الفصل الواحد والثلاثون : خيوط خفية
وقف رين صامتا ، يتأمل تمثال المرأة ذات الأجنحة نصف المكسورة والسيف الممدود نحو السماء .
كان هناك شيء مأساوي وجليل في تلك الهيئة ، وكأنها كانت تحاول الطيران ...قبل أن يجبرها الواقع على السقوط .
اقترب ببطء، ورفع عينيه نحو واجهة المتحف الوطني الشاهقة ، حيث ينتصب التمثال مباشرة أمام أحد الجوانب لم يكن الموقع عبثيا .
كان كل شيء محسوبا بدقة .
قال رين بصوت منخفض ، دون أن يلتفت إلى يوكيمارو خلفه :
" هذا مجرد تحليل أولي . حسب التقرير ، الضحية الأولى وجدت ميتة هنا . في البداية اعتبرت حالة انتحار ، لأنه عليه ديون ضخمة لم يستطع سدادها ...لكن بعد الجرائم التالية ، صنفت كجريمة قتل ."
تقدم يوكيمارو بخطوة ، وقال :
"بسبب الخنجر والتفاحة الحمراء التي وضعت في الجانب الآخر ؟"
أو مأ رين ببطء :
" تماما . والأمر الأغرب ؟ أن الجريمة كشفت مع أول خيوط الفجر ، أي بعد مور ثلاث ساعات على الوفاة لكن ...كيف سقط ولم يسمع له صوت ؟ وشق بطنه بسيف التمثال بهذه الدقة ؟"
صمت رين لثوان ، ثم أضاف :
" بما أن التمثال يقع عند أطراف المبنى ، فهناك احتمال كبير ألا يلاحظ الحراس لحظة سقوطه . كما أن الكميرات التي تغطي هذه الزاوية ...كانت معطلة ."
أخذ نفسا عميقا وأردف :
" الأكثر حيرة هو أن الجثة لم تظهر عليها علامات تشير إلى قتل مسبق . سقط الضحية بدقة تامة ...على نصل التمثال ."
ثم رفع رأسه فجأة نحو سطح المتحف ، وقبل أن يكمل حديثه ، اندفع بخطى سريعة نحو المدخل الخلفي المؤدي إلى الطابق العلوي . تبعه يوكيمارو ، وقد بدأت ملامح الشك تزداد على وجهه.
بعد دقائق ، وصلا إلى السطح .
بدأ رين يتفحص الحواف الحجرية للمبنى ، يتحرك بعينيه كما لوكان يبحث عن شيء لا يرى .
وفجأة ، توقف .
اقترب من زاوية محددة، جثا على ركبتيه ، وأخرج من جيبه قفازين شفافين .
تمتم وهو يسحب شيئا يكاد لا يرى :
..." ما هذا شعر ؟ لا ...خيط ...خيط شفاف ."
وقف يوكيمارو إلى جانبه ، وانحنى ليرى :
"يبدو كخيط نايلون ، لكنه أقوى ...ربما خيط صناعي مخصص ."
نظر رين إلى حواف السطح ، ثم قال :
" ساعدني في البحث عن المزيد ."
وبعد لحظات ، صرخ يوكيمارو :
"رين ! وجدت واحدا آخر هنا !"
رد رين وهو يواصل تفحصه :
" أنا لم أجد غير الذي سحبته ...لكن ، انظر هناك ."
وأشار بصإبعه إلى عدة زاويا متفرقة :
" آثار احتكاك واضحة ...كانت هناك خيوط أخرى مثبة في هذه النقاط ."
اقترب يوكيمارو أكثر وتمتم :
"كأن شخصا نسج شبكة غير مرئية هنا ..."
قال رين ببرود ، وعيناه لا تفارقان نقطة السقوط :
" الضحية كانت معلقة ...كدمية . بواسطة هذه الخيوط . ثم ، في لحظة دقيقة ...قطعت وسقطت مباشرة على التمثال . لمسة مسرحية ...مدروسة بدقة ."
ثم أكمل بنبرة أخفض ، شبه هامسة :
" هذا يفسر أيضا الخدوش الطفيفة على جسده ...ربما أراد القاتل تغطية آثار الخيوط بخدوش خنجر ."
سكت لحظة ثم رفع عينيه ، وقال:
" لكن ما لا أفهمه ...كيف لم يصرخ الضحية ؟ سقوطه على السيف مباشرة كان يجب أن يجعله يتألم ...يصرخ ...ينهار . ومع ذلك ، لا أثر للصراخ ، ولا مقاومة ، ولا أي علامات قتل مسبق ."
قال يوكيمارو بعد لحظة صمت طويلة ، وهو يبتسم بخفة :
" رين ...هل تعتقد أن زيرو وراء هذا ؟"
لم يجب رين فورا ...
بل ارتسمت على وجهه ابتسامته الخفيفة الغامضة ، تلك التي لا تظهر إلا حين تبدأ خيوط الجنون بالتمدد من تحت ركام المنطق .
ثم التفت نحو يوكيمارو وقال بهدوء :
" ما رأيك ...نقولها معا لمرة واحدة ؟"
أجاب يوكيمارو بابتسامة أكبر :
" لنقلها "
وتحدثا في الوقت نفسه ، بنبرة واحدة :
" لا أعتقد أن زيرو سيرتكب جريمة غبية كهذه ...ويترك دليلا واضحا كهذا ."
...
بعد دقائق من اكتشاف الخيوط في أعلى سطح المتحف ، نزل رين برفقة يوكيمارو عبر الدرج الخلفي ، ملامح الجدية لا تزال مرتسمة على وجهه.
بمجرد وصوله ، التفت نحو الحارس المرافق وقال بنبرة حازمة :
" أريدك أن تجمع كل الحراس الذين تواجدوا في المتحف وقت وقوع الجريمة . الآن "
لم تمض سوى لحظات ، حتى اصطف خمسة حراس أمام رين ،والتوتر باد على وجوههم، أنفاسهم متقطعة ، وكأنهم يعلمون أن مجرد نظرة واحدة خاطئة قد تجعلهم مشتبهين .
جلس رين على مقعد خشبي ، وضع ساقا فوق الأخرى ، ثم نظر إليهم بنظرة خالية من العاطفة. حادة كالسيف .
قال بنبرة هادئة لكنها مشحونة بالتوتر :
" أريد أن أسمع من كل واحد منكم ...أين كان ، وماذا كان يفعل وقت وقوع الجريمة ."
تقدم الأول خطوة إلى الأمام وقال بصوت متردد :
" كنت أقوم بدورية في الجانب الآخر من المتحف ، الجهة الشرقية ."
ثم قال الثني : أنا كنت في القاعة أراجع سجلات الدخول والخروج .
أومأ رين بهدوء، ثم سأل بنبرة أكثر حدة :
ومن منكم كان مكلفا بالحراسة خارج المتحف ؟"
تردد أحد الحراس ، ثم رفع يده :
أنا ، سيدي
ثبت رين نظراته عليه ، عينيه كأنهما تخترقان صدره مباشرة ثم قال بنبرة منخفضة لكنها كالسيف :
وماذا كنت تفعل بالضبط ...لحظة وقوع الجريمة ؟"
ثم أضاف بصوت أكثر قسوة ، وهو يحدق فيه بنظرة قاتلة :
إن لم تخبرني كل شيء ...حرفيا ، كل شيء ، سأعتبرك مشاركا في الجريمة .
ارتبك الحارس ، تلعثم ، تصبب العرق من جبينه، وكأن الكلمات خرجت من فمه رغما عنه :
"في ...في الحقيقة ، كنت أعاني من إسهال حاد تلك الليلة ...كنت أذهب كل بضع دقائق إلى الحمام الموجود في الطابق السفلي ."
نظر إليه رين نظرة طويلة ثم سأله بهدوء مشوب بالريبة : ومتى آخر مرة ذهبت فيها إلى الحمام ؟"
أجاب الحارس وهو يحدق في الأرض :
قبل ساعة تقريبا من اكتشاف الجثة ...شعرت بألم حاد في البطن ، فذهبت للحمام ، وبقيت هناك وقتا أطول من المعتاد ."
ضيق رين عينيه ، ثم سأله :
"ما الذي أكلته في ذلك اليوم ؟"
رد الحارس بعد لحظة تردد :
" تناولت ...شريحة لحم من المطعم المجاور ."
وهنا ، وعلى غير المتوقع ، ابتسم رين ابتسامة خفيفة بالكاد ترى ، وأمال رأسه قليلا إلى الجانب ، وكأنه تحدث إلى نفسه :
" أجل ...الأمور بدأت تتضح ."