الفصل الثلاثون : العيون التي لا تثق
حل الصباح التالي كلمح البصر .
ومع أولى خيوط الشمس التي عبرت ستار الفندق الفاخر ، كان رين قد ارتدى سترته القاتمة ، بنظرات صلبة ونية واحدة فقط :
الوصول إلى زيرو .
أقلته سيارة رسمية إلى مقر الأمن الخاص بسنغافورة . بمجرد أن عبر بوابته ، استقبله رجل ذو ملامح جدية ، مد يده وصافحه بحرارة .
قال بابتسامة محسوبة :
-يسرني قبولك دعوتنا ، أيها السيد إيتاشي رين .
أنا " مورين " ، المسؤول عن هذه القضية .
اكتفى رين بهزة يد سريعة ، ونظرة باردة اخترقت أجواء الترحيب :
-لا حاجة للشكر ، سيد مورين .
لولا أن اسم " زيرو" كان ضمن ملفاتكم ، لما جئت من الأساس .
...ثم أضاف ببطء وهو يثبت نظره عليه :
-أنا المسؤول الوحيد عن الإيقاع بزيرو .
تجمد تعبير مورين لوهلة ، ثم تنحنح قليلا قبل أن يقول :
- تفضل معي إلى المكتب .
....
دخل الاثنان مكتبا واسعا أنيقا لكنه مشبع برائحة الملفات القديمة والضغط .
أشار مورين إلى كرسي أمام مكتبه .
-تفضل بالجلوس .
جلس رين بهدوء ، وعيناه لا تبرحان مورين ، حتى قبل أن يبدأ الحديث .
ابتسم مورين وقال بمرح مصطنع :
-لم أكن أتخيل أن " أعجوبة اليابان " مجرد شاب صغير في العشرينيات .
أجاب رين بهدوء فيه نبرة تهكمية مدفونة تحت احترام بارد :
-سيد مورين ...
رجاء ، ادخل في صلب الموضوع .
لم أقطع كل هذه المسافة لأبادل المجاملات أو أضيع وقتي بلعب الأوصاف كما تفعل .
ارتسم انزعاج خفيف على وجه مورين ،
لكنه أخفى ذلك بابتسامة دبلوماسية وقال :
-حسنا ، معك حق ...
سأطلعك على جميع الملفات المرتبطة بالجرائم فورا .
...
طرق أحدهم الباب فجأة .
-تفضل ، قال مورين .
دخان رجل في الخمسينيات، بشرته سمراء ووجهه يحمل ملامح الصرامة والرفض .
وقف بثقل، ينظر إلى رين كأنه عثرة في طريقه .
قال مورين :
-أيها المفتش جونز ، جئت في الوقت المناسب .
أقدم لك المحقق المبعوث من اليابان : إيتاشي رين .
تأمله المفتش بنظرة ازدراء صريحة ، ثم قال بصوت متهكم :
-هل هذه مزحة ؟
هل قررت اليابان أن ترسل لنا طفلا ؟
نحن نجري تحقيقات هنا ، لا نفتح روضة أطفال .
وقبل أن يكمل كلماته ، انطلقت جملة باردة من رين ، كالسهم :
-أظن أنك أضعت طريقك ، أيها العجوز الخرف .
المتحف الوطني من الجهة المقابلة .
الجو في الغرفة تجمد لثوان .
وجه المفتش جونز أحمر ، وانفجر الغضب في عينيه .
هم بالرد ، لكن مورين تدخل فورا ، يلوح بيده :
-كفى ! دعونا لا نحول هذه المهمة إلى معركة شخصية .
ثم أضاف بنبرة حازمة :
-سيد رين ، هذا هو المفتش جونز ، أحد المشرفين على التحقيق .
أرجو أن تتعاونا ، فالوقت لا يسمح بالخلافات .
رمقه رين بنظرة ثابتة ، دون كلمة .
جونز ، أرجو ، أن ترشده إلى التفاصيل والمستجدات .
وافق جونز على مضض ، واضح أنه يبتلع كبرياءه بصعوبة .
غادر الاثنان المكتب ، خطواتهما متباعدة ، وأصوات أحذيتهما تتردد في الممر .
قال جونز بنبرة ساخرة وهو يسير إلى جانبه :
-الأفضل ألا تعيق طريقي ، أيها الرضيع .
لم يلتفت رين ، فقط تمتم وهو ينظر أمامه بثقة قاتلة :
-لا تقلق ...
فالرضع لا بطاردون الأشباح التي عجز الكبار عن لمسها .
من أحد زوايا الظل ، انفجر صوت ضحكة مكتومة .
يوكيمارو ، الذي كان يراقب المشهد بهدوء من خلف أحد الأعمدة .
لم يعد يستطيع كتمان ضحكته ، فاستند على الحائط وهو يهتز من الضحك .
قال وهو يمسح دمعة خفيفة انسابت من زاوية عينيه :
-أنت ملك الاستهزاء حقا ...
عديم المبالاة كما عهدتك ، وكأنك تمشي فوق الجمر دون أن تحترق .
أجابه رين دون أن يلتفت إليه ، بنبرة حادة وجافة :
-أصمت .
...
بعدها ، ركبا السيارة السوداء التي كانت بانتظارهما ،جلس رين في المقعد الخلفي يقلب الملفات التي أعطاها له مورين .
سأله أحد الحراس :
-سيد رين ، هل ترغب في التوجه إلى مكان معين ؟
أجابه رين دون أن يرفع عينيه عن الأوراق :
-خذونا إلى الموقع الذي وقعت فيه أولى الجرائم .
-مفهوم سيدي .
...
بعد نصف ساعة من القيادة ، توقفت السيارة أمام حديقة على أطراف المدينة .
المكان لا يزال محاطا بشرائط صفراء وأجهزة مراقبة ، تدل على أنه مشهد جريمة لم يغلق بعد .
قال الحارس وهو يترجل :
-هذا هو المكان الذي وجدت فيه الضحية الأولى .
أحاط بالموقع تمثال حجري ضخم لامرأة بأجنحة مكسورة تحمل سيفا .
مكسو بالطحالب ، وعيناه فارغتان كأنهما تراقبان الزمن نفسه .
اقترب رجل أمن من الجهة المقابلة ، بدا عليه التوتر وقال :
ماذا تفعلون هنا ؟ المكان مغلق ، أرجو المغادرة فورا .
رد عليه الحارس وهو يخرج شارة الآمن الخاصة به :
نحن من وحدة التحقيق ، بأمر مباشر من القيادة .
تجمدت ملامح رجل الأمن ، ثم تراجع بخفة وقال :
-عذرا سادتي ...تفضلوا .
تقدم رين ببطء نحو التمثال ، حدق فيه مطولا قبل أن يقول بصوت منخفض :
-أهذا هو التمثال الذي وجدت عليه الجثة ؟
أجابه الحارس :
نعم ، ظهرت الجثة فجأة فوقه مع أول خيوط الفجر...دون أي أثر أو حركة تفسر كيف وصلت هناك.
تشير التقديرات إلى أن وقت الوفاة كان قبل الظهور بثلاث ساعات فقط .
أدار رين عينيه نحوه وقال بهدوء مثير للقلق :
-ألم يثبت التشريح أن الجثة لم تتعرض لأي شيء قد يفسر وفاتها ؟
-تماما ، سيدي .
لم يكن هناك أي دليل على تعرضها للخنق ، الطعن ، التسمم ....لا شيء .
الجثة كانت ...طبيعية ، كأنها توقفت فقط عن العمل .
...
تقدم يوكيمارو واقترب من رين ، كانت عيناه تراقبان ملامحه عن قرب .
قال بابتسامة مائلة :
-أنا أعرف هذا الوجه...
منذ متى جذبك شيء إلى هذه الدرجة ؟
يبدو أن شيئا متميزا حقا قد أيقظ فيك الحماس .
لم يجب رين .
لكن شفتيه ارتفعتا بابتسامة صغيرة بالكاد ترى ...
ابتسامة باردة ...هادئة ...تحمل نذر عاصفة قادمة .