الفصل العاشر : بقايا صدى الألم
بعد أن غادر رين مركز الشرطة ، بدا كمن يحمل عالما بأسره على كتفيه . خطواته بطيئة متثاقلة، كأن الأرض تمسك به وتحاول إعادته إلى حيث لا يريد . لم يخبر أحدا بالحقيقة التي اكتشفها.....عن تلك المنظمة التي عادت للظهور مجددا ، " الغربان السود" .لم يكن أحد سيفهم . لا أحد يعلم . لا أحد ....سوى المفتش كيوشيرو .
في مساء هادئ ، ذهب رين إلى مكتب كيوشيرو القديم ، الواقع في أحد الأزقة الجانبية البعيدة عن ضجيج المدينة . طرق الباب ثلاث مرات ، ثم فتحه دون انتظار الرد . كان كيوشيرو جالسا كعادته ، يدخن سيجارته الثقيلة . يحدق إلى ملفات قديمة بعينين غارقتين في التعب .
رفع نظره ببطء وما إن وقعت عيناه على رين حتى قال بهدوء : " كنت أعلم أنك ستأتي في النهاية ."
جلس رين دون أن يتكلم . مرت لحظة ثقيلة بالصمت ، ثم فتح رين الحقيبة الجلدية التي أحضرها ، وأخرج منها صورة قديمة متآكلة الحواف ، لطخت بالحبر والدم .
" وجدت هذا في المستودع 17 ......" قالها رين بصوت مبحوح ، ثم تابع : " الصورة تعود لوالدي ، ويبدو أنه كان يتعقب منظمة اسمها ....الغربان السود ."
ارتعشت يد كيوشيرو للحظة ، لكنه تمالك نفسه ، ثم رمق رين بنظرة طويلة .
" هذه المنظمة ... لا يجب أن يعرف بها أحد ، حتى الاستخبارات قيدت تحت بند " غير موجودت "
أغمض رين عينيه ، وتذكر تلك الليلة قبل ثلاث سنوات الدماء ....الصراخ....العتمة...
وقبلها بسنوات ، ذلك اليوم المشؤوم عندما دخل إلى الحمام ، فوجد والدته ملقاة على الأرض ، يدها اليمنى ، تنزف من جرح عميق في معصمها ، وبجانبها زجاجة مكسورة من العطر .
كل شيء حوله كان صامتا ، إلا صوته هو، وهو يصرخ .
" لم تحتمل موت والدي ....." همس رين بصوت مهزوم .
" انتحرت ..... وتركتني ."
أخفض كيوشيرو رأسه بألم ، ثم قال :
" كنت هناك ، رين .... بعد موت والدك ، لم أتركك وحدك .كنت طفلا، والناس أرادوا دفنك مع الماضي . لكني وعدت والدك أن أحميك ، حتى لو كلفني الأمر حياتي ."
" لهذا أبقيت كل شيء سرا .... مهمة والدك ، المنظمة ، وحتى .....سبب اختفائك قبل ثلاث سنوات ."
ارتفع نظر رين. وبدت عينيه كمرآة مكسورة تنعكس فيها وجوه الماضي .
" لقد عدت الآن ، كيوشيرو .....والغربان السود عادت أيضا ."
" هل ستبدأ المطاردة مجددا ؟" سأل كيوشيرو بصوت منخفض .
وقف رين ، واتسعت عينيه بعزم قاتم .
" لا، هذه المرة ....سأنهيها ."
كان الليل قد ابتلع المدينة ، و الأضواء الخافتة في الشوارع تنعكس على الأرصفة كأنها أشباح تائهة . خرج رين من مكتب كيوشيرو ، صدره شعوره لا يشبه أي شيء آخر ... لم يكن غضبا فقط ، ولا حزنا ، بل مزيج سام من الذكريات والرغبة في الفهم ، و الانتقام .
وقف في منتصف الشارع ، والرياح تعبث بمعطفه ، كأنها تدفعه إلى الأمام . أخرج من جيبه ورقة مهترئة ، وجدها في المستودع . كانت تحتوي على رموز وأسماء مشفرة . أحد الأسماء جعله يتوقف .
" إيتو شين "
همس بها كما لو أنها لعنة قديمة.
كان هذا الاسم قد ورد مرة واحدة في مذكرات والده ، تحت جملة مبهمة : " إذا وصلت لإتو ، اقتربت من الرأس ."
رن هاتفه فجأة . رقم مجهول .
تردد رين للحظة ، ثم أجاب . لم يكن هناك صوت ...فقط نفس ثقيل . ثم جاءه صوت مشوه ، معدني ، يشبه حشرجة من عالم آخر :
" مرحبا ....وريث الهاربين ."
تجمد رين ، وارتجف صوته : " من أنت ؟"
ضحكة قصيرة ، مقلقلة : " أنت تعلم جيدا من نكون ...لقد تركت اللعبة ، لكننا لم نتركك ، ايتاشي رين ."
ثم صمت .... و انقطع الاتصال .
ضغط رين على الهاتف بقوة حتى كاد يحطمه . نظر إلى الأفق البعيد ، حيث كانت ناطحات السحاب تلمع تحت ضوء القمر ، وقال لنفسه بصوت بارد :
" لعبتكم انتهت ....و سأجعلكم تندمون على كل قطرة دم نزفناها من أجل أسراركم ."
وفي مكان ما ، خلف أعين تراقبه ، بدأ الظلام يتحرك من جديد.