الفصل التاسع : في قبضة الغموض

هدأ المطر أخيرا ، تاركا خلفه شوارع مبللة ، و أضواء مدينة باهتة تنعكس على الأرصفة كأنها أطياف لذكريات منسية . دخل رين شقته بصمت ، خلع معطفه المبلل ورماه على الكرسي ، ثم جلس في الظلام مستندا إلى الحائط ، يتأمل السكون الذي يلف المكان . لم تكن أفكار زيرو هي ما تؤرقه فقط .....بل كانت نظرات يوكيمارو ، طريقته في الكلام ، وصوته الغريب حين قال : " لا أحد يتذكرني ....سواك يارين ".

ارتجف قلبه وهو يهمس لنفسه :

" ما الذي يحدث ؟ ولماذا كلما اقتربت من هؤلاء ....أشعر وكأنني أنزلق نحو هاوية لا قرار لها؟"

دفن وجهه بين كفيه ، لكن النعاس تسلل إليه رغما عنه .

......وفي الحلم ،

كان يقف وسط مكان ضبابي ، أصوات بعيدة تتردد في الأفق ، أشبه بنداء من عالم آخر .

" رين ...."

" رين..... أنقذني ....."

" إنهم قادمون .... الغربان قادمون ..."

استدار بجسده، محاولا تحديد مصدر الصوت ، لكن الضباب كان يزداد كثافة . وفجأة ، ظهرت أمامه ساعة جيب قديمة تتأرجح في الهواء . أمسك به ا ، وبمجرد أن لمسها ....سقط.

استفاق وهو يلهث .

الساعة كانت الخامسة صباحا ، قلبه ينبض كطبول الحرب . أسرع وارتدى معطفه مجددا ، اتجه إلى مركز الشرطة .

وصل رين إلى مركز الشرطة مع أول خيوط الفجر. السماء لا تزال ملبدة بالغيوم ، والهواء يحمل رائحة مطر خفيف لم ينزل بعد .

دخل المبنى بصمت، خطواته تملؤها التردد . مر بجانب بعض الزملاء ، ألقوا عليه تحية خفيفة ، لكنه لم يرد.

توجه مباشرة إلى مكتبه ، جلس دون أن يشعل الضوء . الحلم لا يزال عالقا في ذهنه ، وتلك الكلمات تتكرر داخله كصدى في كهف فارغ :

" لقد نسيتني ...."

وضع رأسه بين يديه ، ثم همس لنفسه :

-" من أنت ؟ و لماذا يبدو صوتك مألوفا ؟"

فتح باب المكتب فجأة ، ودخل الضابط " سودو" ،أحد الضباط القدامى .

نظر إلى رين باستغراب :

-" أنت هنا باكرا اليوم....شيء جديد؟"

أجابه رين دون أن ينظر إليه :

-" لا أعلم .... ربما ."

اقترب سودو وسحب ملفا من على الرف .

-" بالمناسبة ، تم الابلاغ عن جريمة جديدة هذا الصباح .... رجل مجهول الهوية عثر عليه ميتا قرب أحد الأحياء المهجورة ، الطريقة تشبه أسلوبا قديما ومختلف عن طريقة زيرو ."

رفع رين رأسه ببطء ، وعيناه تحملان شحنة غريبة :

-" أين بالضبط ؟"

- المنطقة الغربية ، قرب المستودع رقم 17 ....وتم إرسال الفريق إلى هناك بالفعل .

نهض رين فجأة .

سأذهب إلى هناك .

- انتظر ، لم العجلة ؟لم نحل جريمة الأمس بعد .

أشعر أن هذه الجريمة ... مرتبطة بشيء ما .

ماذا ؟

....

في الطريق جلس رين في المقعد الخلفي للسيارة ، الزجاج مبلل من ندى الصباح ، والعالم خارج النافذة بدا ضبابيا ، كأن كل شيء فقد حدوده .

مرت اللحظات ببطء ، وصوت المحرك كان أقرب لهمس متواصل يرافق أفكاره .

أعاد رين تشغيل تسجيل الحلم في رأسه مرارا ....

صوت الشخص في الحلم ، نبرة الألم فيه ، وتلك الكلمات الأخيرة : " رين ....لا تنساني ."

شعر بانقباض في صدره .

لم يكن الأمر مجرد حلم ، لقد بدا حقيقيا بدرجة مرعبة ، كأنه كان يستمع لنداء من مكان بعيد .... أو من زمن مختلف .

نظر إلى يده ، ولا حظ أن راحة كفه ما تزال ترتجف قليلا .

أغمض عينيه ، وهمس :

-" لماذا الآن ؟ ولماذا أنا ؟"

حين فتح عينه ، كان المبنى المهجور قد بدأ يظهر من بعيد.

ملامحه القديمة ، والجدران المتآكلة ، والنوافذ السوداء كأنها أعين ميتة.

شعر بقشعريرة تسري في عموده الفقري .

لكن شيء واحد كان واضحا في ذهنه ....

هذا المكان يخفي أكثر من شيء .

توقفت السيارة أمام المبنى المتهالك . كان الصمت يلف المكان ، إلا من نعيق غربان تتخذ من الأسطح مأوى لها.

ترجل رين من السيارة، تنفس بعمق ثم قال ببرود : " افتحوا الباب ."

صرير المعدن تردد في الأرجاء كأنه أنين روح محبوسة . تقدم بخطوات حذرة، و أضواء المصابيح تكشف القليل من الداخل :

جدران متآكلة ، صناديق متهالكة ، وعبير العفن القديم .

" هناك دم !" صاح أحد الضباط.

اقترب رين انحنى وفحصه بأصابعه . " جاف ....مر عليه وقت ."

في تلك اللحظة ، لمح غرفة صغيرة في الزاوية ، بابها مخلوع ، وأرضيتها مغطاة برموز طلاسمية غريبة ، وعيناه تتسعان أكثر مع كل خطوة .

كان هناك صندوق حديدي ، نصفه مفتوح . بداخله ، وجد ملف قديم محاط برماد أسود ، وكأنه كان محترقا جزئيا . على غلافه محفور بدقة :

" غراب أسود.... بعين حمراء دموية ".

صمت رين لوهلة من الدهشة ، ثم همس ببرودة :

" الغربان السود.... لا يعقل ....."

شد قبته بقوة على الملف ، الصور داخله كانت مأخوذة منذ سنين ، تظهر رجلا بوجه غير مألوف ، وملاحظات عن عمليات سرية ... وبين السطور ، اسم والده يتكرر : العميل ايتاشي كايتو - قسم الاستخبارات . مفقود .

انعقد حاجباه وقضم شفتيه بقوة . دقات قلبه تتسارع ، ذكرى الماضي تسللت إليه رغما عنه . " كنا نظنها حادثة سرقة عادية ...."

وقف أحد الضباط أمامه وسأله : سيد رين ، من هم هؤلاء ؟

أجاب رين بنبرة باردة ، لكن كانت مشتعلة بالغضب :

" أشباح الماضي .... منظمة كانت تقتل في الظلال . الغربان السود ."

أدار ظهره وخرج من الغرفة ، والملف في يده .

" إذا ......حان وقت فتح القبر الذي دفنت فيه الحقيقة ."

2025/05/11 · 26 مشاهدة · 888 كلمة
Amina Mino
نادي الروايات - 2025