الفصل 52 : حظور بلا ظل
دق ...دق...دق..
رنين الطرقات على الباب كسر صمت الغرفة الثقيلة .رفع " مورين " رأسه عن أكوام الملفات وقال بنبرة هادئة دون أن ينظر :
-" تفضل بالدخول. "
انفتح الباب بهدوء ودخل " جونز " ، تعلو وجهه ابتسامة مجاملة .
-" آه ، هذا أنت ياجونز. اجلس،دعنا نحتسي كوبين من القهوة ونتحدث قليلا. "
أشار بيده نحو المقعد المقابل.
جلس " جونز " ، ظهره مستقيم ، لكنه كان متوترا قليلا .
سأله مورين وهو يمرر إليه فنجان القهوة :
-" بالمناسبة ياجونز...كيف تسير الأمور في التحقيق؟ "
أخذ جونز رشفة من فنجانه ، قبل أن يقول:
-" لابأس...الأمور تسير، لكن المشكلة أننا لانملك دليلا واضحا لتفسير تلك الحالات المعقدة .كل شيء يبدو كأحجية ناقصة القطع ."
راح مورين يسند ذقنه بيديه، يتفحص وجه " جونز " بعين ثاقبة:
-" أراك مؤخرا تتوافق مع رين كثيرا، رغم أنك كنت تعارض العمل معه في البداية .ما سبب هذا التغيير المفاجئ ؟هل كرهت شيئا في طريقة عملك السابقة ؟"
صمت جونز للحظة ثم تنهد:
-" ليس تماما...لكن أعترف بشيء : بفضله، أصبح ضغط العمل أقل، وبدأنا نحقق تقدما أسرع . رغم صغر سنه ...إلا أن فيه شيئا مختلفا. ذكاء حاد ، سرعة بديهة ، و...حيلة لا تنقصه ."
ثم أضاف وهو يبتسم بتردد :
-" يمكنني القول إنه يملك مستقبلا باهرا ."
-" أراك بدأت تعترف به أخيرا..." تمتم مورين، صوته فيه نبرة خفية من الغموض .
فجأة ، انسكبت القهوة من يد جونز على بذلته الداكنة، فنهض متضايقا :
-" آه، يبدو أنني بحاجة لتبديل قميصي ، آسف ، سأغتسل سريعا ."
أومأ مورين بلا مبالاة :
- " لا بأس، سأطلب من أحدهم تنظيف المكان. "
خرج جونز وأغلق الباب خلفه...لكنه لم يبتعد .
توقف في الممر، قبضتيه مشدودتان ، وعيناه ترتجفان بنيران داخلية مكبوتة .
همس لنفسه بصوت خافت وبارد :
-" أنت لن تعد مورين الذي أعرفه..."
ثم خطا مبتعدا ، خطواته تحمل شيئا أثقل من القهوة التي سكبها .
في الطرف الآخر من سنغافورة، كان " رين " يتمشى في الشوارع ليصفي ذهنه من ذلك الكابوس العالق كشوكة في عقله .
همس لنفسه بينما يتابع خطواته عبر الأرصفة المبللة :
-" ذلك الحلم ...مهما حاولت ، لا أستطيع فهمه ...ماكان ذلك ؟
مكان مغطى بالدماء، وجثث تستنجد بي ؟هل كان حلما حقا ...أم شيئا آخر ؟"
شد قبضته حين تذكر الصوت الهمسي الجهنمي :
-" لم يحن الأوان بعد للعبور ..."
-" من كان ؟...وكيف يعرف اسمي ؟!"
وفجأة، ارتطم بشخص في الزحام .
-" أوه ، عذرا ، لم أنتبه ..."
أمسكه " رين " بيده قبل أن يسقط، وتلاقى نظرهما .
ابتسم الآخر وقال:
-" آه ...أنت المحقق اليباني ، رين ، أليس كذلك؟ يشرفني رؤيتك مجددا ."
ضاق رين عينيه قليلا، لهجة باردة انسكبت من صوته :
-" آه ...أنت ...ذلك المترصد من تلك الليلة ."
ضحك الرجل بإحراج :
-" عذرا، اسمي زيد روي ، وليس ' المترصد' ...تلك تسمية قاسية قليلا ، أليس كذلك ؟ لوسمعنا أحدهم ، لاعتقد انك تتحدث عن مجرم هارب ."
-" وهل أنا مخطئ؟" رد رين بحدة، نظراته كالسكاكين.
جعلت عضلات وجه زيد للحظة قبل أن يتراجع خطوة:
-" آه، يبدو أنني اصطدمت بالإنسان الخطأ هذا اليوم ...حسنا ، أنا مستعجل ، أراك في وقت آخر ."
وما إن اختفى في الزحام، حتى وقف " رين " في مكانه متجمدا ...
شيء في تلك اللحظة لم يكن طبيعيا .
نظر إلى يده ببطء، وكأنها تحوي شيئا غريبا .
-" ذلك الشعور...عندما لامست معصمه ...ماهذا ؟!"
تجمد عقله في تأمل ذلك الإحساس الغريب - كما لو أن شيئا مألوفا ، أندس في أعماقه دون استئذان .
شعر رين فجأة بنظرات حادة تخترق عمق جمجمته ، برد خفي زحف على عموده الفقري ، وكأن الظلام نفسه يتنفس خلفه .
" هناك من يراقبني ..." تمتم في نفسه، نبرته لا تخلو من الحذر ، لكن خطواته لم تتباطأ .
كان يعلم جيدا أنا الالتفات في لحظة كهذه قد يكون بمثابة دعوة مفتوحة للجنون .لذا تقدم بثبات نحو إحدى الأزقة الجانبية. منطقة خالية من المارة ، محاطة بجدران متآكلة كأنها شهدت على صرخات لايسمعها أحد.
توقف ، أنفاسه هادئة بشكل مريب ، ثم قال بصوت منخفض لكن حاد :
" لا داعي للاختباء أكثر ...أعلم أنكم هنا .الأفضل أن تخرجوا ."