الفصل الثالث : الهدف الثاني
لم تكن السماء أشرقت تماما حين وقف رين أمام البوابة الحديدية العالية للمديرية السوداء للتحقيقات الخاصة . تلك البوابة التي لم يمر عبرها منذ ثلاث سنوات ...ثلاث سنوات منذ أن ابتلعه الغموض واختفى بين الملفات السرية والدماء التي لم تفسر .
ملامح وجهه كانت شاحبة لكنها حادة ، تحمل مزيجا من الذكريات المتراكمة والقرارات التي لم تعد قابلة للتراجع . رفع بطاقة التعريف القديمة خاصته ، فحدق الحارس فيها لوهلة قبل أن يفتح البوابة دون كلمة . وكأن الجميع هنا مازال يذكره .... أو ما زال يشك به .
مر رين بالممرات المعتمة ، كل زاوية فيها تحمل شبح مهمة ، أو خيانة ، أو صمت قاتل . موظفون وجدوا على جانبي الممر ، بعضهم نظر إليه بدهشة ، البعض تجاهله ، وآخرون انسحبوا بهدوء ، كأن شبحا مر بينهم .
كان يعلم أن عودته لن تمر دون همسات .
دخل إلى قاعة الاجتماعات الرئيسية حيث كان ينتظره رجل ببدلة داكنة ونظرات تحمل الصرامة ...المفتش أوساكا ، مدير المديرية حاليا . لم يكن يحب رين ، ولم يخف ذلك قط.
قال بصوت بارد :
" توقعت عودتك ....الغربان السود لا تترك أحدا يرحل تماما ."
أجابه رين دون أن يرمش :
" و لا أنا نسيت ما فعلوه ."
جلس ، وسحب ملفا من حقيبته ، وضعه أمام المدير ، فتحت الورقة الأولى لتكشف صورة شعارات مرسومة بخط غامض وبعض الأسماء التي شطبت بالحبر الأسود .
عادو للظهور. لديهم صلة بجريمة المستودع 17 ، وأنا متأكد أنهم يتحركون مجددا في الظل .
أوساكا ضيق عينيه ، ثم قال :
" لم علينا أن نثق بك مجددا ؟ قبل ثلاث سنوات ، فقدناك في أوج المهمة . ثم عدت وكأنك لم تختف ."
رفع رين عينيه بثقة مخلوطة بالحزن :
" ما أخفيته وقتها ...لم يكن هروبا . بل كان فخا . أنا الوحيد الذي نجا منه ."
في تلك اللحظة ، دخل رجل كهل إلى القاعة ...كان شعره الأبيض ونظارته الصغيرة يميزانه . كيوشيرو .
كان الوحيد الذي وقف بجانب رين ، دائما .
قال بابتسامة متعبة :
" رين ليس خا ئنا .....بل هو مفتاح الحقيقة ."
انخفض التوتر في الغرفة لحظة دخول كيوشيرو ، فاستعاد رين أنفاسه ، ثم تابع :
" ما أريده الآن هو إذن بالوصول إلى الملفات المؤرشفة قبل ثلاث سنوات ....وقاعدة البيانات السرية للمهمات الخاصة . إنهم عادو ، ويبدو أن مقتل والدي لم يكن النهاية ....بل البداية ."
تبادل أوساكا وكيوشيرو نظرات عميقة .
ثم قال كيوشيرو بهدوء:
" أعطوه مايريد . لكن تذكر يارين .... هذه المرة ، لن يكون هناك من ينتشلك من الظلام إن سقطت فيه ."
رن صدى كلماته في أرجاء الغرفة كتهديد ناعم .
رد رين بصوت خافت :
" أنا لم أعد ذلك الصبي الذي نجا....أن الرجل الذي سينهي هذه اللعنة ."
خرج من القاعة ، وبيده بطاقة دخول طارئة للارشيف الأسود . الوجهة القادمة : غرفة C-09....
حيث احتفظ بأدق أسرار الغربان السود .
ولم يكن يعلم أن في تلك الغرفة ، ملفا لم يفتح من قبل ....
دخل رين الأرشيف الأسود تحت حراسة مشددة . المكان بارد. صامت . كأن الزمن تجمد بين رفوف الملفات الثقيلة . ضوء خافت ينبعث من مصابيح بيضاء تتدلى فوق رؤس الملفات المغلقة بالشمع الأحمر .
أخرج البطاقة التي منحه إياها أوساكا ، مررها على الماسح الضوئي ، ففتح الباب الحديدي تلقائيا ، بصوت آلي غليظ . أمامه ظهرت عشرات الخزائن المعدنية ، كل واحد منها يحمل رموزا مشفرة وأرقاما لم تكن مألوفة.
تقدم إلى الخزانة رقم C-09 ، حيث يحتفظون بأرشيف مهمته القديمة .... مهمة الغربان السود .
سحب الملفات واحدة تلو الأخرى ، يقرأ بسرعة ، يبحث عن أي إشارة ، أي خيط .
أسماء قتلى ، مواقع ، خرائط ، كل شيء بدا ناقصا ...كأن فصلا كاملا قد تم تمزيقه عمدا .
لكن عينيه وقعتا على شيء ....
ملف صغير ، موضوع بين ملفات أخرى لا تخصه .
لا يحمل رقما ولا رمزا . فقط اسم واحد مكتوب على وجهه بخط يدوي واضح :
" الهدف الثاني : ايتاشي رين "
يداه تجمدتا لاحظة . قلبه تسارع نبضه بشكل مؤلم .
فتح الملف ، ووجد صورة له ، مأخوذة من إحدى كاميرات المراقبة أثناء مهمة سابقة .
أسفلها ، كتبت عبارة بلون أحمر :
" يبقى تحت المراقبة . خطر محتمل . لا يجب تنبيه ."
قرأ الأسطر التالية ....وكل كلمة كانت كطعنة في صدره .
" تحليل سلوك : رين يظهر خصائص غير مستقرة بعد اختفاء والده ووفاة والدته .
احتمال تعرضه لتأثير مباشر من الغربان السود .
يمنع عليه الاطلاع على الملفات الكاملة .
يعامل كخارج الخدمة ، بهدف حمايته من المصير ذاته ."
أغلق الملف ببطء .
عيناه امتلئتا بمرارة حارقة .
إذن .....
لم يكونوا يشكون به ....
بل كانوا يبعدونه عن الحقيقة ، لكي لا يواجهها.
لكنهم لم يعلموا ..... أن الحقيقة حين تخبأ عنك ، تصبح سما يجري في دمك .
رن صوت خلفه :
" كانوا يحاولون إنقاذك .... لا خيانتك ."
استدار فجأة .
كيوشيرو وقف عند مدخل الغرفة . ملامحه متعبة ، كأنه ينتظر هذه المواجهة منذ سنوات.
تابع بصوت خافت :
" والدك أوصاني بك . قال لي يوما : إن لم أعد ، لا تدع ابني يدخل الظلال التي دخلتها ....
لكننا فشلنا يارين ."
حدق رين في الأرض ، صامتا .
قال كيوشيرو : " حين اختفيت ، بحثنا عنك لأسابيع . ثم وصلنا تقرير ....بأنك "غير مرئي " بالنسبة للمنظمة . لم نعرف السبب ، لكننا اعتقدنا أنك النواة القادمة ....المفتاح أو الضحية ."
سحب رين الملف بيده ، مزقه إلى قطع صغيرة وقال : "لن أكون هدفا . ولن أكون أداة لحماية شيء لا أعرفه ."
ثم نظر إليه بعينين ملتهبتين بالعزم :
" سأكمل الطريق ....وإن كنت الوحيد الذي أمشي فيه "
كيوشيرو اقترب منه ، وضع يده على كتفه وقال :
" فقط تذكر...بعض الطرق لا تعود منها ."
رد رين بهدوء :
"لقد غادرت طريقي القديم منذ ثلاث سنوات ... الآن أنا فقط أبحث عن النهاية ."
وخرج من الغرفة . وخلفه رائحة غبار الملفات السرية .... وعبق خيانة كانت بدافع الحب .
خرج رين من مبنى الوكالة بوجه جامد ، لكن في داخله دوامة لا تهدأ. شعور خفي بالتلاعب حي داخله . كان يعلم أن شيئا ما يخفى عنه .
ركب سيارته ، وأدار المحرك ، لكنه لم يتحرك . بقي ساكنا ، يحدق في مرآة الرؤية الخلفية . هناك لحظة قصيرة لم تتجاوز الثواني ، رأى فيها لمحة من شخص يقف خلفه في الزجاج ، لكنه حين استدار ، لم يكن هناك أحد .
" هل بدأت أتوهم ؟..... أم أن الغربان بدأت تتحرك ؟" ، تمتم لنفسه .
أخرج من جيبه بطاقة صغيرة كان قد التقطها خفية من على أحد المكاتب في الوكالة ، لم تكن مؤرخة ، لكن عليها ختم أحمر مائل يتوسطه رمز الغراب . الرقم التسلسلي الذي كتب عليها بدا وكأنه جزء من ملف مفقود .
توجه فورا إلى شقته ، وبمجرد دخوله ، أغلق الباب خلفه باحكام وسحب ستائر النوافذ . جلس على الأرض ، أمام صندوق خشبي قديم ، كان يخص والده . لم يفتحه منذ سنوات .
فتحه بأطراف أصابعه المرتجفة ، وبدأ يبحث بين الأوراق القديمة والرموز المشفرة ، حتى وجد ورقة مطوية بزاوية ، مكتوب عليها بخط والده :
" إذا عاد الغراب ، فاعلم أن أحدهم نجا من اللهب ..."
تجمد رين . العبارة لم تكن مجرد كلمات مشفرة بل تلميح واضح أن أحد أعضاء الغربان السود نجا من العملية السرية قبل سنوات ... وربما ظل مختبئا .
أخذ نفس عميقا وهمس :
" الغربان بدأت تنعق .....وأنا لن أكون فريسة هذه المرة ."