الفصل التاسع والثلاثون : صدى الجريمة

جلس الحارس على المقعد المقابل، أنفاسه تتسارع، بينما كانت قطرات العرق تتسلل من جبينه رغم برودة الجو . عيناه لم تكن قادرة على ملاقاة عيني رين ، الذي كان ينظر إليه بثبات كأن عينيه شفرتا سيفين تسكنان الظلال .

انفجر الحارس بنفاد صبر :

" أيها المحقق! ما دليلك ؟! أنت تقتحم بيتي و تتهمني فجأة ...هل تهزأ بي ؟!"

لم يجبه رين في البداية . فقط تنهد ببطء، وكأن أنفاسه تمعن التفكير في الكلمات قبل أن تتسلل ببرود قاتل : " هل تظن أنني جئت لأقول هراء ؟"

ارتجف الحارس ، وتلعثم :

" طبعا لن أسمح لك باتهامي دون دليل ...إن لم تكن تملكه ، سأبلغ عنك فورا !"

هنا ، ارتسمت ابتسامة باهتة على شفتي رين، لكنها لم تكن ودية .

" و من قال إني لا أملك دليلا ؟"

مال قليلا للأمام ، وأضاف بصوت منخفض يحمل شيئا من التهديد :

" منذ اللحظة التي التقيتك فيها ...عرفت أنك المجرم . دهشتك ، نظراتك ، نبرة صوتك ...كلها كانت تصرخ بأنك تخفي شيئا ."

انفجر الحارس غاضبا ، يحاول الوقوف لكنه تراجع :

" هذا مجرد تحليل نفسي ! أي شخص كان سيتصرف هكذا تحت الضغط !"

" اهدأ ، لم أبدأ بعد ..."

مد رين يده إلى جيبه وأخرج علبة صغيرة ، وضعها على الطاولة ، وعيناه تراقبان كل ذبذبة في وجه الرجل المرتجف .

" هل تعرف ما هذا ؟"

حدق الحارس في العلبة ، وجهه بدأ يتلاشى لونه تدريجيا .

" هذا ...هذا ليس ....!"

" بل هو . الدواء الذي دسسته لزميلك ...ليتعرض لإسهال حاد ليلة وقوع الجريمة . نفس النوع ، نفس العبوة ."

قال الحارس بتوتر :

" وهل تظن أن هذا كافي لاتهامي ؟! هذا جنون !"

اقترب رين أكثر ، صوته منخفض كأنه يحفر الحقيقة في الأرض :

" أنت شخص بخيل حسب شهادة زملائك ، لا تدفع حتى ثمن قهوتك ، وفجأة تعزم زميلك على طبق لحم فاخر ؟ لماذا ؟ آه ...لأنه كان عليك أن تجعله يغيب عن المشهد تماما ."

التزم الحارس الصمت ، بينما عروقه تخفق بقوة في عنقه .

واصل رين . وعيناه تضيقان كمن يرى الصورة بوضوح شديد :

" وفي اللحظة التي خرج فيها زميلك ليتلقى اتصالا ، كانت فرصتك لدس الدواء . لا تكن أحمق وتنكر ."

رفع الحارس صوته :

" حتى لو كان ما تقوله صحيحا ، لا يوجد دليل مادي على أنني صعدت إلى السطح !"

ابتسم رين بسخرية باردة :

" بل يوجد . المكان الذي تواجدت فيه عند مراجعة سجلات الزوار هو نقطة ميتة للكاميرات ، وهناك درج خلفي للطوارئ يؤدي مباشرة إلى السطح . لم تكن بحاجة لتعطيل كاميرات إضافية...لقد استغليت الظل ببراعة ."

ثم أشار إلى يد الحارس :

" وذاك الجرح في يدك اليمنى ؟ ناتج عن احتكاك الأسلاك التي استخدمتها لربط الجثة ةسحبها بدقة إل الزاوية التي ستسقط فيها فوق التمثال ."

غطى الحارس الجرح غريزيا ، وعض على شفتيه السفلى .

" أوه ، لا تنكر ، فلدينا أيضا بقايا من تلك الأسلاك ...و" ... مد رين يده إلى جيبه مجددا ، وأخرج شريحة رقمية صغيرة .

وضعها أمام الحارس .

" وهذه ...ألا تبدو لك مألوفة ؟"

شهق الحارس لا إراديا :

" كيف ...كيف وصلت إليك ؟!"

رفع رين حاجبه:

آه ...زلة لسان جميلة ."

ثم أكمل :

" إن أنكرت مجددا ، يمكنني إرسال الشريحة إلى قسم التحليل الجنائي . بصماتك ستفصح بكل شيء . إنها نفس الشريحة التي استخدمتها لتجميد شاشة المراقبة ."

صمت ثقيل خيم على الغرفة ، وكأن الهواء بدأ يثقل فجأة . رن صوت رين مجددا ، بنبرة منخفضة مميتة :

" وإن حاولت الهرب ...فأحب أن أذكرك أن الشرطة تحاصر المبنى الآن . وإن لم يمسكوا بك ، فأولئك الذين وظفوك سيتكفلون بقتلك . أنت لم تكن سوى قطعة شطرنج في لعبتهم ، لا أكثر ."

اقترب برأسه قليلا من الحارس ، وحدق في عينيه مباشرة :

" والآن ...أخبرني ...أخبرني ...من طلب منك ارتكاب هذا ؟"

ابتلع الحارس ريقه ، وقد أدرك أن اللعبة قد انتهت . أسند مرفقيه إلى ركبتيه ، ودفن رأسه بين يديه ، قبل أن تنفجر ضحكة هستيرية من صدره ، ضحكة مجنونة ارتدت صداها في أنحاء الغرفة .

قال بصوت مبحوح مليء بالانكسار والسخرية :

-أجل ...معك حق ...أنا من ارتكبها .

ثم رفع رأسه ببطء ، وابتسامة منهارة تعلو ملامحه :

-هل تريد أن تعرف من كلفني بذلك ؟ بالطبع سأخبرك ...فأنا لا أنوي الذهاب إلى قاع الجحيم بمفردي .

لكن فجأة ....

تجمدت ملامح رين .

شيء ما لم يكن طبيعيا ....

نقطة حمراء صغيرة ارتكزت على جبين الحارس ، وكأنها تنذر بنهاية صامتة وقريبة .

بحدس الصياد التفت رين ناحية الشرفة بسرعة خاطفة .

انعكاس زجاجي بعيد ....ووميض بارد ...

همس في نفسه ، وعيناه تتسعان :

- مستحيل ....

قفز فورا نحو الحارس ، صائحا :

-أيها الحارس ! انتبه --

بوووم !

طلقة نارية مزقت زجاج الشرفة ، واخترقت رأس الحارس بقوة مروعة .

انفجر الدم كنافورة قاتمة ، وتناثر الزجاج في أنحاء الغرفة .

أما الطلقة الثانية فقد اخترقت الجدار بقوة ، وارتدت على الخشب ، قبل أن تسكن في الصمت.

سقط جسد الحارس ببطء إلى الخلف ، مغمورا في بركة من الدماء ، وعيناه مفتوحتان ، كأنهما مازالتا تحاولان قول الاسم الذي لن يقال .

رين ظل يحدق ، أنفاسه متسارعة ، نظراته متجمدة ...

الصمت كان ثقيلا ...

لكن داخله ، شيء واحد فقط يتكرر:

" لقد كنت على بعد ثانية من الحقيقة ...والآن مات الدليل الوحيد ."

2025/07/02 · 15 مشاهدة · 886 كلمة
Amina Mino
نادي الروايات - 2025