الفصل الثامن والعشرون : الوداع

في المساء ، ومع انحناء الشمس نحو المغيب ، كانت أشعتها الذهبية تتسلل داخل الغرفة حيث جلس رين أمام الشرفة ، تحدق عيناه في البعيد كأنهما تحملان هما لا يروى. الهواء ربيعي ، لطيف ، لم يكن قادرا على اختراق الصمت الثقيل الذي يلف المكان .

وفجأة ، رن جرس الباب .

استدار رين وهو يتمتم :

-من الذي قرر زيارتي في هذا الوقت ؟

تقدم بخطوات واثقة نحو الباب ، وبمجرد أن فتحه ، انطلق صوت مألوف :

-رين ! إنه أنا ، كيوشيرو! افتح الباب ، أيها العنيد !

ابتسم رين ابتسامة جانبية وقال :

-أيها المفتش كيوشيرو ....ما الذي جاء بك إلى هنا؟

أجابه كيوشيرو وهو يعقد ذراعيه ، بنبرة تمزج بين الغضب والمزاج :

-يالك من فتى متحجر القلب ....أليس من حقي أن أزورك دون سبب ؟ لقد جرحت مشاعر هذا العجوز ، يا قليل الأدب !

ضحك رين بهدوء وفتح له المجال للدخول :

-حسنا ، حسنا ، تفضل بالدخول ، وأسف على جرح مشاعرك الرقيقة ، يا عمي .

جلس كيوشيرو بينما جلب له رين كوبا من القهوة ووضعه أمامه على الطاولة بعناية .

مرت لحظات صمت ثقيل ، كأن الجدران تراقبهما وتنتظر من سيتكلم أولا . نظر كيوشيرو إلى رين بعينين تفيض بالكلمات ، لكنه لم ينطق بشيء .

وأخيرا ، تنهد وقال بصوت خافت :

-تعلم ، يارين ...لقد كبرت .

مرت السنوات بسرعة ....بالأمس كنت فتى صغيرا لا يكف عن إزعاجي ، واليوم أصبحت رجلا ناضجا ، ذكيا ، و...يمكن الاعتماد عليه .

نظر إليه رين بتعجب :

-لماذا تتحدث وكأنك ستودع الحياة ؟ لا تقل إنك مريض أو ما شابه .

ضحك كيوشيرو بسخرية حزينة :

-مازلت متبلد المشاعر كما كنت . وأنا ، الأحمق ، ظننت أنك تغيرت !

لكن فجأة ، تغيرت نبرة صوته ، أصبحت أكثر جدية :

-رين....هل صحيح أنك ستسافر إلى سنغافورة ؟

وضع رين فنجان القهوة على الطاولة بهدوء ، ثم أجاب بنبرة ثابتة :

-أجل ...سأغادر بعد أسبوع .

عقد كيوشيرو حاجبيه بقلق ، وقال :

-هكذا إذا ...

قال رين معتذرا :

-آسف ، لا يمكنني اطلاعك على تفاصيل المهمة . السرية تحكم .

أجاب كيوشيرو بصوت خافت وهو يهز رأسه :

-أعلم ...أنا أعرف هذا العالم أكثر مما تتخيل .

وفجأة ، نهض كيوشيرو من مكانه وعانق رين بقوة .

صدم رين ، كأن العناق باغته من حيث لا يدري :

-ما الأمر ، أيها العجوز ؟ ما الذي يحدث ؟

زاد كيوشيرو من قوة العناق ، كأنما يخشى أن يختفي رين لو أفلت ذراعيه :

-كنت أظن كبرت ....لكن بالنسبة لي ، ما زلت ذلك الطفل .

-كنت أظن أنك كبرت ...لكن بالنسبة لي ، مازلت ذلك الطفل الصغير الذي يحتاج إلى دفء ، إلى حماية ، إلى حب ...

-آسف ، يا رين ...آسف لأنني لم أكن لك أبا حقيقيا . آسف لأنني لم أمنحك ما تستحقه .

أجابه رين بهمس ، وقد خف بريق سخريته المعتاد :

-ما الذي تقوله ؟

لكن كيوشيرو رفع رأسه ، ونظر في عيني رين بعزم :

-عدني ، يا رين ...عدني أنك ستعود سالما . ألا تؤذي نفسك . وأن تعود إلي بخير .

-هيا ، عدني .

تنهد رين ، ثم ربت على ظهره بلطف ، وقال بصوت دافئ على غير عادته :

-أعدك ....سأعود سالما .

-أهذا وعد ؟

-أجل ...وعد .

ثم ارتخت تعابير كيوشيرو قليلا ، وهو يهمس دموعا خفيفة :

-ولا تنس ... أن تنام باكرا ، وتأكل جيدا ، وألا ترهق نفسك ...

ضحك رين ، وهو يبعده عنه :

-اتفقنا ، اتفقنا ! أنت لست أمي ، كفاك بكاء . لقد بللت ملابسي بدموعك ومخاطك ، أيها العجوز !

تراجع كيوشيرو وهو يضحك ، ثم قال :

-يجب أن أذهب الآن .

أوصله رين إلى الباب ، وحين هم بالخروج ، ربت كيوشيرو على رأس رين بحنان أبوي نادر .

أغمض رين عينيه للحظة . وشعر بدفء غريب في قلبه .

-لم أعد طفلا ، أيها العجوز .

ابتسم كيوشيرو :

-الوداع ، يا رين ...

ثم غادر ، وترك رين واقفا في عتبة الباب ، ساكنا كتمثال ، والنسيم المسائي يعبث بخصلات شعره ...كأن الزمن توقف لوهلة بين قلبين لم يتصافحا من قبل هذه الطريقة .

....

مر الأسبوع بسرعة ، كأنه لم يكن سوى رمشة عين .

وأخيرا ....جاء اليوم المنتظر .

في المطار ، كانت أصوات المسافرين تتداخل ، والحقائب تنقلب على عجلاتها ، والنداءات تداع تباعا ، بينما كانت عينا رين ثابتتين على البوابة ، ويده تمسك بحقيبته السوداء بإحكام .

كان الجو مشبعا بالرحيل .

وفجأة ، وقبل أن يتقدم خطوة نحو بوابة المغادرة ، وقف أمامه وجه غير متوقع ....

السيد أوساكا .

توقف رين في مكانه ، والدهشة تملأ عينيه :

-لم أتوقع أن شخصا مثلك ...سيأتي لتوديعي .

ابتسم أوساكا ابتسامة واسعة ، غير معتادة ، وقال:

-حتى أنا لم أصدق نفسي .

سادتي لحظة صمت خفيفة بينهما ، قطعها صوت أنثوي صادر من مكبرات المطار :

-"إلى جميع المسافرين الأعزاء ، الرحلة المتوجهة إلى سنغافورة ستغادر بعد عشرين دقيقة . الرجاء التوجه إلى الطائرة في أقرب وقت ممكن "

-"أكرر . الرحلة المتجهة إلى سنغافورة ستغادر بعد عشرين دقيقة ."

تنهد أوساكا ، وتغيرت ملامحه إلى جدية نادرة :

-انتبه لنفسك ...أيها المحقق .

أم علي أن أقول ...هولمز خاصتنا ؟

لم يرد رين بالكلمات .

جر حقيبته بهدوء ، ثم استدار ، ورفع يده بخفة ملوحا من الخلف .

وابتسامة خفيفة رسمت على شفتيه ، كأنها وعد صامت .

غادر دون أن ينظر للخلف .

ومع كل خطوة كان يخطوها ، كانت المسافة بينه وبين عالمه القديم تتسع .

وتبدأ رحلته نحو المجهول .

2025/05/31 · 21 مشاهدة · 904 كلمة
Amina Mino
نادي الروايات - 2025