.
---
الفصل: اللقاء تحت ضوء القمر
كان الليل هادئًا على نحوٍ غير معتاد، والغيوم تتراقص فوق المدينة المغمورة بضوء القمر.
نسيمٌ رقيقٌ تسلّل بين شوارعها المبلّلة بمطرٍ خفيفٍ حمل معه عبق الأرض ونداء المجهول.
وفي أعماق هذا السكون، جلس وانغ فنغ في ينبوعٍ من الماء الساخن، يغمره بخاره الكثيف، كأن الضباب ذاته يخشى أن يقترب من جسده.
شعره الأسود الكوني انسدل على كتفيه كستارٍ من ليلٍ لا ينتهي، وكل خصلةٍ منه كانت تمتص الضوء بدل أن تعكسه.
عيناه، بلون الفضاء الممزوج بالبنفجسي والأفندر، كانت تلمع بخيوطٍ خافتة كأنها ترسم قوانين الكون حوله.
كانت ملامحه الهادئة تخفي في أعماقها شرارةً من الحزن؛
لم يكن ذلك الحزن بسبب الألم، بل بسبب الفراغ الذي تركه رحيلها… سو شياو.
لقد مرّت سنوات طويلة منذ فراقهما، لكنّ صدى صوتها ظلّ يهمس في عقله كلما خيّم السكون.
وفجأة، اخترق الهدوء صوت خفيف لأحد جنوده خلفه.
ركع الجندي باحترام وقال بصوتٍ ثابت رغم الارتباك الذي بدا عليه:
"سيدي… وردتنا أنباء عن موقع السيّدة سو شياو."
رفع وانغ فنغ رأسه ببطء، وملامح الاهتمام ارتسمت على وجهه.
لكن قبل أن ينطق بكلمة، شهق الجندي فجأة وقال بارتباكٍ شديد:
"سيدي… على ظهرك، هناك… ختمٌ أسود!"
توقف وانغ فنغ، ورفع يده نحو كتفه، ثم نظر بخيطٍ من طاقة الفضاء، ليظهر أمامه انعكاس جسده.
على ظهره، كان هناك ختمٌ على شكل كفٍّ مظلمة، يتوسطها خمس نجوم سوداء تومض بوميضٍ بارد.
تكلّم بنبرةٍ خافتة:
"النظام، ما هذا؟"
رنّ الصوت المألوف في ذهنه بنغمةٍ ميكانيكية متزنة:
> "تحليل الختم قيد التنفيذ...
تم اكتسابه بعد اختراق الجسر السادس.
التحليل يُظهر أنه ختمٌ مرتبطٌ بقانون الفضاء المظلم.
وظيفته... غير معروفة بالكامل بعد."
ظلّ وانغ فنغ صامتًا للحظة، ثم ابتسم بخفةٍ باردة وهو يهمس:
"حتى بعد الجسر السادس، لا زال الفضاء يختبرني..."
وقف من الينبوع، فتدفقت حوله قطرات الماء لتتمايل في الهواء قبل أن تختفي كما لو التهمها الظلام ذاته.
ارتدى رداءه الأسود المطرّز بخيوطٍ فضية، وأرخى شعره الطويل خلفه.
لقد بدا وكأنه سيد الليل نفسه، يمشي بهدوءٍ كأن النجوم تفسح له الطريق.
أشار بيده، فظهر أمامه ثلاثة من قادة جنوده.
قال بصوتٍ هادئٍ يحمل رهبة:
"ما جديد سو شياو؟"
أجاب أحدهم بانحناءةٍ سريعة:
"سيدي، وفقاً للمعلومات المؤكدة… السيدة سو شياو تنتمي إلى الطائفة الخالدة.
ولدت كروحٍ واحدة في جسدين، وامتلكت موهبةً لا نظير لها.
وقد تبنّاها سيد الطائفة كتلميذته الوحيدة.
قبل أربع سنوات، نجحت في دمج جسديها لتصبح في هيئةٍ واحدة،
وتمكنت من اختراق الجسر السابع في طريق قانون الزمن، وهي الآن في عزلةٍ لمحاولة اختراق الجسر الثامن."
صمت المكان.
لمعت عينا وانغ فنغ بلونٍ غامقٍ يشبه أفق الفجر الممزق.
كانت متقدمةً عليه… لكنها كانت بخير.
رفع نظره إلى الأعلى وقال بابتسامةٍ خفيفةٍ ممزوجةٍ بالحنين:
"يبدو أن الزمن منحها ما تستحقه… أما أنا، فما زلت أبحث عن اللحظة المناسبة لكسره."
قطع أحد الجنود الصمت قائلاً:
"سيدي، خلال هذه السنوات، كان هناك من يبحث عنك بجنون.
قمنا بدفن كل الآثار التي قد تدل عليه، لكن… لم نتمكن من تحديد هويته بدقة.
كل ما نعلمه أنه تابع لأحد الأسياد الشباب من القوى العظمى."
رفع وانغ فنغ حاجبه، ثم التفت نحو جانب القاعة حيث وُضعت أغراضه:
رداء أسود من نسيج نادر، ربطة شعر على شكل تاجٍ فضي، حزامٌ مرصّعٌ بالأحجار السماوية، وخاتم تخزينٍ من الجيل القديم.
اقترب بخطواتٍ هادئةٍ أشبه بصوت الريح، ثم أمسك بالخاتم بين أصابعه، وتفحّصه للحظةٍ قبل أن يقول بابتسامةٍ خفيفة:
"الأشياء الخارجية لا تعني شيئاً بعد الآن... خذوه، واستخدموه لترميم القاعة."
أومأ الجندي باحترام، فيما رفع وانغ فنغ رأسه نحو الأعلى.
في تلك اللحظة، اختفى دون أي أثر.
فقط دوامة صغيرة من طاقة الفضاء بقيت مكانه، كأن الهواء نفسه انحنى أمامه.
---
حين ظهر مجددًا، كان يقف على أحد جسور المدينة.
ضوء القمر ينعكس على الماء المتجمّع أسفله، والنسيم يحمل رائحة المطر الحديث.
رفع بصره، فرأى لافتةً خشبيةً قديمة كتب عليها بخطٍ بسيط:
"نبيذ لي".
ابتسم بخفة.
دفع باب المتجر فصدر صريرٌ ناعم، ورائحة النبيذ المعتّق ملأت المكان.
جلس عند طاولةٍ قرب النافذة، يطلّ منها على القمر المحاط بالغيوم.
طلب بهدوء:
"نبيذ جيو لي، من فضلك."
رفع العجوز الجالس خلف المنضدة رأسه، وقال بابتسامةٍ دافئة:
"يا بني، هذا النبيذ قويٌّ بعض الشيء. أنصحك بـ نبيذ ندى الأوركيد، يناسب الليالي الممطرة كهذه."
أجابه وانغ فنغ بصوتٍ منخفضٍ لكن مهيب:
"أنا أُفضّل جيو لي... إنه نبيذ المسافرين، لا يناسب إلا من سار طويلاً في العتمة."
ساد الصمت للحظة، ثم ضحك العجوز بصوتٍ عميقٍ مليء بالحكمة وقال:
"كلماتك غريبة يا صديقي... هل تمانع إن شاركتك الجلوس؟"
رفع وانغ فنغ نظره إلى القمر وقال بنبرةٍ هادئة:
"الغيوم تصاحب القمر، والقمر يصاحب الليل… وأنت، يمكنك أن تصاحبني الليلة."
ضحك العجوز بحرارةٍ وقال:
"يالك من ضيفٍ حكيم… اسمي ياو لي."
ابتسم وانغ فنغ ومد يده قائلاً:
"وانغ فنغ."
جلس الاثنان يتبادلان الحديث لوقتٍ طويل، يحتسيان النبيذ بينما المطر يعزف سيمفونيته على السقف الخشبي.
ومع منتصف الليل، ساد الصمت مجددًا.
رفع ياو لي كأسه نحو القمر وقال بصوتٍ متأمل:
"يقول الحكماء إن كل شيء في هذا العالم تحت رحمة القدر...
لكن، هل تعلم ما الذي يُسيّر القدر نفسه؟"
تأمل وانغ فنغ للحظة، ثم أجاب بنبرةٍ هادئةٍ كأنها تتردد في أرجاء السماء:
"القوة... الحكمة... والحياة.
إن امتلكت القوة، تستطيع كبحه.
وإن امتلكت الحكمة، تستطيع فهمه.
وإن امتلكت الحياة، تستطيع تجاهله...
لكن إن جمعت الثلاثة، يمكنك تغييره."
نظر العجوز إليه نظرةً طويلة، ثم ابتسم وقال بهدوءٍ عميقٍ يشبه نهاية عهدٍ قديم:
"يبدو أني وجدت من يفهم ما قصصته ..
... القصة طويلة لكنها تركز على شخص واحد اما الحياة فهية قصيرة لكنها تحيط بنا جميعاً... قال وانغ فنغ بحكمة
---