الفصل الثامن والثلاثون : ظل في ضوء الصباح

كان الصباح قد أزاح عباءة الليل، ومع اول خيوط الشمس التي تسللت بخجل عبر شرفة الغرفة، وقف رين أمام المرآة ،يعدل ربطة عنقه السوداء بهدوء. انعكاسه في الزجاج بدا باردا .

خلفه ، تحرك يوكيمارو بصمت، ثم قال بصوت ناعم خنقه القلق :

-" رين...سأذهب معك ."

أجابه رين بينما يرتب سترته :

-" ليس عليك ذلك. لا أريد إرهاقك أكثر ."

لكن فجأة، كسر يوكيمارو حاجز الصمت، وصاح بانفعال لم يعيده رين من قبل :

-" لكني أريد ذلك !"

ثم خفض صوته ، وكأن مشاعره سبقت لسانه :

-" آسف...كل مافي الأمر أنني...قلق .ماذا لو أصابك مكروه ؟ حينها ...ماذا سأفعل ؟"

ارتسمت على ملامح رين دهشت خفيفة، عيناه اتسعتا قليلا ...لم تكن صرخة بل كانت رجاء. للمرة الأولى ، شعر بصوت يوكيمارو يخترق صلابته .

ابتسم رين ابتسامة خفيفة، وهو يمرر أصابعه بين خصلات شعره ، ثم رفعها وقال بنبرة ساخرة نصف جادة:

-" حسنا ، لك ذلك . هل توافق ، ياسيدي الشبح، أن تكون حارسي الشخصي اليوم؟ "

لمعت عينا يوكيمارو القرمريتان بوميض لا يشبه سواه ، ثم أجاب بكل جدية :

-" لن أدع شعرة تنتزع منك ، ياسيدي المحقق. أعدك بذلك ."

خرج الاثنان من الفندق ، يسيران بمحاذاة الجدران ، حتى توقف رين فجأة ، واخفى نفسه خلف أحد الأعمدة . نظر بحذر نحو نهاية الطريق حيث كان يقف اثنان من الحراس الشخصيين يراقبون الفندق عن كثب .

رين بنبرة ضيق :

-" يبدو أن ذهابنا لن يكون بهذه السهولة ...."

يوكيمارو بخفة ظل وابتسامة واسعة :

-" أجل ...أولئك الحراس لن يدعوك تذهب بمفردك. هذا سيعرقل خطتك .لكن لا تقلق، شبحك بجوارك اليوم ."

ثم اختفى في الهواء...

تسلل بخفة إلى حيث وقف الحارسان ، نقر على كتف أحدهم ، وحين استدار لم ير أحدا . قال الحارس لزميله:

-" هل لمستني ؟"

أجابه الآخر بحدة:

-" أنا بعيد عنك يا رجل، هل تهذي؟ "

لكن لم ينتهي الأمر عند هذا الحد .فجأة ، انهار الحارس مغشيا عليه ، ثم تبعه الآخر ، قبل أن يدرك ما الذي يحدث .

عاد يوكيمارو إلى رين، التقطه من يده وهمس بحماسة :

-" اركض ."

ركضا بين الازقة ، حتى توقفا يلتقطا أنفاسهما ، متكئين على جدار حجري قديم خلف أحد المتاحف .

قال رين وهو ينظر إليه ببرود ممزوج بالاستغراب :

-" لم اتوقع منك تصرفا طاىشا كهذا ."

ضحك يوكيمارو بصوت مرتفع، وكأن الدماء بدأت تغلي في عروقه من جديد:

-" ههههه ! أليس ممتعا ؟! يذكرني بالأيام الخوالي ..."

رنت العبارة في هواء الصباح، فتجمد رين للحظة .نظر إليه :

-" الأيام الخوالي ؟"

توقف يوكيمارو عن الضحك ، وكأن عقله أدرك زلة لسانه . أدار وجهه إلى الجانب وقال بسرعة، متوترا :-" دعك مني...لا تلق بالا لكلامي ."

ثم تابع وهو يمشي مبتعدا :

-" إذا... هل نذهب ؟"

أومأ رين بهدوء:

-" حسنا. ليس أمامنا وقت نضيفه ."

سار يوكيمارو خلفه بخطوات بطيئة ، قبضتاه مشدودتان ، يحدق في الأرض بنظرات جامدة :

-" سحقا ....لم أستطع التخلص من عادتي ."

-" يوكيمارو! " ناداه رين ، دون أن يلتفت، بنبرة صارمة .

-" لماذا تقف هناك كالحمقى ؟هيا ."

أجابه يوكيمارو بضيق وهو يلحق به :

-" هاه ...أصمت انا قادم ."

ومع خطواتهما التي تبتلع الرصيف ، بدأ الصباح وكأنه يجهز نفسه ليشهد بداية خيط جديد في تلك المتاهة المظلمة ...

توقف الاثنان أمام مبنى قديم الطراز ، واجهته الحجرية صامتة ، والنوافذ مغطاة بستائر سميكة تمنع الضوء من التسلل . رفع رين عينيه إلى الأعلى وهو يحدق في الطابق الثالث ، حيث كانت إحدى النوافذ نصف مفتوحة .

قال بنبرة باردة:

-" إذا ...هل ضيف الشرف موجود في الأعلى ؟"

اومأ يوكيمارو بخفة دون أن يبعد عينيه عن المبنى :

-" يبدو أنه كذلك ."

اقترب رين من الباب الخارجي ، وضغط على الجرس ، رنينه الخافت كأنه همسة ميتة في الصمت .

انتظر ...لكن لم يجب أحد .

رفع حاجبه ، ثم قال بصوت عال ببرود مخيف :

-" للعلم فقط ، أعلم أن اليوم يوم عطلتك ...واعلم انك في هذه اللحظة تحديدا داخل شقتك ، لذا افتح الباب ...قبل أن أحطمه على راسك الخشن ."

ثوان فقط مرت ...ثم انفتح الباب ببطء ، وظهر الحارس ، ملامحه منهكة ، وعيناه متوترتان وهو يقول بصوت متلعثم :

-" آه ....ألست ....المحقق الياباني ؟ ما كان اسمك ....آه السيد رين ، صحيح ؟"

اجابه رين بنبرة جليدية وهو يخطو للداخل :

-" أنا لست هنا من أجل تعارف . لماذا استغرقت كل هذا الوقت لفتح الباب ؟"

-" آه ...أنا أعتذر بشدة ، ظننتك شخصا آخر . كان هناك من يزعجني سابقا ، لهذا كنت حذرا ...."

قالها وهو يتحاشى النظر إلى عيني رين .

رد رين وهو يتقدم للداخل :

-" حسنا ... لا بأس . دعنا نكمل حديثنا بالداخل ."

جلس رين على الأريكة القريبة من الشرفة ، في حين غاب الحارس للحظات ، ثم عاد يحمل كوبين من القهوة ، وضع أحدهما أمام المحقق . أخذ رين الكوب وقال بهدوء :

-" شكرا ."

راح يتأمل المكان بنظراته ، تفاصيل الشقة كانت بسيطة ، لكنها تفضح التوتر الذي يعيشه صاحبها . نظراته تحركت نحو الجدران ، ثم نحو رف الكتب ، ثم عاد نحو الحارس .

-" بالمناسبة ...هل تعيش وحدك ؟ لست متزوجا ، صحيح ؟"

تردد الحارس ثم قال بابتسامة متوترة :

-" أجل ، أعيش بمفردي ...فات الأوان على ذلك ."

ثم أضاف بصوت خافت وقد بدأ يتصبب عرقا :

-" لكن ...ما الذي دفعك لزيارتي اليوم ، ياسيدي المحقق ؟

ارتشف رين رشفة من القهوة ، ثم مال بجسده إلى الأمام قليلا ، وضع كفه على خده ، وابتسم تلك الابتسامة الباردة التي تنبئ بأن خلفها عاصفة :

-" آه ، ذلك ...ببساطة ، جئت لأقبض على المجرم ."

تجمد الحارس . ارتعشت يداه . الكوب كاد يسقط من قبضته .

-" مجرم ؟! ها؟...." بصوت مرتعش ، بينما عينيه تهرب من التقاء نظرات رين .

رفع رين عينيه ، نظرة قاتلة ، حادة كأنها تخترق أعماقه :

-" أرجوك ....لا تتغاب . أنت تعلم أنني اقصدك ...أليس كذلك ؟"

سكت الحارس . صدره يرتفع ويهبط كأن الهواء يهرب منه . العرق أنساب على جبينه . صوت رين وحده كان كفيلا بإيقاف قلبه لثوان .

كان الصكت في الغرفة ثقيلا ...حتىالهواء توقف عن الدوران .

الحقيقة اقتربت ، والخوف بدأ يرسم ملامحه على وجه رجل لم يتوقع أن يمسك هكذا ...دون أن يطلق رصاصة واحدة .

2025/06/29 · 16 مشاهدة · 1036 كلمة
Amina Mino
نادي الروايات - 2025