الفصل السابع والأربعون : البحر لايخبر أسراره .
في صباح رمادي آخر كانت الغيوم لا تزال تغطي سماء سنغافورة حين خطى رين بثبات داخل مبنى الشرطة ، متجها نحو قسم التحاليل الجنائية . استقبله ضابط شاب ، يرتدي معطف المختبر الأبيض ، وبعينين متوترتين قال :
-سيدي المحقق..تفضل من هنا .لقد صدرت التقديرات الأولية بشأن الجثتين .
أعطاه ملفا بنيا ، لكن رين لاحظ نظرات الضابط لم تغادر وجهه. رفع حاجبه قليلا وسأله :
-هل هناك شيء على وجهي؟
ارتبك الضابط سريعا ، ثم ابتسم باعتذار :
-آه لا ....أرجوك سامحني على التحديق ...فقط ...لون عينيك ....غريب .زرقتهما هذه ....رغم برودتهما ...فيها ظفء ما .كما لو أنك تنظر إلى البحر ....لا تعلم إن كان يهمس لك أم يبتلعك .
صمت لحظة ثم أضاف بنبرة أخف :
-ولسبب ما...تشبهه .
أنعقد حاجبا رين، صوت قلبه خفق بطريقة غريبة .
-من الذي أشبه ؟
ابتسم الضابط بلطافة، وأردف :
- ربما أكون مخطئا ...لكن، المفتش جونز...قالها أيضا . كنت أقصد ابنه .
تجمد الزمن للحظة . قال رين :
-ابنه ؟
أومأ الضابط برأسه :
- أجل ...لقد كان في مثل عمرك عندما ...توفي في مهمة قبل عدة سنوات . كان آخر ماتبقى لجونز من عائلته بعد وفاة زوجته . لا أحد يذكره كثيرا ، لكن بعضنا يظن أن سبب شدته معك ...هو أنك تذكره به .
صمت رين للحظة . كأنه التقط شيئا تاه منه طويلا .
قال الضابط بسرعة . يحاول التهرب من صمته :
-على أي حال ، المفتش ينتظرك في مكتبه .يريد مناقشة النتائج معك .
....
وصل رين إلى باب المكتب . طرق بخفة ، فأتاه صوت مألوف :
ادخل .
دخل بهدوء ، فرفع جونز رأسه .
كانت على وجهه نظرة تعب ، لكنها لم تخل من الحدة :
-آه ...أتيت في الوقت المناسب . اجلس .
جلس رين دون أن ينبس ببنت شفة .
استطرد جونز وهو يتأمله :
-لم تشرح لي لماذا غادرت أمس بتلك الطريقة .أرجو ألا تظن أنني أراك تحاول التهرب من القضية .
رفع رين عينيه نحوه ، بنفس البرود الذي عرف به دوما :
-لا تقلق .لن أهرب من شيء أنا مهووس بكشفه .
ابتسم جونز بسخرية :
-مهووس ؟ ها . رأيت تلك الابتسامة الباردة على وجهك عندما حدقت بالجثتين ...الهالة التي كانت تحيط بك ...كأنك خرجت من كابوس لا يرغب بالاستيقاظ .
ثم صمت ، وبدل نبرته فجأة إلى جدية عميقة :
-رين ...من تكون بحق الجحيم ؟
توق رين لحظة . ثم أجاب ، بابتسامة باردة خالية من الانفعال :
-أنا ؟ مجرد محقق مهووس ....كما ترى .
والآن ...هل نعود لموضوعنا الأساسي ؟
وقف رين أمام المكتب ، يتصفح نتائج التحاليل بصمت مطبق. الأوراق بين يديه، لكنها لم تضف شيئا جديدا
-بحسب ماورد في التقرير...لم يتم تسجيل أي تطور حقيقي .
قالها وهو يقلب الصفحة الأخيرة ، ثم رفع عينية الباردتين إلى المفتش جونز :
-الطفح الجلدي ....اعتبروه نوعا من الحساسية ، و الأعراض الأخرى فسرت على أنها نتيجة نزيف داخلي بسبب ضربة شديدة على مؤخرة الرأس .
ضرب جونز سطح المكتب براحة يده ، ونفخ بضيق :
-وهذا يعني ...أننا نراوح مكاننا .
صمت لبرهة وهو يحدق في رين ، ثم أضاف :
-لكنك ....لا تبدو مقتنعا أفكارك تجول في مكان آخر ، أليس كذلك يا رين؟
أجابه رين بنبرته المعهودة ، الهادئة حد البرودة :
-في الواقع ....لا أظن أن ماظهر في التقرير يفسر تلك الأعراض المعقدة .كل شيء في هذه القضية يصرخ بأنها أبعد من مجرد "ضربتين على الرأس ".
انكمشتزملامح جونز، واتسعت نظرته :
-أوافقك ...ليست صدفة، بل شيء ،أعمق ...ربما أكثر خبثا مما نتصور .
وقف رين وأغلق الملف ، ثم قال وهو يتجه إلى الباب :
-أعتقد أن علينا التوقف هنا ، حتى نحصل على أدلة جديدة .
لكنه توقف فجأة واستدار :
-قبل أن أغادر ...لدي سؤال ، سيد جونز .
رفع المفتش حاجبا باستغراب:
-سؤال ؟
-هل أنت من أصول روسية ؟
شهق جونز للحظة ،لكنه تمالك نفسه سريعا :
-أجل ...من جهة والدتي . كيف عرفت ؟
ابتسم رين ابتسامة خفيفة:
-فقط...حدس .طريقة نطقك لبعض الكلمات ، تركت أثرا .والدتي أيضا ...كانت روسية الأصل .
اتسعت عينا جونز بدهشة غير معلنة :
-همهم ...هذا يفسر تلك العينين. لم أكن أعلم أن اليابانيين يحملون زرقة بهذا العمق .
هز رين رأسه :
-لم أرثها منها ...بل من والدي . وجده ، على مايبدو ، لم يكن يبانيا تماما أيضا .
عم الصمت لثوان ، قبل أن يضيف رين بنبرة منخفضة :
-بالمناسبة....لم أكن أعلم أن لك ابنا متوفى .
شحب وجه جونز وتغيرت نبرته في لحظة:
-من أخبرك ؟
-موظف من قسم التحاليل الجنائية. قال إنني ...أشبهه.
قطب جونز حاجبيه، وتوردت أذناه رغم صوته الغاضب :
-ذلك الثرثار الأحمق ...لا يعرف كيف يمسك لسانه .
ثم استدار فجأة نحو النافذة، ليخفي تعابيره .
رين ببرودة :
-وهل هذا سبب طريقتك في معاملتي ؟
صرخ جونز دون أن يستدير :
-أخرج من مكتبي حالا ! لا وقت لدي للتفاهات .
ضحك رين بخفة وهو يغلق الباب خلفه :
-ياله من عجوز ....ملامحه مكشوفة أكثر من تقرير الطب الشرعي .