12 - سيدي حامل السيف المقدس

سابقا ، عندما كان عمري حوالي اربع سنوات راودني حلم ، الاقربون مني قالو بأنها رؤية ستتحقق في المستقبل القريب ، في الحلم كان هناك شخص ، بأحاسيس ملبدة مظلمة ، لم استطع رؤية ملامحه بوضوح لكنني أذكر أن لديه عينين زرقاوان تصبحان اكثر بريقا مع كل خطوة يخطوها نحوي حاملا سيفه الضخم ، يصوبه نحوي و يرمقني بنظراته الفارغة الباردة كالصقيع ، مقدمة سيفيه كانت تحفر في عنقي ثقبا ، بدأ يصبح اعمق شيئا فشيئا ، بالرغم من انه كان مجرد حلم الا ان الالم الذي شعرت به فور قطع رأسي كان فضيعا

اطلقت سينا تنهيدة طويلة ثم شرعت في الجلوس باعتدال على السرير تعانق الوسادة

" قدري و روث البقر سِيَّان "

تذمرت ثم ألقت الوسادة بعيدا و عادت للاستلقاء على السرير مجددا ، تحدق في السقف و تفكر

' بالرغم من ان قرار العودة الى هنا ليس صائبا الا انه الوحيد المتاح ، ليس بيدي حيلة ، لا منزل او شخص اعرفه ، لا اموال ، حتى ان تواصلت مع غاندالف سيخرجني من هنا ، نعم ، لكنني سأحبس مجددا في ذلك الكوخ هذا ان فكرت بإيجابية لأنه ليس مستبعدا قطعه رأسي و ان عدت الى اوستن فسأكون جثة قبل الوصول الى الحدود '

" رباه "

انتفضت و اطبقت كفيها تدعو متوسلة الاله بصمت

' ارجوك يا الهي احمها و الطفل بداخلها ، اتوسل اليك '

بعدها اخذت نفسا ثم تمتمت بصوت مختنق :

" علي ان اجد طريقة ما لإخراجها .. عـ علي ذلك "

ارى انك استيقظت باكرا اليوم "! " اوه

مع اول خطوة تخطوها داخل الغرفة نبست بينما تنظر الى سينا التي طأطأت رأسها بإحباط

" ماري ، فقدت السيطرة علي نفسي بالأمس ايضا ، أليس كذلك ؟ "

" بالأمس ؟ بالأمس انا لم اكن- "

لا تحاولي اخفاء شيء ماري ، هل تأذى احد ؟ "

نفت ماري برأسها ثم ردت:

" أحـ أحرقت السجاد .. فقط "

" هذه المرة احرقت سجادً و في المرة القادمة قد أحرق شخصا بريئا "

" لا ، لا تفكري بتلك الطريقة-"

" ماري سبق و فعلت ما هو افظع ،انت تعلمين ذلك اكثر من اي شخص آخر، انا لا انكر ، لأنه من البداية كان علي اخبار غاندالف ، من البداية .. عندما اصبح الترياق لا يأخذ مفعوله ..

مسحت سينا دموعها بخشونة ثم سحبت ماء انفها و تمتمت بيأس :

" انا لن اخاطر اكثر"

" مـ ماذا ؟ "

ارادت ماري تكذيب ما سمعته للتو ، سارعت في وضع الصينية على الطاولة بجانب السرير ثم التفتت نحو سينا

" ما الذي يعنيه هذا ؟ ستتخلين عن العقد ؟ ما كنت تطمحين له ، كل شيء حقا سينا انت- "

" ما الذي علي فعله اذا .."

عندما رفعت رأسها تمكنت ماري من رؤية البريق في عيني سينا الرطبتين

" اخاف ، انا حقا .. تستمر اطرافي في الارتجاف عند تذكر تلك الحادثة ، انا .."

قبضت على اللحاف بقوة ثم اغلقت عينيها بإحكام تحاول حبس دموعها و منعها من الانهمار

" فقط .."

ابتلعت ريقها مرارا و تكرارا ، ارادت دفع الورم الذي يستوطن حلقها و يمنع صوتها من الخروج بصورة طبيعية و يستمر في سحق كلماتها و فصل بعضها عن بعض

ساد صمت خانق ارجاء الغرفة في حين كان تنفس سينا المضطرب مسموعا

سحبت ماري نفسا ببطء ثم جلست على جانب السرير بهدوء

" اذا ستنسحبين ؟ "

عندما شعرت اخيرا بأن حبالها الصوتية عادت للعمل و ان الانتفاخ في حلقها خمد فصلت سينا شفتيها و ردت :

" فقط .. لأنقذ ميش من اولئك الوحوش اولا بعدها .."

اخذت نفسا مهتزا بصعوبة ثم " سأنسحب " زفرته مع اعترافها

' سيكون ذلك آمنا ، العودة الى سجني '

في تلك الاثناء ، و بعيدا عن الاجواء الكئيبة ، كان جيروم يستعد لمغادرة المكتب لكنه توقف فجأة

" اوه ، صحيح .."

ترك مقبض الباب ثم التفت نحو سيده المنهمك في دراسة المستندات و اتبع :

" في حال لم اخبرك ، لن تصدق رفقة من عادت "

" رفقة ؟! "

رفع كيران حاجبه ثم فصل شفتيه في اللحظة التالية و سأل بفضول :

" من ؟ "

' انا متأكد من انها لم توطد اي علاقات او تتعرف على احد ، طوال تلك الفترة هي لم تغادر القصر حتى

نضف جيروم حلقه ثم رد :

" الامير الثاني ، شينايير"

بالعودة الى ما قاله شينايير ، ان كنت اريد انقاذها حقا فعلي ان اجد طريقة لتهديده ، بطاقتي الرابحة التي سأستخدمها ، لكن المشكلة هي انني لا اعرف الكثير عنه ، بالأخص لا اعرف اي من نقاط ضعفه

جلست سينا على الاريكة تفكر بينما تقوم ماري بلف الضماد حول يدها المتورمة ، شكلت عقدة محكمة حتى لا يفك الضماد من على يدي سينا ثم رفعت رأسها و قالت محذرة :

" لا تبلليـها بالماء ، حسنا ؟ "

اومئت سينا برأسها ثم سمحت لماري بالمغادرة بعد ان جمعت عدة الاسعاف المبعثرة على المنضدة

" و الان .. "

حدقت في يدها الملفوفة بالضماد للحظة ثم استقامت من مكانها ووجهت قوامها نحو الباب

' في اوقات كهذه يفترض بي جمع المعلومات ، و المكان الانسب لهذا هو ..'

لفت اصابعها حول المقبض ثم ابتسمت بمكر و ادارته

_ المطبخ _

المكان حيث تلتقي الخادمات للقيل و القال بحجة تحضير الطعام

لذا هذا المكان هو بمثابة المكتبة حيث يمكن جمع المعلومات من مصادر متعددة لكن الامر ليس بتلك السهولة ، أحتاج لخطة محكمة كي اتمكن من استخراج تلك المعلومات فهذه زيارة مفاجأة

لكن بعد التفكير في الامر لا اعتقد ان هناك داعي للقلق لأنه لدي سمعة جيدة داخل القصر على عكسه اساسا

" هل هناك خطب ما سيدتي ؟ "

' بدأت الحرب '

اخذت سينا نفسا ثم ابتسمت ملئ شدقيها و التفتت :

" لا ، على الاطلاق ، اردت فقط طرح بعض الاسئلة "

" تسأليننا نحن ؟ لا اعتقد اننا نستطيع الاجابة على ما تحتاجينه "

ارجعت سينا خصلة شعر خلف اذنها ثم ردت بخجل مصطنع :

" في الحقيقة ، اريد شراء هدية امتنان لزوجي العزيز لكنني لا اعرف ما يحبه او يكرهه فكما تعلمون هو شخص كتوم من الصعب معرفة تفضيلاته بهذه السرعة لذلك اعتقدت انكن تعرفنه افضل مني نظرا للمدة التي عاشرتموهن فيها ، اليس كذلك ؟ "

' انا واثقة من ان لديكن اجابات وافية حول هذا الامر .. '

لمحت سينا تعبير الخادمات قبل ان يلتفتن و يواجهن انفسهن وجها لوجه و يشرعن بعد ذلك في مناقشة الوضع بصوت خفيض

" هي فقط تريد مفاجأته ، لانهما متزوجان حديثا "

" لم اتوقع ان تكون علاقتهما بهذا القرب "

" اعتقد انه لا بأس بالوثوق بكلامها "

' ها نحن ذا خطتي تنجح ، هيا اسرعوا و اخبروني عن ما يكرهه'

تنحنحت احدى الخادمات معلنة عن نهاية النقاش ثم التفتت نحو سينا و سألت :

" ما كان سؤالك ذاك مرة اخرى سيدتي ؟ "

في الحقيقة ، ما كنت اريد معرفته هو تفضيلاته في الطعام و طريقة عيشه شيء من هذا القبيل" "

تبادلت الخادمات النظرات قبل ان تفصل احداهن شفتيها و تشرع في الاجابة

' و لقد كنت محقة في انني سأعرف من اولئك النسوة كل شيء '

{ بروسبر كيران كينجي يتبع نظاما غذائيا صارما و لا يعترف بأن الطعام لذيذ حتى ان اعد له بعناية فائقة لذلك يحب تناول ما يطبخه شخصيا فقط ، نعم قلن انه طاه ماهر }

{ شيء اخر ، هو لا يحب الحلوى ، ابدا }

{ انيق و يهتم بنظافته الشخصية بشكل كبير مقارنة بغيره من الرجال }

{ الاسطورة المشهورة عن كونه عنيفا حقيقية ، لكن ليس مع اللذين يعملون معه ، لكنه صارم و حاد جدا عندما يعود من حروبه بحيث لا يكون احد قادرا على التنفس }

{ لا يتحدث عن الأطعمة التي يحبها او يكرهها }

{ يمكن القول بـان كل شيء يدور حوله غامض و سري جدا }

{ جناحه بشكل عام و الدرج الخاص بمكتبه بشكل خاص هو محرم من المحرمات التي لا يمكن لاحد لمسها او الاقتراب منها تحت اي ضرف كان }

ابتسمت سينا بمكر

' وجدتك '

بعد مرور فترة وجيزة من الحديث و المزاح استأذنت سينا الخادمات للمغادرة و نظفت حلقها ثم تحججت:

اوه ، يبدو انني اضعت الكثير من وقتكم ، اعتذر "

حركت احدى الخادمات يديها ثم قالت نافية :

" لا عما تتحدثين ، نحن مستمتعات بالحديث "

" حقا ؟ سوف اكرر الزيارة اذا ، استمتعت ايضا بالحديث "

اومئت الخادمات برؤوسهن بتأييد ثم عرضت احداهن قائلة :

اعلمينا بما ترغبين بتناوله على العشاء و سيسرنا اعداده لك في الحال

" حسنا "

لوحت سينا مودعة الخادمات و بعد ان خطت اولى خطواتها خارج المطبخ تنفست الصعداء

' و الان ، بما ان طاقم التنظيف ينهي اعماله صباحا فهذا يعني ان لا احد من الخدم سيدخله في مثل هذا الوقت من الظهيرة ، دعنا نرى '

" واه ! "

لحظة دخولها ، اول ما لفت نظرها هو السيف الضخم فوق المكتب ، اقتربت سينا ببطء ، مع كل خطوة تخطوها بدأ شكل السيف يتضح ، مختلف تماما عن تلك التي يحملها الجنود على الاحزمة عند دخول المأدبة

" يبدو مألوفا "

' يا ترى اين رأيتك ايها السيف الغريب ؟ '

نظرت عن قرب ، النمط الغريب الذي تم حفره على مقبض السيف ، لقد كان سيفه عريضا و طويلا بحافة حادة مثل برج الكنيسة ، مصقول بعناية لدرجة انها تمكنت من رؤية انعكاس وجهها بوضوح عليه ، رغم بساطته الا انه بدا ساحرا و جذابا بالنسبة لها ، عكس السيوف الاخرى المزينة بالجواهر و المصقولة بالذهب

" د-دماء ؟! "

علِق نظرها على بقعة الدماء اللزجة التي تغطي النقوش و الاحرف الغريبة المنقوشة على مقبض السيف ما جعل سينا في حالة فضول ، مدت يدها ببطء و فور ملامسة اناملها لشفرة السيف الباردة ركضت شعلة من اللهب على طول ذراعها

" مـ ما كان هذا ؟! "

سحبت يدها غريزيا و بسرعة تراجعت خطوة نحو الخلف

' هل هذا اجراء للحماية ؟ لأنني لست صاحبة السيف ؟ '

ابتلعت ريقها بصعوبة ثم ربتت بيدها المرتجفة على صدرها لتهدئة دقات قلبها الثائرة ، استغرقها الامر بعض ثواني لتذكر هدفها الاساسي

من يهتم، ما كان هدفنا مجددا ؟ الدرج .. نعم الدرج "

هرولت بسرعة تبحث بناظريها عن الدرج المنشود

" وجدتك "

امسكت بالمقبض الفضي الصغير للدرج و حاولت فتحه

' كما توقعت انها مقفلة '

' ختم سحري فائق الدقة، حسنا ، هذا الرجل يملك الكثير من المال لذلك يمكنه شراء مثل هذه الوسائل الامنية المكلفة لكن لماذا اشعر بأن ما في داخل هذا الدرج خطير جدا ؟'

ابتسمت بمكر

' احببت هذا '

" حسنا ، لنرى ما يمكننا صنعه لكسر هذا القفل "

' اه كيران كينجي ، هل تعتقد حقا انني لا استطيع كسر هذا الختم ؟ '

ضحكت ساخرة

" حسنا لنعترف ، سيستنزف هذا من طاقتي لكن ارجوا ان يستحق ذلك العناء "

حدقت سينا في وشم الدائرة السحرية المحفورة على راحة يدها ثم تنهدت

" ارجو ان يكون ما في داخله شيء مفيد "

اخذت نفسا عميقا ثم و جهت يدها باتجاه الدرج ، لحظتها توهجت دائرة سحرية زرقاء مشعة انبثقت من راحة يدها و اخذت تتحرك باتجاه عقارب الساعة ، داخل الدائرة السحرية تشكلت نجمة خماسية فوق كل زاوية منها دائرة صغيرة ثابتة

" ما الخطب ؟ "

تساءلت سينا بعبوس ، لم يكن هناك ادنى مؤشر يدل على ان القفل يتفاعل ، تستمر في التوهج ، تلك الدائرة السحرية الحمراء فوق الدرج و التي تتوسطها كتابة قديمة غريبة

" اين الخطأ ؟ "

عقدت سينا حاجبيها بانزعاج و في اللحظة التي كانت فيها على وشك التوقف تحركت الدوائر الخمس الصغيرة و بهت وميض الدائرة الحمراء ببطء

" الهي ! انه يعمل "

ضحكت غير مصدقة و راقبت تلاشي الدائرة الحمراء الى ان اختفت تماما

" فتح ! لقد فتح حقا "

راقصت كتفيها بفرح ثم التفتت نحو الجمهور الذي صنعه خياله و قالت :

شكرا ، شكرا ، لا داعي للتصفيق

' و الان ، لنرى ما في داخله '

مدت يدها المرتعشة و لفتها حول المقبض الفضي الصغير بعدها سحبت الدرج برفق كما لو كانت تتعامل مع قنبلة على وشك الانفجار

' اللحظة الحاسمة ..'

اسقطت نظرها على ما في داخله و كلها امل بأن ما ستجده داخل ذلك الدرج سيدمر زوجها المزعوم ، كان اعتقادها صحيحا لكن ..

" ها ؟! مـ مستندات .. فقط ! "

فجأة و بينما كانت سينا لا تزال تحت الصدمة تتجرع خيبة املها ظهر خيال رجل خلفها ، ابتلعت ريقها بتوجس ثم استدارت ببطء و قبل ان تتمكن حتى من رؤية الشخص الذي خلفها

" ما الذي تفعلينه ؟ "

قفزت من مكانها بفزع ثم اطلقت صرخة عالية تردد صوتها في ارجاء القصر كله

" رباه ! لما لم اسمع صوت دخولك ، منذ متى و انت تراقبني ؟"

بالرغم من عدد المرات التي كانت تربت فيها على صدرها الا ان قلبها لا يزال مهتاجا ، القى كيران نظرة على درج مكتبه المفتوح متجاهلا سؤالها ثم قال :

" لم اكن على علم بامتلاكك موهبة كهذه "

حدق في وجه سينا المفزوعة لبرهة ثم فصل شفتيه و سأل :

" اذا ، هل علي ان اسيء الفهم و اقول بأنك جاسوسة ؟ "

ماذا ؟! لا .. آه ! وان كنت كذلك ما الذي ستفعله هاه ؟ تقطع رأسي مثلا ؟ هيا ، افعل ، اقطع رأسي ، افعل ، هيا ، هيا "

' عادة لا يجرأ احد على لمس او الاقتراب من مكتبي في غيابي لكنني لو رأيت احدهم يفعل فإنني سأحطم اطرافه دون ان اعطيه فرصة للتفسير حتى ، الامر حساس لان ذلك الدرج يحتوي معلومات و اسرار عسكرية هامة ومع هذا فقد تركتها تبحث حتى فتحت الدرج '

' كانت تتقصد ذلك الدرج دون غيره '

' حتى ان لم تكن جاسوسة ، كسر ختم فائق الدقة و غير معتمد و حديثها الخفي سابقا مع ديلاس ذلك اليوم و تسللها الى الغرفة امس يدعو للشك '

' لو انها قامت بلمس تلك المستندات العسكرية حقا هل سأتمكن من تنفيذ الحكم و قطع رأسها كما قالت حقا ؟ '

' بالرغم من انني لن اكون ملزما بحمايتها في حال قامت بسلوك مشبوه كهذا لكن تخيل ذلك يجعلني عاجزا عن فعل تلك الامور '

' ما الذي يحدث لي ؟ '

بالإضافة الى ذلك ، جالت بخاطره عدة اسئلة اخرى عجز عن ايجاد اجوبة لها، بعضها متعلق بالأمير الثاني و البعض الاخر بقدرتها تلك ، في حيرة من امره ، بحث عن سؤال شامل لكل تلك الاسئلة التي تملئ ذهنه و الشيء الوحيد الذي استطاع ان يخلص اليه هو

" من تكونين ؟ "

" ماذا ؟! "

" من علمك ذلك ؟ كيف فتحته ؟ "

اشاحت سينا نظرها بعيدا متفادية النظر اليه ثم ردت:

" انا لم اقم بفتحه لقد كان مفتوحا من الاساس "

" عند الكذب ينظر الكاذب الى اليمين او الاعلى و يتفادى التقاء نظره بالشخص الاخر ، مثلك تماما "

" هل تقول عني كاذبة الان ؟ "

قلبت حدقتيها ثم تنهدت باستسلام و اضافت :

" حسنا ، فكر كما تشاء ، انا ذاهبة "

كانت بالفعل مكبلة عندما دفعت ساقا للتقدم لكنها فوجئت بقوة اكبر منها تسحبها نحو الخلف ليصطدم ظهرها بالجدار ، تأوهت متألمة

" آه ، انت .. "

لحظة اصطدام نظراتها بخاصته التي تستجوبها رمشت بسرعة ثم دفعت حدقتيها الى الزاوية و اشاحت بوجهها مرة اخرى ، لفحت انفاسه الحارة وجهها و هبت على رقبتها ، و مع كل نفس ارتفع صوت دقات قلبها و اصبحت قادرة على سماعها تقرع في اذنيها ، في تلك الاثناء كانت هادئة جدا بشكل غريب و استمرت اصابعها المتوترة في تعذيب الفستان الحريري الذي اصبح منكمشا لشدة ضغطها ، لكن فجأة ..

رفعت رأسها بسرعة و نظرت الى ملامحه الراكدة بعيون جاحظة ثم صرخت :

" افلتني "

تخبطت كالحمامة الاسيرة داخل القفص تحاول الفرار ، علقت سينا بين جسده و الحائط خلفها و معصمها الرقيقة تحت ضغط اصابعه

" انا لم اسمح لك بذلك بعد ، ما الذي على يدك ؟ "

' يدي ؟ يدي ! '

بعد ان تذكرت سرها الذي على وشك ان يكشف قبضت يدها المكبلة كمحاولة منها لإخفاء الوشم ثم صرخت :

" اللعنة ، افلتني "

انفاسها السريعة ضد انفاسه المعتدلة حاولت بعناد تحرير معصمها من قبضته

" ليس قبل ان تجيبي "

عكس كيران الذي استمر في استجوابها بهدوء ، سينا كانت على وشك الانفجار غضبا ، حملقت اليه طويلا بعينين طافحتين حقدا بينما تفكر في طريقة للخلاص

' علي هذه الحال ، ان اخبرته بالحقيقة سأكون في خطر اكبر ، اللعنة ما الذي سأفعله ؟ الهي معجزة ما ، ارجوك اسقط معجزة ما انا لا اريد ان اتعفن في السجن '

و هي على تلك الحال تتوسل الاله لإنقاذها من الورطة التي وقعت فيها دخل احد الفرسان و بعد ان ادى التحية العسكرية قال :

" القائد ، هناك ما اريد اطلاعـ "

ابتلع الفارس ما تبقى من جملته لحظة وقوع نظره الى المشهد امامه ، راقب بعينين مفتوحتين على نطاق واسع

تبادل الثلاثة النظرات للحظة قبل ان تقرر سينا وضع مسار اخر لانتقامها

ارتفعت زوايا فمها لترسم ابتسامة ماكرة على محياها

' هذه فرصة رائعة '

اخذت سينا نفسا عميقا ثم

" آه ، هذا مؤلم "

تأوهت متألمة و أتبعت تتوسل:

" اتركني رجاء "

فور سماعه صوت استنشاق أدار كيران رأسه و رأى الدموع تلمع في عينيها و وجهها المحموم

' مؤلم ؟! انا لم افعل شيئا حتى '

بعيون مجمدة راقب تمثيلها المتقن و دون وعي منه ارخى اصابعه عن معصمها لتطلق بعدها سينا العنان لساقيها بعد ان نجحت بالفعل في توريطه داخل سوء فهم كبير

" لويز "

التفتت نحو مصدر الصوت الذي لم يبدو قط مألوفا بالنسبة لها ثم ضيقت عينيها تراقب الرجل الغريب يخطو نحوها مهرولا ، فور اتضاح الصورة فتحت لويز عينيها على مصراعيهما

" شـ شينايير "

" انت ، انه انت أليس كذلك ؟ "

عندما توقف شينايير عن التقدم اندفعت لويز نحوه و كورت بيديها وجهه ثم ضحكت غير مصدقة بينما واصلت حدقتاها التأرجح و استكشاف ملامحه

" شينايير انظر اليك ، لقد اصبحت رجلا ، أطول مني حتى "

فرك شينايير انفه بحرج ثم تنحنح و سأل :

" خرجت للتو من جناح الامبراطورة ، هل هناك خطب ما ؟ "

نفت لويز برأسها و ردت :

" لا على الاطلاق انا فقط استعد للمغادرة هناك بعض الامور البسيطة التي ناقشتها مع الامبراطورة "

" تغادرين ! "

صرخ شينايير متعجبا ثم اتبع :

" ماذا عن اخي ؟ هل يعلم ؟ متأكد من انه لا يعلم لأنه في العادة لن يسمح بحدوث ذلك ببساطة "

معك حق ، لقد اعتدت على الامر بالفعل ، ديميتري سيصرخ و نتشاجر كالعادة و بعدها سينسى كل شيء تماما كالطفل الصغير ، في النهاية علي ان اتأكد من ختمه لأوراق استقالتي مهما كلف الامر "

" لويز "

" نعم "

" هل ستكونين سعيدة حقا ؟ " سأل بعبوس

ضحكت لويز بخفة ثم مسحت بكفها على رأسه بلطف و ردت :

" في الحقيقة ، لم تعد السعادة غاية من غاياتي ، ليس بعد الان "

ربتت على كتف شينايير ثم ابتسمت ابتسامة واسعة و اضافت :

" لنلتقي مرة اخرى حسنا ؟ "

اومئ شينايير برأسه ثم راقبها تبتعد ببطء الى ان اختفى خيالها تماما عن مرمى نظره ثم استدار و مضى في طريقه هو الاخر

" انت الفارس الذي دخل قبل قليل اليس كذلك"

كتفت سينا ذراعيها امام صدرها ثم رفعت احد حاجبيها تنظر الى الرجل المنكمش امامها من رأسه الى اخمص قدميه

تجعدت حواجب الفارس و تراقصت حدقتاه جيئة و ذهابا بعد ثوان تمكن اخيرا من استجماع شجاعته للتوضيح ، ابتلع ريقه بصعوبة ثم فتح فمه و قال

" سيدتي انا حقا لم اقصد مقاطــــ- "

" ان سردت لك جميع كلمات الشكر و الامتنان التي اعرفها لن اوفيك حقك لذا ايها الفارس ، اذهب و سر بغرور ، لتكن طريقك مليئة بالخضرة و لتعش حياة سعيدة و هنيئة ، سأتذكر هذا لبقية حياتي يا .. ما كان اسمك ؟ "

نظر الفارس الى المرأة التي تمسك يده و تعبر عن امتنانها بذهول سرعان ما تحول الى حرج ، طأطأ الفتى رأسه لإخفاء وجهه المحرج ثم رد متلعثما :

" بـ بـ بنيامين سيدتي "

ابتسمت سينا ملئ شدقيها ثم ربتت على كتف الفارس و قالت ،

" نعم ، بنيامين ، سأهتم بك "

لم يجرأ الفارس على رفع رأسه تماما كما لو كانت رقبته مكسورة ، عبر عن شكره متلعثما :

" شـ شكرا لك سيدتي "

" اقسم بأنني سأفعل، هذا وعد سيدة تفي بوعودها "

تركت سينا يد الفارس ثم تراجعت خطوة نحو الخلف و قالت مادحة :

بنيامين ، والدتك انجبت اسدا ، امشي بغرور ، هيا ، امشي لأراك ، نعم هكذا ، امشي "

راقبت الفارس و هو يمضي في طريقه مبتعدا الى ان اختفى عن مرمى نظرها ثم زفرت الانفاس التي كانت تحبسها دفعة واحدة ، ارتخى كتفاها المشدودان شيئا فشيئا

" رباه كان ذلك وشيكا "

مسحت بكم فستانها العرق على جبهتها المستديرة بينما تتمتم :

" تصببت عرقا كما لو كنت امرأة على فراش الولادة ، حتى ساقاي تلتصقان ببعضهما و .. "

فتحت عينيها على نطاق واسع ثم حركت رأسها نافية في اللحظة التالية

" لا ، لا يحدث ، انه عرق نعم هو كذلك مجرد عـ .. "

كتمت الرغبة في البكاء من شدة حرجها ثم اغلقت ساقيها بقوة في اللحظة التي قفزت فيها صورة لبقعة كبيرة من البلل على الفستان امام ناظريها

" يا الهي .. لا يحدث ، لا يحدث "

حركت رأسها بسرعة لطرد تلك التخيلات عن ذهنها ثم اخذت نفسا عميقا و اسقطت نظرها على الفستان ، فتحت عينيها تدريجيا

" جـ جاف ! "

مررت يدها المرتجفة على الفستان تتفحصه غير مصدقة

" جافة ! انا جافة "

قهقهت ضاحكة ثم صفقت بفرح بينما تقفز راقصة و تردد

" انا جافة "

بعد نوبة من الجنون استطاعت سينا كبح جماحها خوفا من ان تتم رؤيتها ، و لان ساقيها ارتخت سقطت ارضا ، اعتدلت سينا في جلستها على الارضية الرخامية التي انعكست عليها اشعة الشمس المشرقة ثم شرعت في تحريك ياقة فستانها لاستجلاب الهواء

" آه سينا آه ، كدت تبللين ملابسك في هذا العمر .. الهي "

رفعت رأسها عاليا و اضافت :

" ألهي ، شكرا لك ، حقا ، اشكرك من اعماق ، اعماق ، اعماق قلبي الذي كاد يسقط من مكانه قبل لحظات " زفرت انفاسها براحة ثم اتبعت : " آه سينا ، يا فتاة ، كان ذلك وشيكا ، كان ذلك وشيكا حقا "

عكس سينا التي كانت مستمتعة و تشعر بالرضا بعد سوء الفهم الذي اختلقته ، على الجانب الاخر ، بالنسبة لكيران كانت تلك بداية يوم طويل و صعب ، يستمر الجميع في الحديث عن ذلك ..

" اتقول ان الدوق جعل زوجته تبكي ؟ لكن السيدة لطيفة جدا ، هذا غير منطقي "

" لقد رأى فارسان متدربان ذلك صباحا بوضوح و لكنني ما زلت لا اصدق لما قد يفعل هذا لامرأة مثلها"

" أيعقل انه حدث شيء ما في غيابنا ؟ "

" أيا يكن فهو تصرف قاسي من القائد حقا "

من الفرسان الذين عادوا لتوهم من عطلتهم ..

" سعادتك سأتجرأ و اقول هذا ، اعلم ان القسوة من صفات الدوق حقا لكن التصرف بقسوة مع زوجتك المحبوبة لا يجوز لأنها رقيقة للغاية "

الى طاقم الخدم ، الكل يتحدث عن تلك الفوضى التي كانت حريصة على افتعالها

" سيدتي "

" اوه ! مايك ، اهلا بعودتك "

بالرغم من انها التفتت و استقبلت الفارس بابتسامة الا ان عقدة القلق بين حاجبيه لا زالت هناك ، بعد ان تقدم خطوتين اصبح مايك قريبا بما يكفي لإجراء محادثة ، فصل شفتيه و سأل :

" سيدتي ، لقد سمعت الكثير عن ما يتداوله سكان القصر ، هل انت بخير ؟ "

استطاعت سينا بصعوبة اخفاء ابتسامة النصر التي تُلح للظهور ثم ردت بتفاؤل :

" كما ترى انا بخير و في افضل حال "

مرر مايك نظراته الفاحصة بشك على سينا ثم فتح عينيه على مصراعيهما في اللحظة التالية و تمتم :

" سـ سيدتي .. يدك ! "

لاحظت سينا نظراته المثبتة على يدها الملفوفة بالضماد ما جعلها تسارع لإخفائها خلف ظهرها

" هـ هل القائد حقا .. فعل هذا ؟! "

استقبلت اذناها صوت همس جعلها تنتبه الى الفرسان الثلاثة الذين كانوا برفقة مايك و على ما يبدو لقد اساؤوا الفهم بالفعل

" الامر ليس .. "

قبل لحظة كانت سينا على وشك فتح فمها و شرح سوء الفهم الذي حدث لكنها اطبقت شفتيها و ارتدت قناع الحزن ، بللت شفتيها ثم نظرت الى الفرسان بعيون رطبة و ادلت بصوت مهتز

" هـ هذا لا شيء انه فقط .. لقد اصطدمت ، اصطدمت بالجدار فتأذت يدي "

لم تكن تلك حجة جيدة لإقناع الفرسان الذين صدموا حقا ، نطق احد الفرسان بنفاذ صبر

" لا اصدق ، سيدتي انت حقا .. حتى بعد ما حدث .."

بالرغم من انها كانت تنظر بعيدا الا انها استطاعت رؤية حواجبهم المعقودة و جباههم المجعدة بانزعاج و غضب

" قائدكم لم يقصد أيا من هذا .. حقا هو .."

مسحت الدمعتين المزيفتين المنزلقتين من زاويتي عينيها ثم اتبعت :

" انا آسفة ، فقط لنكمل حديثنا لاحقا ، حسنا ؟ "

لم تنتظر الاجابة حتى ، تمكنت سينا اخيرا من تخطي الفرسان و واصلت الهرولة مبتعدة عنهم بعد ان تأكدت من جعل النار اكثر اشتعالا

بعد ان تأكدت من انها قامت بتظليلهم حقا ابتسمت بانتصار

' آه بروسبر كيران كينجي ، لنرى ما ستفعله الان '

كتفت ذراعيها امام صدرها ثم تمتمت بحنق :

" فقط انتظر ، سأمرغ كرامتك و سمعتك بالأرض ، فقط القليل بعد "

' الجزء الاول من الخطة تم بنجاح لننتقل الى الجزء الثاني '

بعد ان جعلت القصر في حالة فوضى عارمة عادت سينا الى غرفتها و قبل ان تستلقي على الاريكة نادت ماري

" اريد تناول الخوخ "

" حسنا ، سأطلب من الخدم شراء البعض "

" لا ، سأشتريه بنفسي "

ضيقت ماري عينيها للحظة ثم ردت :

" حسنا ، توقف ، لقد فهمت ، لن اسألك عن ما تخططين لفعله لأنه واضح ان هناك شيء ما يطبخ ببطء لكن الاهم كيف ستجدين طريقك فكما اتذكر ذلك اليوم ـألم تتوهي في أروقة القصر الى ان وجدك الدوق "

دفعت سينا جدار خدها الداخلي ثم قالت مهددة :

" سوف أمحو ذاكرتك ، عليّ محو تلك الفضائح من ذاكرتك "

كتفت ماري ذراعيها امام صدرها و ردت ساخرة :

لقد شهد الجميع ذلك هل ستمحين ذاكرة الجميع يا ترى ؟

ضحكت بخفة ثم اتبعت :

لكن صدقا لقد بدوت لطيفة جدا حينها ، خاصة عندما سألك الدوق عن سبب تواجدك هناك و قلت ببراءة " تُهت " ثم نفخت خديك و نظرت بعيدا بحرج ، يومها ضحك الجميع من اعماق قلوبهم "

" ااه حسنا ، حسنا كانت هناك الكثير من الاروقة ، درت هنا و هناك فأصبت بالدوار لم استطع تحديد موقعي ، جميعها متشابهة "

" انت حتى استسلمت و جلست على الارض ترسمين دوائر بأصبعك "

" رباه ، ماري "

تأففت سينا ثم قلبت حدقتيها بنفاذ صبر و اتبعت :

" ماري ، هلا تأجلين فقرة الفضائح خاصتك لوقت لاحق لأنها مسألة حياة او موت ، رجاء "

" حسنا ، سأتوقف ما هي خطة العصفورة يا ترى ؟ "

ستأتين معي ، احتاج الى من يثبت صدق كلامي

عقدت ماري حاجبيها بعدم فهم ثم سألت :

" يثبت ماذا ؟ "

" سأشرح لاحقا ، اعثري لي على شعر مستعار اولا "

بعيدا و على الجانب الاخر ، حلقت حمامة بيضاء ناصعة مبتعدة عن سربها ثم حطت فجأة على شرفة سموه النائم بسلام على أريكته المخملية ، راقبت الشعر الاسود الطويل يتمايل تحت ملامسات النسيم العليل ، يرتفع الستار الاسود ليكشف عن الملامح الفاترة ، الاهداب المتشابكة و الابتسامة الحسية ثم ينسدل مجددا فور تلاشي النسيم ببطء

يحاول الرداء الابيض المطرز بخيوط الذهب مواكبة الرقصة ، ومع اول هبوب للرياح الخفيفة يرفرف بخفة ثم يسكن شيئا فشيئا ، استمر الكائن المسالم في مراقبة المشهد قبل ان يرتفع صوت ارتطام عالي فيقطع الهدوء السائد

" أخي "

فتح عينيه اللتان تبدوان كبحيرة شتوية على نطاق واسع ثم جلس على الاريكة بسرعة يقبض على جانبه الايسر حيث يسكن قلبه الذي يكاد يخرج من مكانه

" رباه ! شـ شينايير ؟! "

زفر نفسا ثم اعاد التعبئة و اضاف لاهثا :

" كدت تأخذ روحي بتصرفك هذا "

ابتلع ريقه ببطء ثم رفع خصلات شعره عن وجهه و سأل

" ما سبب هذه المداهمة المفاجئة يا ترى ؟ "

" اريدك ان تسدي لي معروفا "

اعتدل ديميتريوس في جلسته ثم استفسر :

" اي نوع من المعروف ؟ "

بلل شينايير شفتيه ثم فصلهما و رد :

" اتذكر الفتاة الغريبة التي حدثتك عنها ذلك اليوم ؟ "

" من ليلة المأدبة ؟ "

" نعم "

" ما بها ؟ "

" لقد التقيت بها مجددا "

" و "

قطب شينايير حاجبيه

" ما الذي تعنيه بــ و ؟ "

اخذ ديميتريوس نفسا بغضب ثم صرخ بعصبية :

ماذا بعد ؟ تأتي و تقتحم غرفتي كالمجرمين في اللحظات القليلة التي اجدها للراحة ، يجب ان يكون هناك سبب لذلك و الا شينايير أنــ- "

اريد اذنك للخروج " اندفع شينايير مقاطعا ثم اتبع :

" لن تسمح الامبراطورة لي بالخروج كما تعلم لكن ان كلفتني بمهمة ما هي لن تعترض "

اطبق شينايير يديه متوسلا ثم واصل كلامه :

" ديميتري ارجوك ، لقد سئمت من اروقة القصر حقا "

فرك ديميتريوس معبده ثم تنهد باستسلام و قال :

" حسنا ، اليك ما يجب عليك فعله "

بعد ان حصل على مهمته استقام شينايير من مكانه

بالمناسبة لقد رأيت لويز قبل لحظات ، اعتقد انها تستعد للمغادرة هذه المرة حقا

ماذا ؟

قرأ شينايير عقدة الجهل بين حاجبي ديميتريوس بسهولة ثم سأل :

ألم تصلك الاخبار ؟ في النهاية ، العقد الذي بينكما انتهى أليس كذلك ؟

' اذا انت تريدين الابتعاد حقا '

" يمكنك الانصراف "

لمح شينايير الابتسامة المنكسرة على وجه اخيه قبل ان يسمح له بالانصراف ، وجه قوامه نحو الباب ادار المقبض و سحبه نحوه بعدها تسلل خارجا ، راقب ملكه العزيز لثواني ، يقاسي للاستلقاء مجددا على الاريكة ، كما لو كان جسده محطما تماما ثم اغلق الباب ، تنهد شينايير بحزن ، شعر بألم يشبه وخز إبرة ساخنة في قلبه لكنه تجاهل ذلك كالعادة لقلة حيلته ثم اتخذ سبيلا

" اوهاه ! "

كانت صرختها كفيلة بلفت انتباه الجميع و جعلهم يتجمهرون حولها

" ألم تبعها للرجل السابق بثلاث لما تبيعها لي بخمس ؟ "

" يا سيدة ، ان لم يعجبك ذلك فيمكنك الذهاب هيا هيا ابتعدي ، افسحي الطريق "

" ياه ! ابتعد ؟ حسنا "

فتحت عينيها على نطاق واسع كرد فعل على وقاحة البائع ثم التفتت نحو ماري و همست في أذنها :

" ماري ، هل هناك سوق اخر ؟ "

" نعم يوجد لكنه بعيد جدا من هنا لهذا لا احد يبتاع منه "

ابتسمت سينا بخبث ثم تمتمت معلقة :

" ليس بعد الان "

بعدها اخذت سينا نفسا عميقا ثم نظفت حلقها و بدأت تخطُب في الناس بكل جرأة و ثقة بصوت جهوري :

" يا سادة ، هذا الرجل البدين هنا لا يحترم السعر المتفق عليه و يتلاعب به عكس باعة السوق الاخر ، هل يرضيكم ان يقوم هذا بالاحتيال عليكم ؟ "

راقبت نظراتهم المتردد للحظة ثم اتبعت:

" انتم اساس الامبراطورية و شعبها الحر الذي لا يرضخ لأي كان ، أقول ، هل ستسمحون لهذا الشخص بالتلاعب بكم ؟ "

" بالطبع لا "

صرخ احد المتجمهرين فجأة ثم ابتلع صوته مرة اخرى عندما ثبتت نظرات الجميع عليه

' كما توقعت ، هم فقط يريدون شخصا يقودهم ، شخصا يشعل الفتيل '

ابتسمت بثقة ثم واصلت حديثها :

" اذا هيا لنفعل هذا ، سنشتري ما نحتاجه بثمن مناسب ام انكم ستستسلمون لخداع هذا الرجل هنا ، تستسلمون ؟ هل ستستسلمون ؟ "

مرت موجة من الصمت القاتل في الارجاء جعلت سينا تشعر بالحرج و الغضب خاصة بعد رؤيتها لابتسامة البائع الوقح الساخرة

' لا اصدق هؤلاء القوم حقا- '

" ابدا "

فجأة و دون سابق انذار ارتفعت صوت وحيد من الحشود تبعته بعدها الاصوات المؤيدة الواحدة تلوى الاخرى بحماس

فتحت سينا عينيها بذهول تماما كالبائع خلفها ، بعد لحظات استطاعت الخروج من حيز ذهولها ، نظفت حلقها ثم قالت :

" اذا هيا ، الى السوق الاخر ، سنشتري الخوخ اللذيذ بسعر مناسب ، هيا ، هيا لأراكم هيا "

" اما انت .."

التفتت الى البائع ثم بصقت على الارض و زمجرت

" سأشكوك للإمبراطور يا عديم الضمير "

هذا المنظر لا يرى كل يوم ، جيش من المدنيين يتقدم نحوك بوجوه غاضبة تقودهم امرأة بعينين صفراوين و شعر اسود حالك

' اعتقدتُ ان ايام الانقلاب قد ولت '

علق شينايير داخليا بذهول ثم اقترب ببطء من المكان ، حيث توقف الحشد

" خوخي الجميل "

بعد ان حصلت سينا على الشيء الذي كادت تقيم حريبا من اجله لكزن ماري بمرفقها التي قالت :

" يستمر الجميع في الحديث عنه لكنه لا يعلمون الحقيقة ، كيران كينجي ذاك ، دوق اللقبين ليس سوى وحش بهيئة رجل جميل المظهر "

التفتت احدى النسوة نحوهما ثم سألت :

" لماذا تقولين ذلك ؟ "

' الجزء الثاني من الخطة ، بدأ '

" لدي صديقة مقربة من زوجته المسكينة، تقول انه يقوم بحبسها داخل القصر و يمنعها حتى من التنفس بشكل مريح ، اشعة الشمس .."

سحبت سينا ماء انفها و استرسلت تنتحب بدرامية

اشعة الشمس ، يمنعها حتى من رؤية الشمس في وضح النهار كما انها لا تستطيع ان تفرق بين الليل و النهار داخل ذلك القصر المظلم

صراخه و عتابه لها باستمرار و لأتفه الاسباب و المرأة المسكينة ماذا تفعل ، تسكت ، تسكت على الاهانة لأنها عاجزة ، ترتجف خوفا ، في النهاية هي تريد البقاء على قيد الحياة حتى ان كان ذلك في قصر مثل السجن "

" لكنه بدا مخلصا جدا لها في المأدبة الامبراطورية " علقت احدى النسوة

" لان كل ذلك مجرد تمثيل ، المسكينة ، يجبرها على الابتسام غصبا عنها "

" رباه !"

شهق الجميع بدهشة

" نعم "

اخذت سينا منديل المرأة بجوارها ثم مسحت به انفها و اضافت :

" المرأة المسكينة، تتألم في صمت "

" لكن صدقا ، هو وسيم جدا و لديه الكثير من المال ايضا "

" صحيح "

' رباه ، الم يكن هؤلاء يرتجفون عند ذكره ولا يطيقون سماع اسمه ، ماذا حدث فجأة ؟ هناك مشهد ناقص من المسرحية على ما يبدو '

تذمرت سينا داخليا ثم نظرت الى المرأة صاحبة التعليق باشمئزاز و ردت :

" هل تعتقدين ان كل شيء يحل بالمال و الوسامة ؟ و أنتن .. "

التفتت نحو الفتاتين اللتين تضحكان ببلاهة و صرخت :

" من الوسيم يا هذه ؟ من ؟ انا اقول ان المرأة تعاني و انتما .. اعطني هذه لأرى "

خطفت سينا الجريدة من بين يدي الفتاتين ثم ألقت نظرة

' عليك اللعنة يا هذا ، عليك و على وسامتك، وغد ، عديم الضمير و الاحساس و القلب '

' بعد النظر الى هذه الصورة من سيقتنع ان قيل له بان كل شيء عبارة عن خدعة ، بالرغم من انني متورطة في ذلك الا انني و لوهلة كدت اخدع ايضا '

" اقول لما لا نفعل شيئا .. "

مزقت سينا الصورة نصفين و بعد ان احتفظت بصورتها جيدا القت خاصته على الارض ثم سحقتها بقدميها

" ارتحت كثيرا الان "

تنهدت براحة ثم ابتسمت بانتصار بينما تنظر الى اشلاء الورق الممزق على الارض

' كنت من رفعك عاليا و الان سأسقطك ارضا و بقوة '

" ما الذي يحدث هنا ؟ "

رفعت سينا نظرها ببطء لتسقطه مجددا على صاحب الصوت المقاطع

" اوه ! شينايير ؟ "

" تبدين بحال افضل يا صاحبة العينين الفريدتين "

نظرت الى الرجل بابتسامته الواسعة لبرهة ثم اعتدلت في وقفتها و تقدمت خطوتين نحوه

" انا كذلك ، حقا ، لأنني اخذت بنصيحتك "

ربتت على كتفه ثم اضافت

" شيء اخر ، انت لا تريد الاستمرار في مناداتي بذلك اللقب ؟

ابتسمت سينا ملء شدقيها ثم

" أعلم انني تأخرت لكن .. " مدت يدها و اتبعت : " سينا، اسمي سينا "

صافح شينايير يدها الممدودة نحوه و بعد ان فصل يده عن خاصتها فصل شفتيه

" و الان .."

اقترب شينايير منها ثم همس في اذنها :

هل يمكنني ان اعرف سبب اخفائك للون شعرك الحقيقي يا ترى ؟ "

" أوه ، ذلك .. دعك مني الان ما الذي اتى بك الى هنا ؟ "

" في الحقيقة انا .."

' ليس و كأنني سأقول انني الاحق الشيء الغريب الذي لم تعتد عيناي عليه بعد ..'

ضحك شينايير على حاله ساخرا ثم اسقط نظره على سلة سينا

' فقط لأحصل على كذبة اخرى '

" نعم ، في الحقيقة اردت شراء بعض الخوخ "

" حقا ؟ هل علي ان اقول ان هذه مصادفة ايضا "

رفعت سلتها ثم اتبعت :

" انا هنا ايضا لشراء القليل ، عليك ان تجربه انه حلو و غني بالعصارة ، خذ "

ناولته حبة خوخ ثم حثته :

" تذوقها لن تندم، هيا هيا "

حاول شينايير الرفض لكن سينا اصرت بإلحاح ما دفعه لأخذ قضمه صغيرة

" ما رأيك ؟ كيف هي ؟ "

سألتْ بترقب

" جـ جيدة "

ابتسمت سينا برضا

ابتلع شينايير اللقمة بصعوبة ثم سحب منديلا من جيبه و مسح به فمه ثم قال :

" يبدو انك لا تستلطفينه "

" من ؟ " سألت

" دوق كينجي "

قضمت سينا من حبة الخوخ بحنق ثم اردفت بينما تمضغ :

" لا احبه و لا اطيقه ، شيطان "

" انا متأكد من ان تلك مجرد اشاعات هو ليس بذلك السوء ، صدقيني "

" سأحاول تصديقك لكن لـ .. مهلا " رفعت سينا حاجبا " انت تتكلم كما لو كنت تعرفه "

ضيقت عينيها ثم اتبعت :

" أتعرفه ؟ "

ضحك شينايير بارتباك ثم رد :

" اعرفه ؟ .. من اين سأعرفه ، اعني صديقي الامير الثاني يعرفه نـ نعم انا لا اعرفه صـ صديقي يعرفه "

" فهمت "

بالرغم من ان الشك لا يزال يخالجها الا انها تجاهلت ذلك و اتبعت :

" ايا يكن ، دعنا من سيرته الان انا لا اريد تعكير مزاجي "

" هل انت متأكد من انك ستكون بخير ؟ "

بدا القلق واضحا على وجهه ، وضع جيروم علبة السجائر على المكتب ثم تراجع خطوة نحو الخلف

" تدخينك للسجائر سيزيد حالك سوءا انت لا- "

" شكرا لك جيروم ، يمكنك الانصراف "

تنهد الخادم بقلة حيلة ثم سحب نفسه نحو الخارج تاركا كيران الجالس على عرشه وحيدا، يحدق في منظر الغروب من النافذة و يحتسي الشراب بهدوء

' هذا الجنون ، أنا لن اسمح بحدوثه '

اخذ جيروم نفسا ثم طرق جيروم الباب مرتين متتابعتين بعدها توقف فور سماعه صوت خطى يقترب من الداخل

" جيروم ؟ هل هناك .. "

قبل ان تتمكن ماري من انهاء سؤالها اقتحم جيروم الغرفة ثم بحث بناظريه عن سينا الجالسة على الاريكة ممسكة بحبة الخوف و تستعد لالتهامها ، توقفت على تلك الوضعية تنظر الى جيروم و علامة استفهام كبيرة ترقص فوق رأسها

ساد صمت قاتل ارجاء الغرفة قبل ان تشقه سينا بسؤالها

" دعني اسألك مرة اخرى ، لما علي مساعدته ؟ "

نظر جيروم الى شخصيتها المتربعة على الاريكة بأريحية ، تلف الساق حول الاخر و ترمقه بتعالي ثم كتف ذراعيه امام صدره و قلب حدقتيه بعدها تنهد

" تلك المرأة التي تدعى ميش ، كيران يتواصل معها بالفعل "

" ماذا ؟ "

انتفضت سينا من مكانها

" ارى انك اصبحت جادة الان "

ضحك جيروم ساخرا ثم اتبع :

" هو يحاول التحري حول الامور المريبة التي تحدث في الكنيسة ، كما انه كلف اشخاصا لحمايتها بالفعل ، قام بذلك لأنه يريد ابقائها امام ناظريه لأنه لن يستطيع مراقبتها في امارة لا يرأسها و بالتالي ان حدث شيء ما لها سيؤكد ذلك شكوكه ، شيء اخر ، رسائلك ، لقد تعمدت تجاهلها لان كيران امرها بذلك ، خوفا من ان يورطها في مشكلة ، هو خائف من ان يلحقها الاذى من اعدائه "

" مهلا لحظة .."

استوقفته سينا التي كانت مصدومة من كم المعلومات التي القاها في وجهها دفعة واحدة ثم اتبعت :

" ان كان ما تقوله صحيحا اذا لما لم يخبرني بذلك ؟ "

" صدقيني انا اعرفه منذ زمن طويل لكن في بعض الاحيان تصرفاته لا اجد لها تفسيرا ، لكنني اعتقد ان ذلك له علاقة بمبدئه " انا لا ابرر لأنني ادرس افعالي جيدا " او شيء من هذا القبيل ، و الان هلاَّ تفقدت حالته ؟ "

" أوه ، شيء اخر ، جيروم ، كيف علمت بأنني معالجة ؟ "

" انا اعلم الكثير عنك، الكثير بالقدر الذي لا تستطيعين تخيله و ايضا .."

وجه جيروم قومه نحو الباب ثم اردف بينما ينظر اليها من فوق كتفه

" صدقيني ، انت اخر شخص يمكن لكيران ايذائه .. على الاقل ليس الان "

"لما تعتقد ذلك ؟ " سألتْ بفضول

" اعتقد ان عليك سماع السبب منه شخصيا ، انتهى دوري هنا "

راقبت خياله يختفي خلف الباب و فور مغادرته قفزت سينا من مكانها و انطلقت تسابق الريح

' يا سادة لقد اخطأنا في الحكم على الوسيم المتعالي '

" اه كيران ، رئيسي العزيز انا قادمة "

' لأكون صريحة انا لا اهتم لأمره ، لكن راتبي يهمني كما انني اريد معرفة الحقيقة ، اريد معرفة ما كان جيروم يقصده بكلامه '

قبل ان تصل الى جناحه و تقف امام الباب اعطاها النور الخافت الذي تسرب خارجا من شق الباب الموارب اشارة

' هل هو مستيقظ ؟ '

تساءلت داخليا قبل ان تقرر لف يديها حول المقبض و دفع الباب بحذر

رفرفت ستائر الشرفة و داعبت انفاس الليلة الحالكة اطراف الاوراق المبعثرة على المكتب المهجور و ببطء اسقطت سينا نظرها على الزجاجات المتدحرجة على الارض و توقفت فجأة امام البقعة الحمراء على السجاد ، دنت ثم التقطت الكأس بحذر لحظتها اخترقت و تغلغلت رائحة النبيذ داخل انفها

' يبدو انه لم يكن في حالة تمكنه من الكلام '

واصلت تتبع خط الفوضى و الاغراض الملقاة بعشوائية وصولا الى غرفة النوم

" كيران "

بحثت سينا بناظريها عنه في ارجاء الغرفة التي كانت مرتبة و نظيفة عكس غرفة المكتب التي بدا و كأن اعصارا اصابها

" ربما هو داخل الحمام "

وجهت سينا قوامها الى الحمام على يمينها ثم طرقت طرقتين على الباب

" كيران هل ان في الداخل ؟ "

عكس توقعاتها لم يهز شيء الصمت السائد ما جعل القلق يتسرب الى داخلها ، طرقت على الباب مجددا لكن هذه المرة بشكل اسرع

" كيران هل تسمعني ؟ "

الهدوء المريب الذي كان حاضرا في كل زاوية اخافها ، دفعت الباب دون تردد ثم اندفعت نحو الداخل ، كان صعبا عليها التقدم وسط الظلام لكنها استمرت ، سمعت صوت تنفس خافت فتبعته بينما كانت برودة المياه تلسع قدميها

" كـ كيران! "

فتحت عينيها على نطاق واسع ثم شهقت بفزع تغطي فمها بكفها

' تأخرت .. تأخرت كثيرا '

هل كان علي رأيتها للمرة الاخيرة و اخبارها بكل شيء يا ترى ؟

لم اجرأ على التفكير في ذلك الا داخليا ، لست اعلم لما فجأة قفزت صورتها امام ناظري اثناء حبسي لنفسي داخل الغرفة ، اردت رؤية عينيها الفريدتين للمرة الاخيرة ، الاعتذار على كل ما سببته لها ، لكن جسدي خانني بالفعل لذلك قررت ان اكتب

عندما لامس اسفل ظهري الكرسي سحبت ورقة و اخرجت الريشة من عدة الكتابة بعدها نقعت مقدمتها في قنينة الحبر الزجاجية و بدأت اجرد

كتبت الكثير بيدي المرتعشة التي تأبى الثبات ، لحظتها كان جل خوفي هو سقوط قطرات من عرقي على الورقة لكنه بدل ذلك تلونت بدمائي ، نزيف الانف ، مجددا

لعنت ، لعنت بشدة ثم دفعت كل شيء على الارض ، فتناثر الزجاج و الشراب الاحمر على البلاط

انا ارتجف و اسناني تسطك بعنف ـ، استطيع الشعور بذلك

اطلق تنهيدة طويلة ثم اغلق عينيه

' هل علي ان اغرقت نفسي داخل هذا الحوض الممتلئ بالماء البارد مجددا '

' لقد سئمت حقا '

' لكن لا بأس بما انها الجولة الاخيرة '

" لا "

كان تصرفا غريبا عندما دخل الحوض البارد و تبلل جسده دون مبالاة

أغرق جسده كله داخل الماء البارد ليخفض حرارة جسده المحموم ، وسيلة بائسة لتهدئة ألمه

اقتربت منه و دنت

" كـ كيران!"

جابت كفاها انحاء وجهه المبلل ، ابعدت خصلات شعره الملتصقة بجبهته حتى تستطيع رؤية عينيه بوضوح

" كيران استيقظ .."

حاولت مرارا و تكرارا صفع خديه لعله بذلك يصدر صوتا او يفتح عينيه لكن بلا جدوى ،

" تبا .."

شتمت تحت انفاسها ثم قفزت داخل الحوض دون تردد فارتفع صوت دفقة الماء و فاضت مياه الحوض على الارضية الرخامية في تلك اللحظة ذاتها لسعت برودة المياه ساقيها و سحبت الدفء منهما و ركضت الرعشة الباردة في جسدها الذي اغرقته ببطء وصولا الى اصدرها ، بالرغم من وضعية جلوسها المشبوهة الا انها لم تهتم وواصلت الصراخ باسمه

" كيران .."

' مألوف .. هذا الصوت .. لما صوت يرن باستمرار في اذني سينا ؟ لما لا تتركينني و شأني ؟أليس هذا ما تريدينه ؟ عودة الامور الى حيث بدأنا '

" كيران افتح عينيك "

كورت وجه كيران بيديها المرتعشتين

' دافئ '

' ما هذا النسيم الساخن الذي يرتطم بوجهي تلك النعومة الدافئة التي تعانق جانبي وجهي لما يبدو هذا حقيقيا جدا '

انفصلت الرموش السوداء الذابلة عن بعضها البعض بفضول

" هاه ! كيران " تنفست سينا الصعداء

بدى المشهد ضبابيا في عينيه الزرقاوين كلوحة لم تتم سكب عليها الماء فاختلطت ألوانها ، يتأمل وجهها غير مصدق ، تنظر العينان الصفراوان بقلق ، تحركت يده ببطء ووصلت إلى وجهها عندما لامست اصابعه الباردة خدها الرطب ، ابتسم

' حـ حقيقي '

" تنفس ، كيران انت عليك ان تتنفس " حثته بإلحاح

نوبة الذعر التي هزت كيان سينا جعلتها عاجزة عن التفكير، عيناها المتذبذبتان تنظران في كل مكان عدا وجهه ما جعله منزعجا

' توقف ، توقف عن النظر بعيدا '

' ارني عينيك '

اراد الصراخ في وجهها لعلها بذلك تتوقف عن تجاهله بنظراتها فيتمكن من مواصلة التمعن في عينيها

" ا-انت .. لما يدك تنزف ؟ "

قذفت سينا السؤال مع لهاثها المسموع ، ارتفع قلبها الى حلقها لحظة وقوع نظرها على الشق الذي يستوطن كفه

" كـ كيف حدث .. هذا "

اطلقت انينا ثم سحبت ماء انفها و حاولت ابتلاع دموعها

" لالا حتما هناك حل ، هناك حل "

" كيران ابقى معي حسنا ، اياك ، اياك ان تغلق عينيك "

نظرت بعينين دامعتين الى جسده المحمر بشدة ، الماء البارد على شفتيه و بشرته المنكمشة

' طوال الوقت ، كنت اعتقد انه عندما اموت لن يكون هناك شخص ، شخص واحد يبكي من اجلي ، يبدو انني كنت مخطئا '

عندما شعرت سينا بثقل كفه فوق رأسها اسقطت نظرها على وجهه ، ظهرت عقدة الجهل و عدم الفهم جلية بين حاجبيها

'ما الذي يعنيه هذا ؟ '

ارادت السؤال ، عن سبب سعادته العارمة الان ، ارادت ان تعرف السبب الذي يجعله يبتسم بشكل مشرق هكذا ، سبب الراحة و السكينة التي تظهرها تقاسيم وجهه

هزت موجة من المشاعر المختلطة كيانها ، اليأس كان حاضرا و الخوف كذلك ، حجز الغضب مقعده ايضا

حتى بالنسبة لسينا التي تعلم جيدا ان نهايتها ليست بعيدة و ان عليها تقبل ذلك شاءت ام ابت الا انه في كل مرة تتذكر فيها ذلك ترتجف اطرافها ، ارادت حقا ان تصل لتلك المرحلة التي تتقبل في ذلك ارادت ان تكون مثله ، ارادت ان تكون قادرة هي ايضا على الابتسام بإشراق مثله

' انا احسدك '

طوال الوقت ، لفت ذلك انتباهها ، ارادت ان تعرف السبب الذي يدفعها لمقارنة نفسها به رغم اختلافهما تماما ، هو لم يمر ابدا بما مرت به كما انها لم تمر ابدا بما مر به و لا تعرف عن ما اصابه شيئا

وسط دوامة الاسئلة التي تحاول ايجاد حل لها شعرت بكفه تربت على رأسها

لم تفهم ان كان تصرفه ذلك لمواساتها كل ما استطاعت ان تخلص اليه هو ان ما فعله جعل دفاعاتها و مقاومتها تنهار

توقف عقلها عن التفكير بشكل مفرط و ارتخى كتفاها

طأطأت رأسها باستسلام و سمحت لدموعها بالانهمار

عندما شعرت بالبرودة تلسع فروة رأسها ادركت ان دفئ يديه تركها رفعت رأسها بسرعة و نظرت بعينيها المفتوحتين على نطاق واسع الى وجهه

" لا .. "

حاولت امساك يده التي كانت تنزلق من على رأسها

" اياك ان تفعل ، لا "

انتشر صوت الدفقة في الارجاء و قبل ان يتلاشى اطبقت جفونه و كما غرقت يده عميقا دفنت زرقة عينيه الفريدة في الاعماق

حدقت سينا في وجهه الساكن الذي لا يظهر اي مؤشر للحياة بعيون واسعة متجمدة ، كفها التي كانت تستشعر نبضه رغم ضعفه لم تعد تلتقط شيئا

و الضباب الخفيف الذي كانت تشكله انفاسه القليلة لم يعد يظهر

" لما يبدو هذا مألوفا الان "

" اغلقت عينيها بإحكام لقطع ذلك المشهد المؤلم الذي قفز امام ناظريها

" انت لما لا تخرج نفسا "

" انت لما لا .. "

"كيف امكنك فعل ذلك كما لو كان الامر سهلا و بسيطا ، بلامبالاة "

" انت كيف .. "

امسكت بياقة قميصه بقوة ثم صرخت في وجهه كما لو كان واعيا

" اعلم انك تسمعني هيا استيقظ "

هزته بعنف

" استيقظ هذا امر .. انت "

صكت اسنانها بيأس ، لحظتها كانت قادرة على الاحساس بطعم اللعاب الذي اصبح مالحا بعض الشيء ، ارتخت قبضتها ببطء ، اهتز صوتها

" ارجوك لا تجعلني اعيش ذلك مجددا "

" اتوسل اليك "

"شعور العجز ذاك انا اكرهه "

في خضم لحظة الانهيار ومض في عقلها شيء ما ، صفعت سينا خديها بقوة ، بعدها تمكنت اخيرا من استعادة وعيها و اسكات الصوت المرتجف الخائف داخلها ، اغلقت عينيها ثم اخذت نفسا عميقا

" أ-أنا .. لم اعد فتاة الثماني سنوات العاجزة بعد الان "

فتحت عينيها ببطء لكن هذه المرة مع بريق و نظرة حازمة واثقة

" هناك شيء ، حتما هناك شيء انا .. انا استطيع ، لنفعل شيئا .. ا-انت لا يجب ان تبقى هنا "

خرجت من الحوض متجاهلة اصطكاك اسنانها ببعض و ارتجاف شفتيها ثم قبضت على قميصه الاسود الملتصق بصدره و سحبته بكل ما تملكه من قوة

" يا الهي ، ساعدني على حمل هذا الثور و سأكون شاكرة حقا ، اساسا لا يمكن لسنجاب ان يحمل ثورا لكن اجعلها معجزة "

لوهلة لم تكن قادرة على التماسك و بدأت تفقد توازنها لان ثقل جسده اصبح بالكامل تحت رحمتها ، اعتقدت انها قادرة على المواصلة و سحب الجزء السفلي من جسده لكنها

" آخ ! "

سقط جسده الضخم على جسدها بقوة و استقر رأسه على كتفها ، شعرت سينا بعظامها تتحطم لشدة السقطة و برودة المياه تلسع ضهرها ، اضطرب تنفسها بسبب هيكله الجاثم على صدرها ، اطلقت انينا خافتا بينما تحاول رفع و ابعاد ثقل جسده عنها

" رباه "

سحبت نفسا طويلا ثم زفرته كله و استقامت واقفة تنظر الى جثته الساكنة

" و الان هلا تقدم لي بعض المساعدة ؟ "

ركعت و امسكت بذراعيه و لفتهما حول عنقها ، استطاعت الشعور ببرودة صدره تلامس ظهرها لكنها لم تهتم و حاولت الوقوف ، استمرت في الارتفاع ببطء رغم الالم الذي ينتش في ساقيها في كل مرة ترتفع فيه لكن و بعد عناء تمكنت اخيرا من رفعه فوق ضهرها

كانت وتيرة تقدمها اشبه بخاصة السلحفاة ، لذلك استغرق الامر بعض الوقت لمغادرة الحمام بحذر خوفا من الانزلاق بسبب الماء الذي يغطي الارض الرخامية

" اماه ، انا اموت "

استمرت ساقاها في الارتجاف بسبب الحمل الثقيل على ظهرها لكن و بالرغم من ذلك واصلت سينا تقدمها للوصول الى السرير

اسقطته على السرير ثم انهارت على الارضية تتنفس كما لو كانت تلك المرة الاولى التي تفعل فيها ذلك

' والان .. '

" لنفعل شيئا الان ، تدفئة ، نعم ، يجب تدفئته "

غادرت سينا الجناح بسرعة و بعد مدة عادت حاملة وعاء من الماء الساخن و مناشف قطنية ، وضعت الوعاء على المنضدة الصغيرة في الزاوية ثم نقعت المناشف داخله

جلست على السرير بجانب كيران و شرعت في فك ازرار قميصه المبلل ثم سحبت ذراعيه من الكمين الواحد تلوى الاخر و ألقته جانبا ، بعدها اخرجت المنشفة و قامت بعصرها من الماء ثم قربتها من وجهه ، فركت بلطف جبهته و صدغه فوجنتيه بالمنشفة ثم التفتت الى كتفيه و صدره فظهره ، عملت بإصرار على تدفئة جلده البارد و واصلت فرك ظهره و ذراعيه عدة مرات بعد تغيير المناشف

بعد مدة بدأ بخار الماء الساخن يتلاشى و أصبحت المناشف الرطبة الملقاة بعشوائية باردة ، في تلك الاثناء استمرت سينا في تجفيف جسد كيران المبلل وبعد ان تأكدت من انه اصبح جافا تماما لفته بالبطانية

امسكت يده برفق ثم شرعت في نزع القفاز عنها ، لم تفكر كثيرا في السبب الذي يجعله يستر يده اليسرى دائما لكنها تذكرت شيئا

' كيران يستعمل يده اليسرى لحمل الاشياء ، كما انه لم ينزع عنها القفاز ابدا حتى عند يتناول الطعام '

قشعريرة باردة سارت على طول عمودها الفقري لحظة وقوع نظرها على ما استوطن يده ، تصلبت في مكانها و لم تفارق نظراتها الجامدة كفه ، لم يكن صعبا على سينا رؤية المفاصل البارزة و العظام ، المغطاة بالجلد المحترق ، كانت حاله تبدو كمن قام بغطس يده داخل قدر من القطران الساخن

" اتلف جلد كفه .. كـ كليا "

خوفها و ارتباكها جعلها تتردد كثيرا ، قبل ان تقرر حقا و تمرر اصابعها برفق على المناطق المشوهة من كفه متأوهة كمن اصابته العلة ، دقات قلبها تتسارع مع كل لمسة ، اعتصرت شفتها السفلى بقوة

"مـ ما هذا ؟ "

لفتت نظرها تلك الكتابة السوداء الغريبة على معصمه

" انها تبدو تماما .. مثل تلك على مقبض السيف "

' صحيح ، السيف من الحلم و .. '

فتحت عينيها على نطاق واسه و تجمدت في مكانها كمن اصابته صاعقة

"مـ مستحيل "

اسقطت نظرها على كيران الغارق في سباته بصدمة ثم تراجعت زاحفة نحو الخلف كمن رأى شبحا مرعبا

" يـ يستحيل ان يكون هو .. "

ابتلعت ريقها بصعوبة

" حـ حامل السيف المقدس "

ولان النقطة التي خلصت لها صادمة جدا لم تدرك سينا انها على وشك السقوط من الحافة الا بعد حين ، تشبثت بلحاف السرير بقوة

" الى اين ستهربين الان ؟ "

ارتفع صوت ساخر و تردد في ذهنها

" فور معرفته لحقيقتك سيقضي عليك دون ان يرمش حتى "

" او ربما لا .."

" انه يحتضر الان ، ان تركته على هذه الحال سيموت عندها- "

" يموت ؟ " علّقت سينا

' صـ صحيح ، ان تركته على هذه الحال سيموت حتما ، هذا جيد لي ، سأعيش حرة طليقة و لن يهدد احد حياتي '

اقتربت سينا منه ببطء ثم قربت اصبعها من انفه تحاول استشعار تنفسه لحظتها دغدغ نفسه الساخن الخافت اصابعها فأظلم وجهها

" عليه ان يموت "

ابتلعت ريقها ثم لفت اصابعها حول رقبته

" يجب ان يموت "

ضغطت و ضيقت الخناق على رقبته ببطء تراقب بعينين قاتمتين و تستمع بإذعان للصوت الشيطاني يهمس في اذنيها كما لو كانت منومة مغناطيسيا

' نعم افعل ذلك لن يكون هناك سبب للعيش ما دام حيا '

' ايليا انت تستحق ان تعيش لكن الاشرار امثاله لا يسمحون بذلك'

' اخنقه ايليا '

' الاشرار امثاله يجب ان يموتوا '

' اقتله '

' ايليا '

" ر- رجاء، لا تجبرني "

فجأة و دون سابق انذار اخترقت كلماتها الخائفة و أيقظت ذهنها المنوم

" مـ ما الذي كنت .. "

رفعتهما عن عنقه بسرعة ثم حدقت سينا في يديها المرتجفتين بفزع كما لو كانتا ملطختين بالدماء بعدها اسقطت نظرها على وجه كيران المنكمش بألم

" كـ كيران "

' ما الذي يراه ؟ ما الذكرى التي تجعله بهذا الضعف ؟ '

قربت يدها المرتعشة بفضول و حاولت لمس جبهته و في اللحظة التي حطت فيها اطراف اناملها و لامست جلده

انتقلت تلك الذكرى كشرارة كهربائية ، صداع مؤقت انتشر في رأسي اغلقت على اثره عيناي بإحكام ثم استطعت بعده رؤية مشهد ما ، مشهد غريب عن ذاكرتي ، الشخصان الجاثيان على الارض في الزاوية المظلمة كانا رجلا و امرأة ، لم تكن الملامح واضحة ، فقط ظهورهم ما استطعت رؤيته

و الصوت ، صوت الرجل لم يبدو مألوفا البتة لكنه كان صارما جدا

" انها الطريق التي اخترتها ، لا تتردد ، المنا لحظة عابرة و ستنجلي لكن ألمك مختلف ، امضي في طريقك ، سأكون فخورا بك مهما فعلت كيران ، فقط ان وعدتني بأن تضحيتنا لن تذهب هباء "

و قبل ان ادرك ذلك تلاشى المشهد مع تلك الكلمات الاخيرة التي استمر صداها يرن في اذني و عندما فتحت عيني ببطء

شعرت به ، الالم ، قلبي على وشك الانفجار ، مثل طعن سكين ساخن و حتى قبل ان اتمكن من التنفس بشكل طبيعي انهمرت الدموع الفاترة التي لم اعلم سببها على خدي بغزارة

" يا الهي ! هـ هل ولجت الى ذاكرته للتو ؟! "

' لـ لم يرى احد هذا ، صحيح ؟ اماه ما كل هذا انا لا اريد ان اتعفن في السجن و ايضا .. '

" ما هذا الان ؟ انت .."

اشارت اليها بأصبعها ثم استرسلت تفرغ ما في جعبتها صارخة

كنت اخطط للمغادرة ، تركك خلفي ، ما معنى هذا ؟ الاعيب القدر ليست لدي رغبة في الخوض فيها بعد الان

لماذا ؟

لماذا علي حمايتك الان ؟ الا يفترض ان نكون اعداء ، اذا لماذا يلقي بك القدر امامي فجأة و ببساطة ؟

لعلمك ، أستطيع فعلها ، استطيع تركك تهلك او ..

ربما لا

انا لا استطيع

ألهذا السبب تنام بأريحية بينما ألدُّ اعدائك بجانبك ؟

انا لا اريدك ان تقتلني و لا اريدك ان تستمر في التنفس لكنني في المقابل لا اريد ان أؤذي احدا ، انا لا اريد ان احرم احدا من حياته حقا ، انا بذلت جهدا لأكون شخصا جيدا لكنه اقوى مني

ما الذي علي فعله ؟

انا اريد ان أُحب ايضا

انا لا اريد ان اخيف احدا لأنني اخاف نعم اخاف ، اخاف من نظرات الجميع و هروبهم بعيدا ، استمر في الصراخ

لست الفاعلة

اقسم انني لست الفاعلة ،

لكن لا احد يستمع ، لا احد

لا اريد ان اموت

لا اريدك ان تموت

هل تفهمني يا بطل القصة المأساوية ؟ هل تشعر بي ، يا سيدي حامل السيف المقدس ؟

ضحكت سينا على حالها ساخرة ثم تمتمت :

" مؤكد انني جننت ، اخاطب جثة "

اخذت نفسا عميقا ثم زفرت بينما تفكر داخليا

' بدأت افقد السيطرة بالفعل ان عالجته الان تلك تضحية كبيرة ، لكن حتى ان فقدت السيطرة الكاملة هو حامل السيف المقدس ..'

' لا بأس ، أليس كذلك ؟ '

" حسنا "

صفعت خدها بقوة ثم شمرت عن ساعديها و صرخت مخاطبة اياه

" ستشرح ، كل شيء ، استعد لأنك ستتلقى الصفع و اللكم ، لن اسمح لك بالموت هكذا ، لن تكون بطل هذه القصة ، ليس و انا هنا ، لن اسمح ، هل تسمعني كيران كينجي ، ابصق على وجهك بصقة اسطورية "

" ايها اللعين انا صغيرة على ان تتم مناداتي بالأرملة "

2022/08/19 · 82 مشاهدة · 9446 كلمة
جوليا
نادي الروايات - 2025