الفصل الحادي عشر : " عندما تهدأ العاصفة "
كانت الساعة تقارب منتصف الليل حين دخل رين شقته بخطوات متثاقلة. رائحة الرطوبة والكتب القديمة استقبلته بصمت ، كأن المكان حافظ على حزنه وعلقه في الهواء .
رماه التعب على الأريكة ، ولم ينزع حتى معطفه ، عيناه شاردتان في الفراغ ، تتبعان شبح أفكاره . لم ينس ملامح الجثة التي شاهدوها في المستودع ، ولا الدماء التي لطخت جدران ذاكرته من جديد .
مد يده نحو درج صغير ، وأخرج صورة قديمة . والده ... والدته.... وطفل صغير يقف بينهما بابتسامة باهتة . حدق فيها طويلا ، كأن كل ثانية تحفر في قلبه حفرة أعمق .
همس بصوت متهدج:
" لقد تعبت ... لماذا يبدو الماضي أثقل من الحاضر ؟ لماذا كلما اقتربت من شيء ، أشعر أنني أضيع أكثر ؟"
أسند رأسه على الوسادة ، وأغمض عينيه . أراد فقط أن ينسى ...لوهلة .
لكن فجأة.....
صوت همسة خافتة....كأنها أتت من داخله .
-" ما الأمر يا رين ؟"
ترند وجه مألوف أمامه . عينان قرميزيتان ، وشعر فوضوي يعبث به النسيم ، كان يحدق فيه بهدوء .
فتح رين عينيه دفعة واحدة ، قلبه يكاد ينفجر من الدهشة .
-" ي.....يوكيمارو؟ متى أتيت؟! هل.....هل أنت شبح ؟"
ابتسم يوكيمارو بخفة ، ثم جلس إلى جانبه على الأريكة وكأن حضوره أمر طبيعي .
-" دعك من هذا الآن . ما الأمر معك ؟ ولماذا هذا الوجه الحزين ؟"
نظر إليه رين ، وداخله خليط من الصدمة والراحة . لوهلة ، لم يعرف إن كان يحلم ....أم أنه واقع .
لم أعد أفهم شيئا يا يوكيمارو ...الأمور تتعقد .كلما حاولت الهرب من الماضي ، وجدت نفسي أعود إليه رغما عني ."
تنهد يوكيمارو وقال بهدوء :
أنت لا تهرب يا رين ....أنت فقط تحاول أن تبقى واقفا رغم كل شيء . وهذا ما يجعلك مختلفا .
التزم الاثنان الصمت للحظة ، قبل أن يسأل رين :
كيف دخلت ؟ ولماذا الآن ؟
لم يجب يوكيمارو فورا . اكتفى بالنظر في عينيه وقال :
" ربما لأنك كنت بحاجة لي ...وربما لأن الوقت اقترب ."
ارتجف قلب رين من تلك الكلمات ، دون أن يفهم معناها بالكامل . لكنه شعر بشيء لم يشعر به منذ زمن ....الطمأنينة.
ساد الصمت بينهما للحظة . كان ضوء القمر الباهت ينعكس على خصلات شعر يوكيمارو الذهبية ، وعيونه ، الحمراء تشع بنور غريب ، كأنها تتوهج في الظلام وحدها .
تردد قليلا ثم قال :
لا أحد غيري يراك ...أليس كذلك ؟
يوكيمارو أومأ بصمت .
"ولن يتغير هذا ، أنا مرتبط بك، يا رين . مادمت حيا ، سأبقى معك ....ولو من الظلال ."
أخفض رين بصره . لم يكن يعرف إن كان هذا عزاء ...أم لعنة .
هل أنت حقيقي ؟ أم مجرد بقايا من عقلي المتعب ؟
قد يكون العالم لا يراني ....لكنك تشعر بي . وهذا يكفي.
حدق فيه رين ، و كأن عقله يحاول أن يربط خيوطا مبعثرة بداخله .
-" أشعر وكأني أعرفك منذ وقت طويل .... ومع ذلك ، لا أذكر شيئا . كلما نظرت إليك ، يراودني إحساس غريب .... كأنك جزء من شيء فقدته ."
يوكيمارو أدار وجهه قليلا ، وأجاب بنبرة هادئة :
-" ربما ..... لأنك فعلا تعرفني لكن شيئا ما... سلب ذاكرتك ."
"هل كن نعرف بعضنا في الماضي ؟" سأل رين ، و النبرة في صوته تحمل ارتجافا خفيفا .
" ربما ، يارين . أنا .... كنت هناك ، عندما كنت في حاجة لي . عدت الآن ، لأنك بحاجة إلي مجددا "
صمت رين ، ثم همس :
-" ولكن لماذا لا أتذكرك ؟"
اقترب يوكيمارو قليلا ، ومد يده ليلمس جبينه برفق . شعر رين ببرودة خفيفة جدا .... لكنها كانت كافية لتجعله يدرك أن هذا ليس وهما .
ثم همس يوكيمارو بصوت خافت :
-"لأن هذا العالم ....لا يريدك أن تتذكر ."
تسارعت أنفاس رين ، بينما بدأ يسمع صوت خفقات ... كأنها أجنحة غربان تخترق السماء . التفت ، لا شيء هناك . الظلال فقط ، كما هي دائما .
-" السماء تتحرك يارين ...والغربان عادت لتحوم ."
التفت سريعا إلى يوكيمارو ، لكنه اختفى . وكأن كل شيء كان هلوسة ...أو حلما مشوشا .
جلس رين على الأرض ، رأسه بين كفيه ، حدق في الصورة مجددا .
-" متى فقدت كل شيء ؟ ومتى بدأت أنسى ... حتى من كانو بجانبي ؟"
أغمض عينيه من جديد ، وفي داخله سؤال لا يهدأ :
" من هو يوكيمارو حقا ؟ ولماذا ....أشعر بأنه يعرفني أكثر مما أعرف نفسي ؟"