الفصل الثالث والأربعون : ابتسامة بين الدخان...وصدى الجثث.
كان صباح اليوم التالي محملا برائحة الغموض ...
السماء ملبدة بغيوم داكنة تميل إلى السواد ، والضباب يزحف بثقل فوق المدينة كأن شيئا ما يخفيها ، أو ربما ...يبتلعها .
فتح رين عينيه ببطء ، وجهه شاحب بعض الشيء ، ملامح توحي بأرق ليلة مشبعة بالأفكار .
جال بنظره إلى الطاولة الصغيرة بجانب الشرفة ...الظرف الأسود لا يزال هناك ، وكأنه يحدق فيه .
تمتم رين ببرود وهو ينهض من السرير :
" مازلت هنا؟...كما توقعت ، أنت لست حلما ."
بعد حمام سريع وارتداء بدلة رمادية داكنة ، نادى :
" يوكي؟ هل أنت هنا ؟"
لكن الصمت كان الجواب الوحيد .
اقترب من الباب ، حيث لمح ورقة صغيرة لاصقة .
قرأها بصوت خافت :
" لا تقلق علي ، هناك عمل سأنجزه وأعود ."
أومأ رين برأسه بخفة وقال بابتسامة باهتة :
"همف ، كأنك تعرف أنني سأقلق."
اتجه بعدها نحو مركز الشرطة ، وبينما كان يهم بالدخول ، التقى وجها مألوفا أمام المدخل ...المفتش جونز .
كان التوتر في الجو قابلا للقطع بسكين ، نظرة ثابتة بين الاثنين وكأن معركة ستشتعل .
لكم المفاجأة ...أن جونز هو من كسر الصمت أولا .
وضع يده على جبينه وتنهد بتعب :
" إذا ...كيف حالك ؟"
ارتفعت إحدى حاجبي رين بدهشة ، نبرة الاهتمام لم تكن مألوفة من رجل مثل جونز .
قال بهدوء بارد :
" شكرا ...لاهتمامك، أيها المفتش جونز."
رد جونز وهو يشيح بنظره بسرعة :
" لا تسئ الفهم ، فقط لا أريد أن تعيقنا إصابتك ."
ابتسم رين بخفة ساخرة :
"بالطبع ، فهمت ذلك جيدا ."
ومضى ليكمل طريقه ، لكن يد جونز أمسكت بذراعه فجأة .
" انتظر "
استدار رين باستغراب .
قال المفتش بصوت أكثر لينا هذه المرة :
" بالمناسبة ...والدة تلك الفتاة . نجت تجاوزت مرحلة الخطر ."
توسعت عينا رين قليلا ، وتوقف للحظة كأن الكلمات نزلت على صدره برفق .
" كيف عرفت أنني كنت قلقا بشأنها ؟" بصوت منخفض .
نظر جونز مباشرة إلى عينيه :
" وكيف تخدع عيني ؟ ....رغم برود وجهك . إلا أنني رأيت كل شيء ...في ذلك الوقت كان الأمر واضحا ."
ظل رين يحدق فيه ...ثم قال بابتسامة دافئة حقيقية ، نادرة : " شكرا ...لم أكن أعلم أنك تلاحظ من حولك بهذا الشكل ."
جمد جونز في مكانه للحظة ، الدهشة تملأ ملامحه :
" مستحيل ...هل هذا الطفل المتحجر ، ابتسم للتو ؟!ويا لها من ابتسامة ...."
دون أن يدرك مايفعل ، رفع يده ووضعها فوق رأس رين ، وبدأ يربت عليه بلطف .
شعر رين بذهول ...
" رغم كل شيء ...يده دافئة .دافئة أكثر مما ظننت."
لكن ما قاله جونز بعدها هو ما حبس أنفاسه :
" إنك ...تشبهه."
"هاه؟من؟" قالها رين متفاجئا .
ارتبك جونز فورا ، وتراجع خطوة للخلف :
" آه ...كنت أتمتم فقط .تجاهل الأمر ."
قبل أن يكمل رين سؤاله ، اقتحم أحد الضباط المشهد وهو يلهث بشدة ، أنفاسه متقطعة :
" أيها المفتش جونز ! بلاغ عاجل ...تم العثور على جثتين ، لرجلين في الأربعينات من العمر ، مرميتين في الميناء القديم لسنغافورة ، الساعة التاسعة صباحا !"
تغيرت ملامح جونز ، وأجاب بصرامة :
" ماذا؟!"
أما رين ، فشد ربطة عنقه وقال بجمود :
" إذا ...لننطلق ، أيها المفتش . يبدو أن صباحنا سيكون أكثر ظلمة من غيوم اليوم ."