط إلا أنهم كانوا جميعاً في المرحلة المتقدّمة من تهئية الوعاء، وهذه المرحلة لا يصل إليها أحد في دولة روسكيا إلا في القصر الحاكم والعشائر الثلاث الأقوى.

بعد نصف ساعة مِن المشي.. بدأت تظهر مجموعات أخرى من الرهائن مِن بعض العشائر القريبة، وهذا جعل الجميع يزدادون خوفاً كون عدوهم المجهول قوياً لدرجة ازدراء العديد من العشائر دون خوفٍ من الانتقام.

في آخر اليوم.. كان عدد الرهائن بالمئات، ورغم تفوّقهم في الأعداد إلا أن كِبارهم مثل المعلمة راموليا قد أذعنوا للأمر الواقع ولم يفكّروا في الهرب بسبب ظهور عدة أشخاصٍ أقوياء أكثر من السابقين، ما يعني بأن غرضهم أكبر من المتوقّع، وربما يكونون من القارة العظمى والتي تَعتبر سكان الجزر مجرد حشرات، لذلك لم يتجرؤوا حتى أن يسألوهم عن هويتهم، خاصة بعد رؤية مجموعات من الجثث المسحوقة والمحروقة هنا وهناك، ما يعني بأن أي شخص يُعارِضهم سيكون مصيرُه الموت سحقاً وحرقاً.

بين الرهائن.. اقترب شيخ كبير من المعلمة راموليا وقال بِنبرة مهزومة "وقع القمر الأحمر أيضاً ؟"

التفتَت إليه المعلمة راموليا وقالت بيأس "سيد بولاتو، هل تعلم من يكونون ؟"

كان بولاتو شيخاً في إحدى العشائر القريبة مِن عشيرة القمر الأحمر، وكان في مهمة استطلاعية مع بعض مقاتلي عشيرته بعد تلقيهم أخباراً عن اقتراب مجموعة من الأجانب من حدود عشيرتهم، وبعد تتبع الآثار وصلوا إلى أرض المؤسسين ووقعوا في قبضة الغرباء باللباس الأسود.

تنهّد بولاتو قبل أن يقول "لا أعلم، لكني لا أظنّهم من جزر سمهريا، أتمنى فقط ألا يقتلونا"

عبست المعلمة راموليا لوقتٍ طويل قبل أن تنظر حولها وتقول "أليس هناك فرصة للقتال ؟"

هزّ بولاتو رأسه جانبياً قبل أن ينهاها عن التفكير في القيام بأي شيءٍ لأنه سبق ورآهم يقتلون بعض الأقوياء وكأنهم يلعبون.

تدخّل شوفين الذي كان يسمعهما وقال "ألا نستطيع الهرب إذا استغلَلنا الظلام ؟"

ابتسمت المعلمة راموليا بعجزٍ قبل أن تقول لِتلاميذها بِحسرة "للأسف.. لا فرق بين النهار والليل بعد تجاوز مستوى تقوية الروح، وأغلب هؤلاء من مستوى تهئية الوعاء، لذلك ليس بإمكاننا فعل أي شيء، لا تتهوّروا.. فربما لا يخططون لِقتلنا"

ومباشرة بعد انتهاء حديثها.. ظهرت زوبعة عظيمة من العدم وخرج منها رجل أربعيني أسود الشعر وأطلق جسدُه هالة خانقة جعلت متدربي تهئية الوعاء يشعرون وكأنهم يحملون أثقالاً لا تُحتمل، أما مَن دونهم مثل شوفين فقد سقطوا جميعاً على الأرض وانقطع تنفّسهم تقريباًً، وفي المقابل.. ركع جميع الرجال بالملابس السوداء وانتظروا الأوامر من قائدهم.

تقدّم الأربعيني نحو الرهائن ويبدو بأنه غير راضٍ بعض الشيء عن عددِهم القليل، لكنّه لا يريد تضييع المزيد من الوقت في جمع عددٍ أكبر من الرهائن، لذلك أشار إلى أتباعه فقاموا وساقوا الرهائن وكأنهم مجموعة من البهائم التي لا حول لها ولا قوة حتى وصلوا بها إلى جدارٍ صخري عملاق يسنِد جبلاً عظيماً مليئاً بالنباتات البرّية، تقدّم الأربعيني نحو الجدار ووضع يده عليه ثم ضخّ بعض طاقتِه الداخليه فانفجر الجدار وظهر كهفٌ عظيم، سحب يده وجعل طاقتَه عبارة عن عاصفة صغيرة مشتعلة بالنار ثم ضخّها في مدخل الكهف فصار كل شيء واضحاً أمامه، وما جعل الأمر مخيفاً أكثر هو أن الكهف لا تبدو له نهاية.

يعتمد التدريب في هذا العالم على استيعاب الطاقات الطبيعية، وتنقسم هذه الطاقات إلى أنواعٍ كثيرة، لكن المثير في الأمر هو أن جسد الشخص لا يستطيع استخدام العديد من الطاقات معاً، ومّما يبدو فإن الأربعيني يستخدم طاقتين في نفس الوقت، وهما الرياح والنار، ما يعني بأنه موهوب جداً ويستطيع هزيمة حتى من يفوقونه في التدريب.

ابتسم الأربعيني بسعادة ثم قال "يبدو أن الإشاعات حقيقية، استعدّوا جميعاًً لمواجهة أي خطرٍ في الداخل، من ينجوا منكم سأمنحه هدايا لم يحلُم بها من قبل، ما رأيكم ؟"

قال هذا ثم لوّح بيدِه فظهرت العديد من الكنوز وأحجار الطاقة الوردية والتي لا يحملها إلا الأغنياء والعظماء حيث يتداول الأشخاص العاديون بأحجار الطاقة البيضاء، وحجر طاقةٍ وردي يساوي ألف حجر طاقة أبيض، ما جعل أعين الجميع تبرق لأن الثروة التي أظهرَها لهم تكفي لِبناء عشيرة جديدة، لكن ما اهتمّ به الكبار أكثر هو أن هذا الشخص يملك خاتم تخزينٍ ومنه أخرج الكنوز، وربما لن تجد أكثر من عشرة أشخاص يملكون خواتم التخزين في جزر سمهريا بأكملها، وهذا وحده أعطاهم فكرة أكثر وضوحاً حول هوية هذه الجماعة الغريبة.

تصفّحهم الأربعيني لِبعض الوقت قبل أن يُكرّر قوله وكأنّهم يملكون حق الرفض "ما رأيكم ؟"

نظر كبار الرهائن إلى بعضهم البعض بِعواطف مختلطة قبل أن يومئوا برؤوسهم ويوافقوا على المهمّة الموكلة إليهم دون حتى أن يسألوا عن طبيعتها، لكن هذا لم يكن حال الجميع حيث طلبت المعلّمة راموليا وبعض من يرافق الصغار بأن يُُسمح لصغارهم بالمغادرة، لكن رجاءهم قوبِل بالرفض دون تفسير.

بعد تهدئة الأوضاع.. أمر الرجل أتباعَه لِقيادة الرهائن إلى داخل الكهف العميق وجعلوا الرهائن في الصفوف الأمامية، وقبل حتى أن يختفي المدخل.. ظهر أمامهم وحش يُشبه الصرصور ويبدو أنه نائم منذ مئات السنين، صاح أحدُهم من الفزع "إنه الصرصور الملكي الأرجواني، وهو في المرحلة المتقدّمة من تهئية الوعاء !!"

تنقسم الوحوش إلى نوعين في هذا العالم حيث هناك وحوش عادية تعتمد على الوحشية والشراسة، وهناك أخرى تتدرّب مثل البشر وتستخدم الطاقات الطبيعية، ومع أنها ليست ذكية مثل البشر ولا تملك التقنيات المناسبة والمتطوّرة، إلا أنها تعتمد على الغريزة في القتال وتتغلب على البشر بحجمها وشراستها، لذلك تهزم بسهولة أي بشري في نفس مستواها ما لم يكن موهوباً وبارعاً في القتال.

بعد صراخ ذلك الشخص.. اهتزّ الصرصور الملكي الأحمر وكأنه مُنزعج من ضيوفه الجدد، وقبل أن يُدرك الصغار.. كان الصرصور قد انقضّ عليهم وبدأ يفتِِك بكلّ من وصلَت إليه أنيابُه ومخالبه، ما جعل الكِبار يتدخّلون ويحاولون إنقاذ صِغارهم، لكن هذا التدخّل كان متأخراً حيث قُتِل أكثر من عشرة يافعين منهم ثلاثة من أتباع المعلمة راموليا.

بعد خمس دقائق.. تم الفتك بالصرصور وصارت الأوضاع هادئة بخلاف الباكين على القتلى، نظر شوفين إلى ما تبقى من جثث رفاقِه وتغيّر لونُه لأنه لم يعتقد أن رحلتهم الميدانية ستكون بهذه الصعوبة، لكنه لم يكن أمامه أي شيء لفعله سوى أن يحفر في ذاكرته معالم وجه الأربعيني الذي قادهم إلى هنا حيث كان الوحيد الذي يُظهر وجهه من بين جميع رجاله، حفر وجهه عميقاً في ذاكرته حتى ينتقم منه يوماً ما إذا خرج من هنا على قيد الحياة، ويبدو أن تعابيرَه لم تُفلِت من نظر المعلمة راموليا حيث اقتربت منه وقالت له في أذنه "استعد.. سأساعدك على الاختباء في مكان ما عندما أجد الفرصة، وإذا هلكنا هنا فأنت أملنا للانتقام في المستقبل"

احمرّت عينا شوفين عندما سمع أن معلمتَه مستعدة للتضحية بنفسها لأجله، لذلك حفر ما قالته في قلبه ولم يُجِبها وإنما نظر ببعض العاطفة نحو الطفلة الصغيرة التي لم تعِش في هذا العالم لأكثر من شهر، لكنّه لم يطلب من المعلمة أن ترسلها معه لأنه لا يحتاج إلى شخص غير متدرب لإثقاله، فالناس في العادة لا يميلون إلى إنقاذ الآخرين عندما يتعلق الأمر بالحياة.

واصل الجميع تقدمهم والتقوا بالعديد من الوحوش المختلفة حتى بدأ الكهف يتسع قبل أن يصلوا إلى قاعة كبيرة، وهذه المرة.. بدأ صراخ الرهائن دون أن يظهر لهم أي وحش، ولم يعلموا ما بِهم حتى صرخ أحد الخبراء "نمل الفطر الطائر"

تغيّرت تعابير الكبار مباشرة عندما علِموا أنهم يواجهون هذا النوع الشاذ من الوحوش حيث يعتبر غير مرئي تقريباً ويستطيع الفتك بالمخلوقات بسهولة بعد الدخول إلى الجسد، لذلك أمروا الجميع بالتراجع وتقدّم مستخدموا عنصر النار لإحراق المساحة الشاسعة أمامهم.

في هذه اللحظة.. شعر شوفين بشيءٍ يدفعُه بشدّة نحو أحد الأخاديد التي لا تكاد تُرى في مثل هذا الظلام، وبعدَه مباشرة.. أتَت كُرةٌ من النار لإخفاء أثرِه وزيادة قوة دفعِه نحو الأخدود، سقط شوفين بشدّة في الأخدود وتدحرج لِعشرات الأمتار قبل أن يتماسك ويخفي حضوره حتى ينصرف الجميع، ولِحسن حظه أن الأعداء لم ينتبهوا بسبب انشغالهم بالنمل الفطري الطائر والذي يستطيع إزعاج أقواهم في حال تسرّب إلى جسدِه.

بعد رُبع ساعة.. انتهى مُستخدموا النار من إحراق كل شيء أمامهم ثم استمروا نحو الأمام بعد فقدان بعض رفاقهم ومِنهم رجالٌ يلبسون الأسود ويغطون وجوهَهم، نظر الأربعيني نحو أتباعِه ثم ابتسم وانصرف وكأنهم ليسوا أتباعَه، فهو مستعد لِدفع أي سعرٍ للوصول إلى غايتِه الموجودة في آخر النفق.

تفقّد شوفين نفسَه ومحيطه إلا أنه لم يجرؤ على الخروج من الأخدود خوفاً من جذب انتباه الأعداء أو بعض الوحوش، لكن.. وقبل أن يرتاح.. شعر بشيءٍ طريٍّ تحت قدمَيه، عبَس وهو يتصفّحه فإذا به شيء رَخوِيّ وقد بدأ بالفعل بامتصاص جسدِه، وما هي إلا ثوانٍ معدودة حتى غاص بأكمله داخلَه وانعدمَت الرؤية أمامَه، حاوَل مِراراً وبكل قوته أن يتخلّص من الجسد الرَّخوِيّ الذي يلفّه إلا أن حركاته جميعها يتم امتصاصُها وتصبح بدون جدوى.

بعد ساعتين.. استسلم شوفين تماماً وترك أمرَه للحظ حيث لا يعلم ما سيحدث له تالياً، ودون أن يُدرك.. كان قد نام بسبب التعب والخوف رغم أن مستوى تدريبِه يجعله لا يتعب حتى وإن بقي أسبوعاً كاملاً بدون نوم، بقي على حالِه حتى أحسّ بانفجارٍ قوي يشتّت شمل الجسد الرَّخوِيّ البُنّي ويقذِفه بِشدّة على الأرض مع صوتٍ قديمٍ ووقور يقول

"اِنهض يا فتى"

--------------

معلومة سريعة:
التعليق والإعجاب يزيد من عدد الفصول وجودتِها

2020/01/08 · 1,738 مشاهدة · 2704 كلمة
simba
نادي الروايات - 2024