الفصل الخامس والأربعون : خطوة في الظل ، همسة في العاصمة .
كان الهواء لا يزال مشبعا برائحة الدم والضباب لم يبارح الميناء بعد كأنه يرفض نسيان الجريمتين .
وقف المفتش جونز بجانب رين، يتفحص تعبير وجهه الصامت بعينين لا تفارقهما الحيرة .
جونز :
" يبدو أن البقاء هنا لن يمنحنا جديدا الآن . من الأفضل أن نعود وننتظر نتائج التحاليل الجنائية في المركز ..."
لكن رين لم يحرك ساكنا . عيناه معلقتان في الفراغ ،كأنما ابتلع تفكيره مدينة بأكملها .
نادى عليه جونز من جديد ، هذه المرة بنبرة ضيق واضحة :
جونز في نفسه وهو يتنهد :
" يال هذا الفتى ...هل سحب وعيه إلى عالم آخر ؟أي فكرة تمتلك هذا الثقل كله ؟...أشعر وكأني أمام منوم مغناطيسيا ."
وفجأة ...ارتسمت على شفتي رين ابتسامة جانبية ، ونظراته اشتعلت بوميض الإثارة .
توسعت عينا جونز بدهش :
" حتى في مشهد كهذا ...يجد المتعة ؟ من أنت بحق الجحيم ؟"
لكن مالم يكن في حسبان أحد ...تلك الهمسة .
" ما الذي يجعلك غارقا في التفكير بهذه الطريقة؟"
همسة ناعمة ، حية ، بدت وكأنها خرجن من حلم .استفاق رين دفعة واحدة .واستدار مصدوما :
" يوكي! ؟ما الذي تفعله هنا ؟!"
يوكيمارو بابتسامة بريئة :
" أمم، لا شيء ...فقط اشتقت إليك ."
جونز وهو يرفع حاجبا :
" ما الأمر ، رين ؟ من هذا اليوكي الذي تناديه وكأنك صرخت في حلم ؟ كنت تنظر في الفراغ دون رد رغم مناداتي لك ..."
ابتسم رين دون اهتمام :
" آسف ،سيدي المفتش ...فقط، يبدو أنني وجدت شيئا يثير اهتمامي ."
ثم نظر إلى يوكيمارو بابتسامة باردة وأضاف :
" وتذكرت أن لدي شخصا بحاجة إلى درس صغير ."
ارتعش جسد يوكيمارو وتراجع خطوتين للوراء .
" حدسي يخبرني أن علي الهرب ..."
رين وبصوت منخفض وبارد
" قف مكانك .خطوة واحدة فقط ...وستندم ."
استدار بعدها إلى جونز قائلا :
" أعتذر ، سيدي المفتش . سأغادر الآن . سأعود لاحقا للإطلاع على نتائج التحاليل ."
تلعثم جونز من وقع التغير المفاجئ -:
" آه ....ح ، حسنا ، لا بأس ."
ما إن اختفيا عن أنظار جونز حتى جرى مالم يتوقعه يوكي ، دفعه رين نحو أحد جدران الزقاق ، وارتطم به ، قبل أن يسد عليه الطريق بوضع يده على الحائط بجانبه بقوة .
يوكيمارو متألما :
" آه ! هذا مؤلم يا رين !"
رين بصوت منخفض ونبرة قاتمة :
" أنت لست في موقف يسمح لك بالشكوى ...أليس كذلك ، يوكي -شان ؟"
يوكيمارو:
" هاه؟! ما الأمر ؟"
رين بغضب :
" تختفي فجأة منذ الصباح دون أثر، ثم تعود وتهمس بأذني بتلك الطريقة ...أمام الناس !
كم مرة قلت لك ألا تفزعني هكذا ؟! ماذا لو اعتقدو أنني مجنون ؟
ثم ...كيف عرفت حتى أين كنت ؟ها؟ما مبررك؟"
صمت يوكي، ثم نظر مباشرة في عيني رين ، تلك النظرة الغامضة المشتعلة بلون قرمزي كأنها تمزق الضباب نفسه .
رين في نفسه :
" هاهو مجددا...تلك النظرة .لكنها ...تعجبني بطريقة ما ."
وبهدوء لمس يوكيمارو وجه رين :
" أتعلم لماذا ؟...لأنني شبح مزعج ، يملكك ...ولا ينوي مفارقتك ."
رن صدى كلماته بينهما . ثم رفع رين إصبعه ونقر جبين يوكي بقوة .
" فلتكف عن الهمس في أذني إذا ، أيها الشبح المتملك ..."
ضحك يوكيمارو:
" وهل أنا من يجب لومه ؟ أنت من كان شارد الذهن كليا ..."
وبينما كان رين ويوكيمارو يقطعان الطريق وسط الزحام وضجيج المدينة .
رن في أذنه صدى الرائحة ...شيء ما في الأعماق أيقظ داخله قلقا دفينا .
رفع رأسه ببطء نحو السماء الرمادية ...الضوضاء من حوله خفت تدريجيا، كأن المدينة كلها ابتلعتها تلك الرائحة ...
رائحة منعشة ...منومة ...مخدرة ...كأنها تنسل إلى داخلك وتبتلعك من الأعماق .
أغمض عينيه للحظة، محاولا التركيز.
وفجأة، مر رجل أمامه، يرتدي معطفا أسود ويحمل مظلة قاتمة، رغم أن المطر لم يهطل بعد.
مرت الرائحة بجانبه كنسمة سم ، قوية ، مألوفة ، مرعبة .
فتح رين عينيه فجأة وأدار رأسه بسرعة، لكن الشارع...كان فارغا .
يوكيمارو بتوتر :
" يا رين ...ما الأمر؟ لقد شحب وجهك فجأة ."
همس رين :
"... لا شيء ....فقط ...شعرت بشيء أعرفه ....شيء ...كان هنا ."