“المحاكمة.”
“بالضبط!”
صرخ بيتليغيوس وهو يصفع المنشور على جدار الكهف قبل أن يضرب بقبضته وصف إميليا الشخصي، لينتشر الدم في كل مكان.
هذا المجنون المؤذي لذاته، الثمل بالألم والدم، قد دنّس صورة إميليا الورقية.
“إن كان يتطابق، خذوها! وإن لم يتطابق، فلتُترك! إن ثبت أنها وعاءٌ مناسبٌ للساحرة، فسنقبلها في جَماعَتِنا! لا بد أن تبدأ المحاكمة!”
“وأنت تطلب مساعدتي؟”
“نعم، صحيح! لقد تواصلت مع آخرين، لكن أشك أن أولئك الكفرة سيستجيبون! الغضب وحده قد يُشكل احتمالًا، لكنها بعيدة حاليًا عن هذه الأمة… لذا، نحن وحدنا من سيغادر!”
بقلبٍ مملوء بالواجب ودموعٍ غزيرة تنهمر من عينيه، يغرز بيتليغيوس قبضته المضرجة بالدماء في فمه، يمتص جراحه. تمزق زوايا فمه بينما تغرس أسنانه في يده، ممزقةً جلده ولحمه في عرض مروّع ومنفر.
لكن سوبارو يُجبر نفسه على تحمل المنظر بإرادة من فولاذ، ويتظاهر بالهدوء.
“هل تمانع إن أتيت معك؟ رغم أني لا أعرف التفاصيل، يا كاردينال.”
“أوه، إذًا سترافقني بلطف! آه! آآآآه! كم هو مفرح، مفرح، مفرح، مفرح جدًا جدًا جدًا جدًا جدًا جدًا جدًا جدًا جدًا جدًا جدًا…!”
“أنت تتحمس أكثر من اللازم، وأنا فقط قلت إني قادم.”
ابتسامة سوبارو الساخرة كانت حقيقية.
بعد أن هز رأسه مرات كادت أن تخلعه، أعاد بيتليغيوس قدميه إلى وضعهما الصحيح والتفت، مولّيًا ظهره لسوبارو.
“ننطلق فورًا! لقد أعطيت أصابعي تعليمات أثناء الرحلة… سنتّحد معهم ونتوجه إلى إقليم ماذرز. ثم سنتبع إرشاد الإنجيل!”
“مفهوم… ولكن، ما هي المحاكمة؟”
“سؤال وجيه. إنها اختبار لتحديد مدى ملاءمة الوعاء لروح الساحرة… أي اختبار لتحديد ما إن كان ذلك الوعاء يمتلك القوة، والجودة، والأهم، المؤهلات لاحتضان روح الساحرة!”
رد سوبارو على الشرح غير المفيد بإيماءة عارفة.
هو لا يعرف التفاصيل. لكن بالمقارنة مع الوقت الذي قضاه في العذاب دون معرفة أي شيء عن ساتيلا إميليا، فهذا أفضل بما لا يُقاس. ويبدو أن هذا يعني أنه سيكون له دور مع إميليا مرة أخرى.
رغم أن الأمر يتضمن أيضًا—
“الآن، الآن الآن! ننطلق! نختبر! إن كان الوعاء مناسبًا، فإن ظهور الساحرة بات وشيكًا! فرصة بعد قرون طويلة لنملأ مقاعدنا كافة!”
“إذا نزلت الساحرة ساتيلا هنا، فهل الوعاء…؟”
“يُستشهَد! لكن، ذلك أمر موقر! موقر لدرجة أني كنت سأقبل بالدور لو كان ممكنًا! لو كانت ذاتي صالحة لاحتواء روح ساتيلا، لتحملت جميع صور المعاناة التي لا تُقدّر من أجل رؤيتها مجددًا!”
“إذًا، تُمحى. هكذا ببساطة.”
تمتم سوبارو وهو يتبع بيتليغيوس الذي بدأ في السير.
لم تصل تلك الهمهمة الخافتة إلى أذن بيتليغيوس، المنعزل في عالمه الخاص—
“أوه، هكذا إذًا؟”
—ولم يلاحظ المجنون ابتسامة ناتسوكي سوبارو المظلمة.
يغرس السيف في جسدهم الهزيل، يلفّه.
الارتداد من طرف السيف يخبره أنه قطع شيئًا حيويًا.
وبنفس مبحوح خفيف—
“لن تصدقني إن قلت لك هذا، لكن…”
“ل، م…؟”
“كنت أظنك من الأفضل بين جماعة لا تُطاق، بيتي-سان.”
عيناه تتسعان من الصدمة وهما تنظران بأسى إلى سوبارو.
ظلت الصدمة معه بينما سقط ببطء إلى الوراء، وسوبارو يسحب السيف من صدره. تسبب الزخم في تراجعه إلى الخلف. تنفس بعمق.
عند قدمي سوبارو، يرقد بيتليغيوس روماني-كونتي في بركة من الدماء. بيتليغيوس، يحتضر، قلبه قد دُمر على يد سوبارو شخصيًا.
“كان من الصعب جدًا ترتيب هذا كله. رغم جنونك، أنت دقيق بشكل مبالغ فيه. صدقًا، علقت كثيرًا.”
“ماذا، ت…ق…و…ل؟”
“أتحدث عن كل التجارب والأخطاء التي تطلبها وصولي إلى هذه النقطة. حتى مع التخطيط، كان تأمين ورقة رابحة أمرًا محفوفًا بالمخاطر. لا تتصور كم أنا مرتاح الآن.”
بدأ بيتليغيوس يزحف، يحاول حشد ما تبقى له من قوة، لكن جسده لا يسعفه، يزحف للخلف كمن يفر من الموت. سوبارو لا يحتاج لفعل شيء. بيتليغيوس لن يعيش طويلًا.
“في البداية، لم أستطع رؤية اليد الخفية، وأصبت بالذعر. والتعامل مع أصابعك كان مشكلة بحد ذاته… الآن، أشعر أني حققت شيئًا.”
“غغ، آااه…”
الدماء المتدفقة من بيتليغيوس تمثل آخر قطرات حياته. تتزايد حدتها بدلًا من التوقف، بينما يشاهده سوبارو ينزف وهو يكشف كل شيء، بأسلوب العقل المدبر.
اليد الخفية السوداء، اللامرئية.
مساعدو بيتليغيوس وجسمه الاحتياطي، الأصابع. وقدرته على الانتقال إليها، امتداد حياته من خلال “الامتلاك”.
باستخدامه الكامل لكل ذلك، كان بيتليغيوس التجسيد الحقيقي لـ”الاجتهاد” في محاولته محاصرة إميليا. إسقاطه تطلب جهدًا جبارًا. في الواقع، تطلب من سوبارو أكثر من أربعمائة محاولة من التجربة والخطأ.
“ما يجعلك أكثر شخص تحدثت معه في حياتي. أعلم أن الأمر مجنون وغير متوازن، لكني أشعر بأنك نوعًا ما… صديق.”
“ماذا تقول… ماذا تقول ماذا تقول ماذا تقول هل تقول هل تقول؟!!”
في الرمق الأخير، يدخل الغضب الشديد إلى جسده المشرف على الموت. يوجه كل قوته نحو نفسه، ليعدل جسده ويقف. يبصق الدم — فعليًا — من فمه، وعيناه المحتقنتان تفتحان على اتساعهما وهو يواجه سوبارو.
“خائن! خائن رفض حب الساحرة! لا يمكن، لا يمكن، أن تُغفَر!!”
يمد بيتليغيوس يده الملطخة بالدماء.
هو لا يفعل ذلك لتنشيط اليد الخفية. لا فائدة من ذراع غير مرئية عندما يمكن رؤيتها. ما يتمسك به بيتليغيوس هو—
—شروط الروح الشريرة “بيتليغيوس روماني-كونتي” لسرقة جسد آخر. عملية امتلاكه لأجساد ذوي الأصول الروحية.
ولا يوجد سوى شخص واحد هنا تنطبق عليه تلك الشروط—
“جسدك هو!!”
“لي!” هكذا ينوي بيتليغيوس القول، لكن سوبارو يكتفي بالتنهيد.
يتقدم إليه بخطى هادئة، ويركله في وجهه المحتضر. قوة الركلة أطاحت ببعض أسنانه — مصدومًا، تراجع بيتليغيوس.
لم يستطع أن ينتقل إلى هذا الجسد المفترض أنه قابل للسرقة.
رد سوبارو لم يكن بالكلمات، بل برفع يده اليسرى — حيث يظهر ضوء أحمر خافت على أصابعه.
إنه كائن يُدعى “روح صغيرة”.
دخل في عقدٍ مع ناتسوكي سوبارو، الذي يمتلك أساسًا روحيًا، أداة لطيفة لإضاءة الطرق المعتمة.
بيتليغيوس لا يمكنه امتلاك أجساد الروحيين المتعاقدين مع الأرواح. من يعلم كم موتًا تطلب من سوبارو حتى يكتشف هذه النقطة.
“كانت أطول ثلاثة أيام في حياتي. رغم أن علاقتنا من منظورك كانت قصيرة…”
“ناتسوكي سوبارووووووو!!”
“لقد استهدفت إميليا. -ندمك مضمون.”
صرخ بيتليغيوس صيحة كراهية، بينما سوبارو يركله في صدره ويضرب بالسيف على وجهه. غاص النصل في جمجمة بيتليغيوس، محطمًا دماغه وحياته. توقفت صرخات الموت القاسية. اتكأ سوبارو على السيف، متنهدًا.
رغم أن المعركة كانت قصيرة زمنيًا، لكنها من منظور سوبارو كانت طويلة جدًا. تسرب إليه شعور بالإنجاز والفراغ في آنٍ واحد.
“هممم؟ يبدو أنك أنهيت أمرك بالفعل.”
بعد فترة صمت، خاطب صوتٌ سوبارو.
استدار، ليجد ظلًا ضخمًا يشق طريقه بين الشجيرات — وحش ذو فراء أسود ورأس أسد وأربعة أطراف مرعبة. من يتحدث ليس الوحش، بل الفتاة الجالسة على ظهره، تنظر إلى سوبارو نظرة ماكرة.
“أجل، انتهيت. شكرًا، مي لي.”
“لا عليك. أنت تدفع لنا، واهتممت بإلسا. لكن، هل أنت متأكد من هذا؟ ظننتهم أصدقاءك.”
“ربما. لو لم يحاول قتلي في النهاية، ربما كنا سنُعدّ أصدقاء رغم فارق العمر، لكنه حاول قتلي، لذا… للأسف، خارج التصنيف.”
بينما يمسح الدماء عن وجهه بكمّه، قال سوبارو لمي لي. وضعت إصبعها على ذقنها.
“همممم. أنا لا أحاول قتلك، فهل يعني هذا أننا أصدقاء؟”
“حسب المنطق، نعم. أنا وأنت أصدقاء، مي لي.”
“آااه، يا سعادة قلبي! الآن، عندما تعدّين بترا-تشان والباقيات، صار لدي أصدقاء كثيرون!”
صفقت مي لي يديها بفرح، تتمايل وهي تجلس على الوحش. سلوكها الطفولي جعل سوبارو يرفع حاجبه، وحديثها عن الأصدقاء أدهشه.
“همم، مفاجأة فعلًا. لأني، بصراحة، ما توقعت يكون عندك أصدقاء.”
“كان عندي. لكن قتلتهم كلهم.”
قالت مي لي وهي تبتسم ابتسامة خفيفة، دون أي أثرٍ للذنب.
قتلتهم. على الأرجح كانوا زملاء عمل. كان سوبارو يظن أن لديها بعض جوانب الطفولة، لكن يبدو أن أخلاقها مشوهة فعلًا. فهي أخت إلسا، بعد كل شيء.
“على كل حال، مساعدتك كانت لا تُقدّر بثمن. بدونك، ما كنت لأقتل جميع الأصابع وحدي.”
“لا تشغل بالك. لكن، هل كان من الضروري توظيفنا؟ كان بإمكانك الاستعانة بفريق أنسب، مثل الفرسان.”
“ما كنت لأحقق جزءًا من هدفي لو فعلت.”
“هدف؟”
أمالت مي لي رأسها محاولة سبر أغوار أفكار سوبارو. لكنه لم يعطِ أي توضيح، فقط ابتسم وقال:
“ما تبقى من الحديث للكبار فقط. وأنتِ، كطفلة، لا حاجة لكِ بسماعه، مي لي.”
“آه! يا إلهي، تعاملني كطفلة! لا يهمني أمرك بعد الآن، أنا انتهيت، لا أباااااالي!”
قالت مي لي بغضب، ليرد الوحش بزئير كما لو أُغضب بسببها.
ها هي تُحرّض وحشها عليه. وبعد كل ما بذله أخيرًا لقتل بيتليغيوس، لا يرغب أبدًا أن تنتهي هذه المحاولة بالفشل.
بدأ سوبارو يعمل جاهداً لإرضاء مزاج مي لي وتلطيفه، كمن يلعق حذاء وليّ أمره.
بعد بضعة أيام من بدء الانتخاب الملكي، طرأ تغيير كبير على أراضي لوجنيكا.
أكبر تغيير كان انسحاب الدوقة كروش كارستن، المرشحة الأقوى، من السباق — رغم أن الشخص الوحيد الذي كان يعرف الحقيقة كاملة هو سوبارو.
لأن كل آثار هذه المسماة “كروش” قد مُحيت من العالم، أُزيلت إلى جانب حقيقة وجودها، وعدّل العالم سجلها ليُظهر أنها لم تكن موجودة قط.
مما يعني أن الانتخابات الملكية كانت دائمًا تتكون من أربعة أشخاص، وأن ذكريات أنصار الدوقة كارستن قد تم التلاعب بها، ليصبحوا من أنصار فرقٍ أخرى.
“يا رجل، ضباب الحوت الأبيض مخيف فعلًا. يمحو سجلات الناس كأنهم لم يكونوا.”
لا أحد يعلم لماذا لا يؤثر ذلك على سوبارو فقط. لكن، بما أن سوبارو نفسه لا يشعر بأي شيء غريب، فإن الأمر مجرد مصدر إزعاج له مع ظهور تناقضات غريبة خلال محادثاته مع الآخرين