الفصل السادس والثلاثون : ظلال لاتنمي لضوء

كان الضوء المتسلل من النوافذ ينكسر على الأرضية الرخامية الباردة كأنه شظايا زجاج ، يعكس ظلالا باهتة على وجه رين الجالس على المقعد الجليدي . ساق فوق ساق ، ويده ترتكز على ذقنه ، بينما يتوارى نصف وجهه في الظل كتمثال تصف غارق في الظلمة .

في الجهة المقابلة ، جلس المفتش جونز ، ملامح الضيق والحذر منقوشة بوضوح على قسمات وجهه ، يعقد ذراعيه كمن يتمنى لو تنتهي هذه اللحظة . أمامورين ، فبدا أقل توترا ، لكنه ظل يراقب الاثنين كمن ينتظر انفجارا وشيكا .

قال جونز بنبرة ساخرة ، وكأنه يجر ذيله خلف كل كلمة :

" إذا ، أيها الطفل المعجزة....فاجئنا . أرنا عبقريتك ."

رفع رين عينيه الباردة إليه ، وابتسامة مائلة تسللت إلى شفتيه دون استعجال ، ثم قال :

" كلامك هذا ...يدل على اعتراف مبكر بالهزيمة ، وإقرار صريح بي ، رغم محاولتك إخفاءه ."

عقد جونز حاجبيه وقال بخشونة :

" دعنا نغص في الأمر مباشرة، من دون مسرحيات ."

ارتكز رين إلى الخلف، ظله الطويل يمتد خلفه، ثم تحدث بنبرة هادئة لكن مشحونة :

" ليكن في علمكما ....الجاني ليس شخصا واحد. نحن لا نواجه قاتلا منفردا بل شبكة ، أو على الأقل كيانا أكبر مما تتخيلان ."

شهق مورين بخفوت ، وحدق فيه بدهشة:

" هل ....هل هذا يعني أنك تستبعد زيرو؟ وتعتقد أننا نتعامل مع أكثر من شخص؟ "

قاطعهم جونز بسرعرة وبنبرة حادة :

" هذا عبث ! التفاحة والخنجر هما توقيع زيرو ،لا مجال للشك في ذلك! "

رمقه رين بنظرة فيها ازدراء صامت، ثم قال: " هل أنتم حمقى؟ لماذا يترك زيرو اليبان، ويأتي ليرتكب جرائم في سنغافورة؟ وفي الوقت ذاته كانت هناك جرائم باسمه ترتكب على أرضه ! هل تظنونه خارقا؟ أم تسافر بصماته وحدها؟ "

تجمدت ملامح جونز، لكنه صرخ:

" لا أحد غيره يفعل هذا! من يكون إن لم يكن هو ؟"

أغمض رين عينيه للحظة، ثم فتحهما ببطء وقال ببرود جليدي:

" لو رأيت جرائم زيرو عن قرب ...لرأيت الجحيم نفسه، ولتمزقت أعصابك . زيرو ليس مجرد قاتل متسلل، إنه داهية. وحش يرقص مع الموت ويتغذى على الخوف ."

تدخل مورين بنبرة مشككة وهو يحدق في رين:

" يبدو وكأنك ....تدافع عنه ."

" أنا لا أدافع عنه ." قال رين وهو يسحب خصلات شعره عن عينيه. أنا أفهمه . أسلوبه واضح ، لا يختبئ ،لا يترك دلائل غبية ، بل يواجه ضحاياه ، يجعلهم يتوسلون بين يديه ، يتلذذ ببطء عذابهم . أما الخنجر الذي يستخدمه ...فهو خنجر زجاجي أسود ، تتوسطه جمجمة صغيرة تنزف دما. يتركه على التفاحة بدقة ، كأنها لوحة فنية ."

تنهد مورين ببطء وهو يقبض على فكه :

" رغم ذلك ، مازال احتمالا قائما ."

رين وقد بدأ الضيق في صوته : " زيرو لا يستعمل بيادق ، لا يحتاجها أصلا . خلف كل جريمة يترك توقيع روحه ، لا مجرد بصمة . أنا المسؤول المباشر عن قضية زيرو ...وقد رأيته أمامي ، بعيني . ذلك الشيء ....ليس بشريا ، إنه شيطان متنكر بهيئة رجل ."

تسللت رعشت خافتة إلى يد مورين، وساد الصمت لثوان :

قال جونز أخيرا ، وكأنه يتحدى :

" ومن يكون القاتل إذا ؟"

ابتسم رين ، وهالة من الغموض تلفه :

" سأخبرك . لكن بالتدريج . لاتنفجر قبل أن تعرف كامل الحقيقة ."

تابع مورين بتركيز:

" هل لديك دليل ؟"

رفع رين عينيه الزرقاوين بثبات وقال:

" بل أكثر من دليل .لدي شريحة رقمية، ليست بحوزتي الآن ، لكنها تحتوي على تسجيلات مثيرة للغاية ....تظهر تحركات لم تكن في الحسبان ."

صاح جونز:

" فلنعتقل الحارس فورا !"

هز رين رأسه :

" ليس بهذه السهولة . سننصب فخا أولا . فخا لاستدراج الضيوف الحقيقين خلف الستار . الحارس ليس إلا بيادق تحرك عن بعد .

قال مورين ببطء :

" فخ ؟"

أجل ،" اجابه رين بثقة ، " من خلال مراقبة الحارس . إن كان مراقبا من طرفهم ، فتصرفه غير المتوقع سيجبرهم على التحرك ...وعندها ، سنكتشفهم ."

همس مورين وكأن شيئا خطيرا بدأ يتضح :

" لكن ....مادوافعهم ؟ لماذا يفعلون هذا ؟ "

نظر رين إلى الفراغ لثوان وقال :

" لا أعلم بعد لكن شيئا واحد مؤكد....جرائمهم ليست عبثية ، إنها مدروسة بدقة . على عكس زيرو الذي يقتل للمتعة ، هؤلاء يخططون لشيء ....أكبر ."

صمت جونز ، كأنه بدأ يتزعزع :

أضاف رين :

" اسمحوا لي بالتحقيق مع الحارس....بمفردي . أنتم قوموا بمراقبة المكان في الخفاء . حين يتحرك في الظل ....سأكون مستعدا ."

رن هاتف مورين فجأة ، قاطع اللحظة بحدة .

" عذرا ، اتصال مهم ....أرجو الانتظار ."

وبعد دقائق عاد قائلا :

" آسف على المقاطعة ....أين كنا ؟"

ابتسم رين بخفة وقال:

" في المكان الذي تصبح فيه الحقيقة قريبة جدا من أن تحرق ."

وافق مورين أخيرا ، لكنه تمتم :

" إذا شعرت بخطر ، سنتدخل فورا . "

نهض رين من مقعده :

" مفهوم . لكن لا تتأخروا حين تسقط الأقنعة ."

خرج رين من القاعة . وصوت خطواته يذوب بين الجدران . تبعه جونز وهمس من بين أسنانه ، بينما قبضته تنغلق ببطء كمن يخنق شيئا في الهواء :

" يبدو أنني سأضطر بالاعتراف ...بهذا الفتى ليس مجرد متغطرس . لكن ...."

إنه يثير اشمئزازي أكثر مما توقعت ."

2025/06/26 · 16 مشاهدة · 849 كلمة
Amina Mino
نادي الروايات - 2025