الفصل الثالث والعشرون : الظل الذي لا يرى
كان صباحا مشمسا ، نادرا ما تشرق فيه الشمس بهذه السطوع بعد أيام متتالية من الغيوم والرماد ، الأشجار تتمايل برقة مع نسيم عليل ، والعصافير تغرد بلحن مرح كأن المدينة تستمتع أخيرا ببعض السكينة .
لكن داخل غرفة رين ، كان العالم مظلما .
جالسا على الأريكة ، رأسه مسنود إلى الحائط، عيناه فارغتان ، وروحه غارقة في صمت ثقيل . صدى كلمات زيرو لا يزال يهمس في أذنه ، يشوه كل لحظة هدوء يحاول التشبث بها
فجأة ....
طق طق طق !
صوت طرق خفيف على زجاج النافذة ، تلاه وجه مألوف ملتصق بها .... يوكيمارو ، يلوح له بابتسامة مشاكسة .
" صباح الخير أيها المكتئب المزمن !"
" هيي. يوم عطلة نادر ، ألا تستحق نزهة بسيطة ؟ أم أنك تنوي الزواج بالحائط ؟"
فتح النافذة وقفز يوكيمارو بخفة إلى الداخل .
"يوكيمار ؟ ما الذي .....؟"
" أجل أجل ، أعرف ....لا دخول من النافذة ، لكنك لا ترد على اتصالاتي ولاتفتح الباب . فاصطررت للدخول من باب السماء مثل الملائكة تماما."
" ليس لدي مزاج لهذا ...."
" لهذا السبب جئت ."
وبدون مقدمات . أمسك بذراع رين وسحبه بقوة نحو الباب .
" انهض . الآن ."
" ماذا تفعل ؟!"
" نزهة . تغيير جو. وربما فضيحة اجتماعية صغيرة إن قاومتني أكثر .هل تريد أن أصرخ ' إنه مختطفني '؟لأنني استطيع ذلك "
رغم امتعاضه ، لم يستطع رين منع ابتسامة خفيفة من التسلل إلى وجهه . لم يتغير يوكيمارو أبدا .
سار الاثنان في أحد الشوارع الهادئة ، وأشعة الشمس تسقط بين أوراق الشجر ، ترسم ظلالا جميلة على الأرض . ومع ذلك ، كان قلب رين ثقيلا .
" رين ، ألا تريد الحديث ؟ أعني أنا ممتاز في لعب دور الطبيب النفسي المجنون ."
" ليس وقت المزاح ."
" بل هو وقته تماما ...لأنك ستنفجر قريبا ، وأنا لا أملك تأمينا يغطي أضرار الانفجارات العاطفية ."
توقف رين فجأة ، قبضته ، صرخ بصوت مرتفع :
" أنت لا تفهم شيئا !! لا أحد يفهم !! هذا الشيء ....زيرو إنه يعبث بي وكأني دمية ، كل شيء ينهار...!!!"
المارة بدأو يلتفتون . أحدهم تمتم :
" هل هذا الشاب ...يتحدث وحده ؟"
رين تجمد في مكانه ...ثم استدار ببطء نحو يوكيمارو .
" انتظر ...."
في تلك اللحظة مر رجل من خلال يوكيمارو وكأنه مجرد هواء ، لا وجود له .
توسعت عينا رين ، تسارعت أنفاسه ، تراجعت خطواته :
" مستحيل ...أنت ..."
أدار يوكيمارو وجهه إليه بهدوء ، ابتسامة هادئة على محياه ، وعيناه تنظران إليه بثبات لم يتعده :
" لقد قلت لك سابقا ...أنت الوحيد الذي يستطيع رؤيتي في هذا العالم . وجودي ....قد اختفى منه تماما ."
سادتي لحظة من الصمت بينهما ، وكأن الزمن توقف .
رد رين أخيرا، صوته مملوء بالذهول :
" صحيح أني شعرت أنك شخص مريب وغامض ، بل حتى عندما حاولت أن أبحث في أمرك لم أجد أحد يعرفك ، لكن.... لكن ليس لدرجة أنهم لا يرونك ...!؟"
ظهرت على وجه يوكيمارو ابتسامة حزينة ، شاحبة ، مختلفة عن سخريته المعتادة . لكن سرعان ما أخفاها ، وهز رأسه بخفة .
" كفى كلاما حزينا ، لا نريد أن نحطم المزاج الجميل لهذا اليوم ."
ثم أمسك بيد رين فجأة ، وسحبه معه .
" هيا ، أريد أن أتناول الكريب! ومن الأفضل أن تشتري لي ، لأنني شبح كما ترة ، لا أملك مالا !"
"ماذا ...؟"
" لا تجادل ، أنا شبح جائع ."
بعد دقائق ، وجدا نفسيهما أمام عربة صغيرة تبيع الكريب .
اختار يوكيمارو نكهة الشكولا والفرواولة - بنزعة طفولية جعلت رين يرفع حاجبا ساخرا .
ثم فجأة ، قال :
" هيا ، لدينا موعد مع السينما ."
" منذ متى تخطط لكل هذا ؟"
" منذ أن لاحظت وجهك الكئيب ، يا عبقري ."
جلسا معا في مقاعد السينما شبه الفارغة ، وبدأ الفيلم ، لم يكن رين في مزاج للضحك. لكن يوكيمار. لم يتوقف عن إطلاق تعليقاته الساخرة على المشاهد . تارة يسخر من البطل ، وتارة يقلد أصواتهم ، وتارة يحاول تقليد الرومنسية بطريقة سخيفة جدا .
حتى رين ، رغم كل ثقله الداخلي ، ابتسم ...بل ضحك ، ولو لمرة قصيرة
يوكيمارو نظر إليه ، ابتسامته عادت ساخرة ومضيئة :
" هكذا أفضل . صدقني ، إن بقيت على وضعك ذاك . لا أحد سيجرؤ على الاقتراب منك . كن ممتنا أنني أصبحت صديقك . وإلا كنت ستتحول إلى كتلة كآبة تمشي على قدمين ."
ضحك رين بخفة. وهو يتمتم :
" يبدو أنك حقا ...شبح مزعح ."
رد يوكيمارو بابتسامة خفيفة حزينة :
" لكني صديقك الوحيد ، أليس كذلك ؟"
...
بعد انتهاء الفيلم ، خرجا معا إلى الشارع. الأضواء تنعكس على الأرصفة ، وصوت خطوات المارة يتداخل مع أنفاس الليل الهادئة .
وقف رين أمام عربة المشروبات الساخنة، طلب قهوة ، وأعطى كوبا آخر ليوكيمارو ....رغم علمه أنه لا يستطيع لمسه .
" هاه ، لا زلت تحاول معاملتي كإنسان ...." قال يوكيمارو بنبرة فيها شيء من الامتنان .
نظر رين إليه بجدية ، ثم همس :
" ربما لأنك .....تشعرني بأنك أكثر حياة من كثير من البشر اللي حولي ."
سكن يوكيمار، للحظة ، وحمرت وجنتيه كأن الكلمات باغتته .
ثم جلسا على الكراسي بجانب النافورة. والماء يعكس أضواء المدينة المرتجفة .
قال رين وهو ينظر للأمام ، دون أن يلتفت :
" هل تعلم ...وجودك يرعبني أحيانا . ليس فقط لأنك شبح ، بل لأنك تعرفني أكثر مما أعرف نفسي ."
رد يوكيمارو بهدوء، بنبرة أقل سخرية هذه المرة :" ربما لأنني رأيتك من حيث لا يراك الآخرون . عندما كنت في الحافة ....في الظلام ."
رفع رين رأسه ينظر إلى السماء ، والنجوم بالكاد تظهر بين ضوء المدينة .
" هل سأندم على صداقتك ، يوكيمارو ؟"
يوكيمارو أجابه بصوت منخفض :
" ربما ...لكن ليس الليلة ."
سكت كلاهما . لحظة صمت ثقيلة ومليئة بما لم يقال .
ثم همس يوكيمارو بصوت بالكاد يسمع :
" استعد يا رين ، الأيام القادمة ...لن تكون بهذه البساطة ."