الفصل الرابع والأربعون : خيوط تتلاشى في الضباب

كان الصباح مختلفا عن أي صباح آخر .

رغم أن الساعة اقتربت من الحادية عشر ، بدا الميناء وكأنه غارق في عالم آخر ، لا ينتمي لهذا الزمن .

الغيوم السوداء تزحف ببطء السماء الرمادية ، والضباب الكثيف يبتلع الأفق حتى صار من الصعب التمييز بين البحر واليابسة ،أما الهواء فكان مشبعا برائحة غريبة ...

مزيج خانق من المعدن ، والملح ، ودم قان لم يجف بعد .

مصابيح الإنارة المشتعلة على أطراف الميناء كانت تومض ، كما لوكانت ترف بعينيها داخل كابوس،

وفي خلفية المشهد ، تعالت أصوات الغربان، تحوم في السماء بهلع ، وكأنها تنعى من رحلوا ...أو تتأهب لتلتهم الباقين .

ترجل رين والمفتش "جونز "من السيارة بخطى متسارعة ،تسبقها أنفاس ثقيلة مشبعة بالحذر .

تقدم نحوهما أحد الضباط ورفع يده بتحية رسمية :

" سيدي المفتش ، سيدي المحقق ، أهلا بكما ...من فضلكما ، اتبعاني إلى موقع الجثتين ."

دخلوا عبر ممر ضيق تحجبه حاويات ضخمة وقديمة، حتى ظهرت أمامهم الجثتان ...

الجثة الأولى كانت مستندة إلى الحائط الخلفي للمستودع ، وكأنها رسمت عمدا لتصنع لوحة سريالية من الدماء .

رأسها متدلي ، والدم ينزف من قفحها المفتوح ، تاركا أثرا طويلا بلون الغروب القاني .

أما الثانية ، فكانت مستلقية على الأرض ، رأسها مشقوق بوحشية ، وبدا من المخ ظاهرا بشكل مرعب .

كان المشهد أشبه بكابوس خرج للتو من عقل فنان مجنون .

تقدم " جونز " ببطء ، وقلبه يخفق بثقل :

" كم تقدرون وقت الوفاة ؟"

أجابه الضابط وهو يسلم الملف :

" ما بين الساعة السادسة والسابعة صباحا ، سيدي .والسبب...ضربة قوية موجهة إلى الرأس ."

التقط رين الملف بعين ثاقبة، تصفح الصور والمعلومات ،وفجأة توقف، حدق في إحدى الصور وارتفع حاجباه .

" هذان الرجلان ..." تمتم بنبرة منخفضة .

استدار إليه جونز فورا :

" ما الأمر ؟"

أغلق رين الملف ببطء وقال بجمود :

" كنت سأفابلهما هذا الأسبوع ...لأنهما المتشبهان الرئيسيان في جريمة المستودع والمطعم . والآن ...ماتا ."

زم جونز شفتيه ، وقبض حاجبيه بحدة :

" إذا ...الجاني الذي خلف الكواليس قرر التخلص من قطع الشطرنج التي لم تعد تخدم لعبته ."

" رين " أومأ بثقل ، عينيه تحترقان بالتحليل والغضب: " لقد علم أنني اقتربت ، فأراد أن يطمس الخيط الأخير قبل أن أمسك به ...إنه حذر ، شديد الذكاء ، ولا يتردد في القتل حين يشعر بالخطر ."

" جونز " وهو يضع قفازيه بهدوء :

"وربما أيضا ...يتحداك، يا رين ."

رد رين وهو يرتدي قفازه ، بعينين لا ترمشان :

" إذا كان كذلك ...فليعلم أن التحدي قد بدأ للتو ."

جثى رين على ركبتيه ، يتفحص الجثتين بدقة محنكة لا تخطئ ، كأن عينيه عدستين تسبران أعماق المجهول .

بجواره ،انحنى المفتش "جونز " دون أن ينبس بكلمة ، يداه ترتجفان بخفة من هول المنظر رغم صلابته الظاهرة .

اقترب رين من الجثة المستندة إلى الحائط ، مد يده بثبات وأمسك وجهها برفق بارد...

فتح الفم ، راقب الداخل ، ثم رفع الجفنين قليلا ، إلى أن ظهرت العينان بالكامل .

وفجأة ، همس بنبرة متهجمة :

" هاه...هذا غريب ."

نظر إليه جونز فورا :

" ما الأمر يا رين ؟"

أشار رين بإصبعه ، وعيناه لا تبارحان محجري العين :

" انظر إلى بؤبؤ العين ...حجمه أكبر من الطبيعي بكثير .وكأن العين كانت على وشك الانفجار. والأوعية الدموية بارزة بشكل غير معتاد ...بالإضافة إلى هذه الهالة السوداء تحت الجفن السفلي ."

اقترب جونز، ثم اتجه إلى الجثة الثانية ،وأعاد الفحص بنفسه الطريقة .

" اللعنة ...إنها تعاني نفس الأعراض تماما ."

نهض رين قليلا ، وأخذ نفسا عميقا وسط ذلك الهواء المسموم برائحة الحديد المحترق .

" ربما...نزيف داخلي في الدماغ ؟لكن لا يبدو السبب مجرد ضربة ...الأمر أعمق من ذلك ."

توقف رين فجأة .

ضاقت عيناه وهو يحدق أسفل كم القميص للجثة ،ثم همس: " انتظر ...ماهذه البقعة ؟"

أمسك بذراع الجثة ، ورفع كم القميص ببطء، كمن يزيح الستار عن سر غامض .

هناك ، على كامل الساعد ، كان الجلد مغطى بطبقة حمراء مشتقة .طفح جلدي عنيف ، خشن الملمس ، يشبه الحروق الباردة .

" أيها المفتش جونز ...تعال وانظر ."

اقترب جونز ، حدق ، ثم أشار :

" أجل ...إنه طفح جلدي ...منتشر من اليد وحتى الكتف .لدي الجثة الأخرى نفس العلامات .كما أنه موجود على الظهر أيضا ."

قال رين بنبرة تفكير عميق :

" هذا...ليس عرضا عاديا .هذه أجساد لم تقتل فحسب ...بل مرت بشيء آخر ، شيء مروع ."

صمت للحظة ، ثم وضع طرف إصبعه على ذقنه ، كأنه ينقل في ملفات الذاكرة القديمة ، يهمس :

" انتفاخ بؤبؤ العين...بروز الأوعية...السواد أسفل الجفن ...الطفح الجلدي ...أشعر أني رأيت هذه الأعراض من قبل .لكن أين ؟متى ؟"

ظل لثوان غارقا في ذاكرته ، كأن الزمن توقف من حوله .

الضباب يلف المكان ...الغربان تحوم في السماء ...أما رين ، فكان على مشارف كشف حقيقة مرعبة.

2025/07/10 · 8 مشاهدة · 790 كلمة
Amina Mino
نادي الروايات - 2025