الفصل 53 : " أغمض عينيك....واصمت "

ساد الصمت للحظة، كثقل خفي يطبق على أنفاس المكان. ثم بدأ صوت خطوات غريبة، بطيئة، وكأن الأرض تتنفس من تحتها، تتقدم شيئا فشيئا، خرجت مجموعة من الأشخاص، أكتافهم محنية كأن الضوء لم يلمسهم يوما، وظهورهم مثقلة بآثام مدينة تغلي في قاع الجحيم.

رفع رين عينيه بثبات. لم يتراجع. لم يهتز .فقط نظر إليهم بنظرات يعلوها البرود، ونبرة كالصقيع :

" ماهذه الرائحة المشمئزة؟..وكأن جثثا ميتة تزحف فوق الأرض...هذا لا يبشر بخير. "

ابتسم ابتسامة جانبية...ابتسامة من يرى في الموت لعبة أخرى. ثم سأل بهدوء متعجرف:

" من أنتم ...وماذا تريدون مني؟ "

تقدم أحدهم ، خطواته بلا حياة ، وصوته ممسوس كأن شيطانا يتحدث على لسانه :

" أرجو أن تسلم نفسك طوعا...أو ستلقى حتفك هنا...الآن ."

ضحك رين ضحكة جاففة وقال :

" لم علي أن أتبعك ؟ حتى إن لم تجب ، لدي إحساس...بأنك ستجعلني أستمتع قليلا ."

بهدوء، أدخل يده في جيب سرواله الخلفي...أخرج مسدسه بثبات، راقب تحركاتهم بعيون صياد خبير .

" إذا ،لقد اخترت موتك " ، همس الرجل، وأطلق جسده كسهم، سكينه تتجه مباشرة نحو قلب رين.

لكنه لم يكن ليرتكب خطأ بسيطا كهذا.

تفادى رين الضربة بخفة قط ، أمسك بمعصمه ، وطرحه أرضا دون تردد .شيء ما شد انتباهه...عند ملامسته لذلك المعصم ، شعر بشيء مألوف ...إحساس بارد ، ميت ، كما لو كان يلامس الفراغ .

اندفع الآخرون نحو رين بجنون وحشي .هواء يصرخ، أرواح ملوثة ،وهجمات تتوالى دون هوادة.

رغم كثرتهم ،تراجع رين بخفة ، قفز ،أدار جسده، تفادى ، رد...لكن الوضع بدأ يضيق .

وفجأة-

في طرفة عين، طرحت بعض الأجساد أرضا كأنها أوراق خريف ذابلة .

وامتدت يد من بين الظلال ...أمسكت رين من معصمه وسحبته بقوة للوراء .ذراع حاصر خصره بثبات .

" يوكيمارو؟!" همس رين بدهشة.

لكن من يقف خلفه لم يكن يوكي المعتاد .

عيونه تقطر دما ، هالة من الغضب والوحشية تكسو ملامحه ، نظرة قاتلة ...وكأن شيطانا استيقظ فيه .

قال بهدوء غريب، مزيج من الرجاء والتهديد :

" رين...هل يمكن أن تسدي إلي معروفا هذه المرة ؟.. أرجوك...ثق بي ."

كان ذلك نادرا . لم يرى رين يوكي بهذه الجدية ...بهذه النظرة التي تحمل شيئا من الكلمات .

" هل تعرفهم ؟" سأل رين ببرود.

" على الأرجح ....تابعون لمتعاقد شيطان .رائحتهم ...ليست بشرية إطلاقا ."

أومأ رين. " شعرت بذلك أيضا...لكن مامعنى " تابعون لمتعاقد '؟"

سحب يوكيمارو رين إليه أكثر...كانت عيونه تلمع بالصدق والظلام في آن واحد .

" لا تسألني الآن .أرجوك .هناك وقت لكل شيء ...فقط ، عدني ....عدني " يارين " ، أنك ستنتظر ."

تجمد رين. هناك شيء ما في نبرة يوكي...في نظرته ،جعل قلبه يرتجف للحظة .أومأ برأسه .

" حسنا...سأنتظر. "

ابتسم يوكيمارو بخفة، رفع يده ببطء...ووضع كفه برفقة قاتلة فوق عيني رين ، وهمس :

" شكرا...يارين. "

انغلق الضوء .

وباتت الظلمة أكثر دفئا ...وأكثر خطورة .

..

نظر يوكيمارو إليهم بينما يغمض عينا رين بيده من الخلف، عيناه تحولت إلى سواد دام ينزف جمودا ....صوته خرج عميقا، مشبعا بظلال الوعد والتهديد :

" رين ...لن أدع أحدا يلمسك ، ليس وأنا بجانبك ."

وفي لحظة خاطفة ، سمع صوت تمزق حاد كأن الهواء نفسه انكسر ...وتبعثر الرجال أمامه كأوراق جافة في مهب العدم . دماء زاهية بلونها الأحمر القاني ، لطخت الجدران قبل أن تختفي ....نعم ، لم تتبخر فقط، بل اختفت وكأنها لم تكن أبدا .

رين، وقد اتسعت عيناه ، تمتم في داخله وهو يلهث :

" ماهذا ؟...أهذه ...رائحة دماء ؟ ماذا يحدث ؟"

مرت ثوان طويلة بلا صوت ، بلا نفس ، بلا أثر ...حتى نزع يوكيمارو يده من وجه رين، وهمس بهدوء غريب فيه نبرة أسف خفيفة :

" آسف...على الإطالة ."

تلفت رين حوله ، بعينين مرتجفتين ، والدهشة تعصر ملامحه ...لا أثر لأي جثة .لا دماء ، لا أنين...وكأن هذه اللحظة كانت مجرد خيال زائل .

حدق رين في يوكيمارو، وهمس في نفسه:

"يوكيمارو ...أنت حتما لغز غامض بذاتك ...يجب علي حله .من تكون بالضبط ؟ ولماذا ...لا أستطيع إلا أن أثق بك ؟"

شعر بانقباض خفيف في صدره، فمد يده يمسك موضع قلبه المرتجف ، قائلا :

" هذا الشعور بالفراغ ...يملؤني بالضيق...لكنه يحمل دفئا غريبا ...حنينا مألوفا ."

لاحظ يوكيمارو اضطرابه ، فسأله بقلق خافت :

" رين ...ما الأمر ؟"

ألم تسألني عما حدث لتو ؟

اجابه رين بنبرة ساخرة متخفية تحت بروده :

"أنت من طلبت مني ألا أسألك ، أليس كذلك أيها الأبله ؟"

خفض صوته. وقد لمعت عينيه بشيء عميق:

" ليس الأمر أن الفضول لا ينهشني ...لكنك طلبت مني الانتظار ، لذا سأنتظرك ...لتخبرني أنت ، حين تكون مستعدا ."

توسعت عينا يوكيمارو وتوهج فيهما بريق نادر ...بريق دهشة مختلطة بذكرى بعيدة ،وارتسمت على شفتيه ابتسامة خافتة مملوءة بعاطفة لا توصف .

" أنت حقا ...لم تتغير ، يارين ."

2025/07/29 · 14 مشاهدة · 770 كلمة
Amina Mino
نادي الروايات - 2025